هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحلّ مكان المعلم في العملية التعليمية؟

لا يمكن للذّكاء الاصطناعيّ أنّ يحلّ محلّ التّعليم، لكنّه يُمكن أن يُحسِّنه، فحتّى المتفائلين بتكنولوجيا الذّكاء الاصطناعيّ يتردّدون في القول إنّ التّدريس يجب أن يُترك للرّوبوتات، لكن هناك نقاش حول رسم الحدود.

كان مُعلّم العلوم دانيال تومبسون مؤخّرًا خلال صباحٍ ربيعيّ ضمن أكاديميّة رون كلارك في أتلانتا، يتنقّل بين طلّابه في الصّف السّادس، يراجع أعمالهم ويدير مناقشاتهم حول دروس اليوم عن الطّقس والماء، وكان لديه مُساعد؛ ذكاء اصطناعيّ يعمل بالأوامر الصّوتيّة يستدعي التّطبيقات والفيديوهات التّعليميّة على سبّورات ذكيّة كبيرة.

وعندما سأل طالب: «هل هناك حيوانات لا تحتاج إلى الماء؟» وجّه تومبسون السّؤال إلى الذّكاء الاصطناعيّ، وخلال ثوانٍ، ظهر أمام الصّفّ شرح مصوّر عن الجرذ الكنغريّ.

يُدعى المُساعد الصّوتيّ لتومبسون: (أوريجين – Origin)، وهو نتاج عالم الكمبيوتر ساتيا نيتا الذي أسّس شركة (ميرلين مايند – Merlyn Mind) بعد سنوات عمل طويلة في (آي بي إم – IBM)، إذ حاول إنشاء أداة ذكاء اصطناعيّ يُمكنها تعليم الطّلّاب مباشرةً، وفشل في ذلك. كان المشروع السّابق يعتمد على (آي بي إم واتسون – IBM Watson)، نموذج الذّكاء الاصطناعيّ الّذي اشتُهر بتفوّقه في برنامج المُسابقات الشّهير [جيوباردي (الخطر المحيق) – Jeopardy].

ورغم نجاح واتسون في البرنامج، إلّا إنّه لم يكن جيدًّا في تدريس الطّلّاب! وبعد خمس سنوات، وصرف مئة مليون دولار في هذه الجهود، اعترفت آي بي إم بالهزيمة عام 2017، إذ يقول نيتا: «لقد أدركنا أنّ التّكنولوجيا ليست جاهزة بعد، وما زالت كذلك حتّى الآن».

منذ إطلاق (أوبن إيه آي – OpenAI) لنموذج الذّكاء الاصطناعيّ (تشات جي بي تي -ChatGPT) في تشرين الثّاني/نوفمبر 2022، بدأت مجموعة متزايدة من أدوات الذّكاء الاصطناعيّ بدخول ميدان التّعليم، ومعظم هذه الأدوات عبارة عن روبوتات دردشة تعتمد على نماذج لغة ضخمة مدرّبة على كمّيّات هائلة من البيانات لفهم استفسارات الطّلّاب والرّدّ عليها بطريقة مُحادثة مرنة ومحدّدة، إذ يمكن لهذه الرّوبوتات: إنشاء اختبارات، تلخيص النّقاط الرّئيسيّة في نصّ مُعقَّد، تقديم خطوات رسم المُعادلات الجبريّة، تقديم ملاحظات على المسودّات الأولى للمقالات، والقيام بعدّة مهام أخرى.

بعض الأدوات متخصّصة في موضوعات مُعيّنة مثل: (رايت آيبل – Writable) و (فوتوماث – Photomath)، بينما يُقدّم البعض الآخر مُساعدة تعليميّة شاملة، مثل: (سوكراتيك – Socratic) الّذي أنشأته جوجل، و (خانميجو – Khanmigo) الّتي تُعدّ أداة تعاون معتمدة على الذّكاء الاصطناعي أنشأتها أوبن إيه آي بالاشتراك مع أكاديميّة خان، وهي مُنظّمة غير ربحيّة تُقدّم دروسًا عبر الإنترنت في مجموعة متنوّعة من المواضيع الأكاديميّة.

مع انتشار المزيد من الأدوات الاصطناعيّة وتحسُّن قدراتها، يعتقد عدد قليل نسبيًّا من المراقبين أنّ التّعليم يمكن أن يبقى خاليًا من الذّكاء، في حين أنّ أشدّ المتفائلين بالتّكنولوجيا يتردّدون في قول أنّ التّدريس يجب أن يُترك للرّوبوتات. ويدور النّقاش بالفعل حول المزيج الأفضل!

تركّز الشّكوك حول الذّكاء الاصطناعيّ غالبًا على استخدام الطّلّاب للتّكنولوجيا من أجل تجاوز المجهود، وعلى ميل الذّكاء الاصطناعيّ لتقديم معلومات حتّى لو كانت خاطئة في سعيه للإجابة عن كلّ استفسار. ويمكن التّخفيف من هذه المشكلة (وليس القضاء عليها) من خلال برمجة الرّوبوتات لتستند إلى موادّ دراسيّة مُدقّقة. إنّما هناك تحدٍّ أصعب يواجه الذّكاء الاصطناعي في خضمّ التّعليم الفعّال، ألا وهو جذب وتحفيز الطّلّاب.

يقول نيتا إنّ هناك شيئًا (عميقًا) للغاية في التّواصل البشريّ يسمح للمعلّمين الأحياء باكتشاف ومعالجة أمور مثل الارتباك وتراجع الاهتمام بسرعة خلال الوقت الفعليّ.

ينضمّ نيتا إلى خبراء آخرين في التّكنولوجيا والتّعليم الذين يعتقدون إنّ أفضل استخدام للذّكاء الاصطناعيّ هو تعزيز وتوسيع نطاق عمل المعلّمين، وهذه الرّؤية تأخذ أشكالًا مختلفة؛ إنّ هدف أوريجين، على سبيل المثال، هو تسهيل تفاعل المُعلّمين مع الطّلّاب أثناء التّنقّل بين التّطبيقات والموادّ التّعليميّة الرّقميّة، فبدلًا من البقاء بجانب الحاسوب، يمكن للمعلّمين التّحرُّك في الصّفوف والتّفاعل مع الطّلّاب، وصولًا إلى أولئك الّذين يأملون الاختفاء في المقاعد الخلفيّة.

ويحاول آخرون تحقيق هذه الرّؤية في التّعليم من خلال استخدام الذّكاء الاصطناعيّ لتدريب المُعلّمين على التّفاعلات الأكثر إنتاجيّة مع الطّلّاب، أو زيادة عدد الطّلّاب الّذين يمكن للمعلّم التّفاعل معهم.

في النّهاية، يتصوّر هؤلاء الخبراء اندماجًا يُستدعى فيه الذّكاء الاصطناعيّ ليكون مُعزِّزًا لقوّة المعلّمين البشريّين الّذين يقومون بالمهمّة فعليًّا.

تحسين التّفاعل بالذّكاء الاصطناعيّ

جرّب آلاف المعلّمين على مستوى البلاد أوريجين خلال العام الدّراسيّ 2023-2024، بما في ذلك تومبسون وثلاثة معلّمين آخرين في أكاديميّة رون كلارك. تقع هذه المدرسة الخاصّة جنوب أتلانتا، وتُدعم فيها الرّسوم الدّراسيّة بشكل كبير لأغلبيّة الطّلّاب ذوي الدّخل المنخفض، وهي موجودة في مستودع من الطّوب جُدِّد ليبدو مثل مدرسة هوغوورتس ذات ارتفاع منخفض، مع برج ساعة مُتقن وتنين مجنّح يتربّع على قمّة المدخل الرّئيسيّ.

بينما كان تومبسون يتحرّك بين طلّابه، كان يحمل جهاز تحكّم من بُعد رفيع مع ميكروفون يُفعّل بالضغط على زرّ، يستخدمه لإعطاء أوامر لبرنامج الذّكاء الاصطناعيّ. أخبر تومبسون الذّكاء الاصطناعيّ في البداية لضبط مؤقّت مُدّته ثلاث دقائق ظهر على اللّوحة الذّكيّة، ثمّ بدأ في طرح أسئلة مراجعة سريعة من درس سابق، مثل: «ما الّذي يُسبّب الرّياح؟» وعندما لم يتذكّر الطّلّاب التّفاصيل، طلب تومبسون من الذّكاء الاصطناعيّ عرض رسم بيانيّ لتدفق الهواء النّاتج عن التّسخين غير المتكافئ لسطح الأرض.

ثم صعد تومبسون في لحظة ما على طاولة عمل طالب أثناء مناقشة طبقة السّتراتوسفير (الغلاف الجوّيّ العلويّ)، مُدّعيًا ادّعاءً غير صحيح أنّها الطّبقة الجوّيّة الّتي تحدث فيها معظم التّغيّرات الجوّيّة، فقط ليرى ما إذا كان أيّ طالب سيكتشف خطأه، وقد ذكّره العديد من الطّلّاب أنّ الأحوال الجوّيّة تحدُث في طبقة التّروبوسفير (الغلاف الجوّيّ السّفليّ). بعد ذلك، استدعى مؤقّتًا جديدًا وبدأ درسًا عن الماء، مطالبًا مساعده (الذّكاء الاصطناعيّ) بإيجاد فيلم تعليميّ قصير عن النّظم البيئيّة للمياه العذبة والمالحة. وبينما كان تومبسون يتنقّل في الصّفّ، كان يوقف الفيديو خلال بعض الأحيان ويطرح أسئلة على الطّلّاب عن المحتوى الجديد.

أظهرت الدّراسات حول تفاعل الطّلّاب، بما في ذلك المراجعات البحثيّة الّتي صدرت عام 2018 في مجلّة (السّلوك الاجتماعيّ والشّخصيّة – Social Behavior and Personality) وفي 2020 ضمن (الصّحيفة الأستراليّة لتعليم المُعلّمين – the Australian Journal of Teacher Education)، أهمّيّة هذا التّفاعل للنّجاح الأكاديميّ.

يقول نيتا: «بالرغم من امتلاك الذّكاء الاصطناعيّ للعديد من نقاط القوّة، إلّا أنّه ليس جيدًّا بمهمّة تحفيزك على الاستمرار في شيء لا تملك اهتمامًا كبيرًا به. والسّؤال الأهمّ المُتعلِّق بجميع روبوتات الدّردشة هذه هو: إلى متى سيستمرّ أيّ فرد في التّفاعل معها؟» يدّعي نيتا أنّه في التّجارب الخاصّة بواتسون، تجاهل الطّلّاب محاولات الذكاء الاصطناعي للتّفاعل معهم.

بعد وقت قصير من إطلاق خانميجو ضمن مؤتمر (تيد -TED) خلال ربيع عام 2023، أشار مؤسّس أكاديميّة خان ورئيسها التّنفيذيّ سال خان إلى أنّه من بين جميع التّدخلات التّعليميّة المدروسة فإنّ الدّروس الخصوصيّة قد قدّمت بعضًا من أكبر التّحسينات لأداء الطّلّاب، لكن ليس هناك عدد كافٍ من المعلّمين الخصوصيّين ولا مال كافٍ لدفع رواتبهم، خاصّةً في ظلّ الفاقد التّعليميّ النّاجم عن جائحة كوفيد-19.

كانت مسؤولة التّعلُّم الرّئيسيّة في أكاديميّة خان، كريستِن دي كيربو، نائبة رئيس أبحاث التّعلّم وتصميمه للنّاشر التّعليميّ بيرسون عام 2016 عندما تعاونت مع آي بي إم من أجل ابتكار واتسون الّذي وصفته بأنّه (تكنولوجيا مختلفة) تعتمد بشكل كبير على الرّدود المكتوبة مُسبقًا، على عكس التّفاعلات غير المكتوبة الّتي يمكن أن يجريها الطّلّاب مع الذّكاء الاصطناعيّ المولَّد.

لا يُجيب خانميغو على أسئلة الطّلّاب مباشرةً، بل يبدأ بطرح أسئلة، مثل ما إذا كان لدى الطّالب أيّ أفكار حول كيفيّة العثور على الإجابة، ثمّ يرشدهم نحو الحلّ خطوة بخطوة، مع تقديم تلميحات وتشجيع.

رغم رؤية خان التوسّعيّة الّتي تلتمس مُعلّمين شخصيّين (مذهلين) لكلّ طالب على هذا الكوكب، تُخصّص دي كيربو لخانميغو دورًا تعليميًّا أكثر تحديدًا؛ فحسب قولها، عندما يعمل الطّلّاب بشكل مُستقلّ على مهارة أو مفهوم ما لكنّهم يتعثّرون أو يعلقون في فجوة معرفيّة، «نريد أن نساعد هؤلاء الطّلّاب على الخروج من هذا التّعثر».

جرّب نحو 100,000 طالب ومعلّم نموذج خانميغو خلال العام الدّراسيّ 2023-2024 في المدارس على مستوى البلاد، الامر الذي ساعد في تحديد أيّ حالات هذيان قد تحدث لدى الرّوبوت، وتوفير الكثير من المحادثات بين الطّلّاب والرّوبوت لتحليلها من قبل دي كيربو وفريقها. وتوضح دي كيربو: «إننا نبحث عن أشياء مثل التّلخيص، وتقديم التّلميحات، والتّشجيع».

لم يُعرف بعد مدى قدرة خانميغو على سدّ فجوة التّفاعل في الذّكاء الاصطناعيّ. ووفقًا لدي كيربو، تُخطّط أكاديميّة خان لإصدار بعض البيانات الموجزة حول تفاعلات الطّلّاب مع الرّوبوت في وقت لاحق من صّيف 2024.

ومن المُخطّط أن يقوم باحثون من طرف ثالث لاحقًا بتقييم تأثير المُعلّم على التّعلّم. وستستغرق خطط الباحثين الخارجيّين وقتًا أطول.

تغذية راجعة مزدوجة الاتّجاهات

كانت منظّمة (ساجا التّعليميّة -Saga Education) غير الرّبحيّة أيضًا تُجرّب، منذ عام 2021، التّغذية الرّاجعة من الذّكاء الاصطناعيّ لمساعدة المعلّمين على تحسين تفاعلهم وتحفيزهم للطّلّاب. فقد جرّب فريق ساجا عام 2023، بالتّعاون مع باحثين من جامعة ممفيس وجامعة كولورادو، إدخال نصوص جلسات التّدريس في نموذج ذكاء اصطناعيّ دُرّب لمعرفة متى كان المعلّم يُشجّع الطّلّاب على شرح تفكيرهم، وتحسين إجاباتهم، أو بدء مناقشة أعمق. ثم حلّل الذّكاء الاصطناعيّ عدد المرّات الّتي قام فيها كلّ معلّم بهذه الخطوات.

وجد الفريق، عبر تتبّع قرابة 2,300 جلسة تدريس على مدى عدّة أسابيع، أنّ المعلّمين الّذين استخدم مدرّبوهم التّغذية الرّاجعة من الذّكاء الاصطناعيّ أضافوا بشكل ملحوظ المزيد من هذه التّوجيهات لتشجيع تفاعل الطّلّاب.

تستكشف ساجا إمكانيّة جعل الذّكاء الاصطناعيّ يُقدّم بعض التّغذية الرّاجعة مباشرةً للمعلّمين، لكنّها تفعل ذلك بحذر لأنّه وبحسب برِنت مايلن نائب رئيس البحث والتّطوير في ساجا التّعليميّة: «يعدّ وجود مُدرّب بشريّ في الحلقة أمر ذو قيمة كبيرة بالنّسبة لنا».

يتوقّع الخبراء أنّ دور الذّكاء الاصطناعيّ في التّعليم سيزداد، وأنّ تفاعلاته ستصبح أكثر إنسانيّةً. ففي وقت سابق من عام 2024، أطلقت أوبن إيه آي وشركة (هيوم إيه آي – Hume AI) النّاشئة ذكاءً اصطناعيًا (ذكيًّا عاطفيًّا) يُحلّل نبرة الصّوت وتعبيرات الوجه لاستنتاج مزاج المستخدم والرّدّ بعبارات (تعاطف) متوازنة.

ومع ذلك، وفقًا لأستاذ علوم الكمبيوتر في جامعة براون، مايكل ليتمن الذي يشغل أيضًا منصب مدير قسم نظم المعلومات الذّكيّة في مؤسّسة العلوم الوطنيّة: «قد لا يتمكن حتّى الذّكاء الاصطناعيّ العاطفيّ من تحقيق التّفاعل الكامل مع الطّلّاب».

يقول ليتمن إنه بغضّ النّظر عن مدى إنسانيّة المحادثة، فإنّ الطّلّاب يدركون على مستوى أساسيّ أنّ الذّكاء الاصطناعيّ لا يهتمّ بهم حقًّا، أو بما يقولونه في كتاباتهم، أو ما إذا كانوا سينجحون أم يفشلون في الموادّ. ونتيجةً لذلك، لن يهتمّ الطّلّاب حقًّا بالرّوبوت وما يفكّر فيه.

لقد أظهرت دراسة نُشرت في حزيران/يونيو ضمن مجلّة (التّعلّم والتّعليم – Learning and Instruction) أنّ الذّكاء الاصطناعيّ يمكنه بالفعل تقديم ملاحظات جيّدة على مقالات الطّلّاب، لكن ما لم يتّضح تمامًا هو ما إذا كان الطّلّاب سيبذلون الجهد ويُبدون الاهتمام بدلًا من الاستعانة بالرّوبوت لإنجاز مهامهم في حال أصبح الذّكاء الاصطناعيّ هو الجمهور الرّئيسيّ لأعمالهم.

ويضيف ليتمن: «هناك قيمةً هائلةً للمكوّن الإنسانيّ في العلاقة التّعليميّة، وعندما يُزال البشر من المعادلة، يُفقد شيء ما».

  • ترجمة: نِهال عامر حلبي
  • تدقيق علمي ولغوي: عبير ياسين
  • المصادر: 1