امشِ كالمصريّين ولكن إيّاك والجلوس مثلهم

تُظهر الهياكل العظميّة للكتّاب من مصر القديمة وجود تدهورٍ بسبب الجلوس والرّكوع.

ربّما كان قدماء المصريّين قد أدركوا المخاطر المهنيّة التي يتعرّض لها العاملون في المكاتب اليوم: آلام الظّهر والرّقبة. وذلك وفقًا لتحليل الهياكل العظميّة للكتّاب، الذين كانوا يجلسون منحنيين لفترات طويلة من الزّمن.

يقول الباحثون: إنّ 1% فقط من السّكّان كانوا يعرفون القراءة والكتابة عندما تمّ بناء الأهرامات في البلاد. كان الكتّاب في مصر القديمة أفرادًا مرموقين في المجتمع، وكانوا غالبًا ما يؤدّون مجموعة من الأدوار الإداريّة والمهام الكتابيّة، مثل حفظ السّجلّات الرّسميّة وإدارة الأسر وتسجيل الضّرائب. تشير الفنون والكتابة في ذلك الوقت إلى أنّ الكتّاب غالبًا ما كانوا يجلسون متربّعين أو في وضع الرّكوع لفترات طويلة أثناء الكتابة بأقلام رفيعة تشبه الفرشاة (وفي وقتٍ لاحق أقلام القصب)، ويسجّلون ملاحظات مهمّة على أوراق البرديّ ودفاتر الملاحظات الفخّاريّة التي تسمّى أوستراكا أو الألواح الخشبيّة. بدلًا من استخدام الهيروغليفيّة باهظة الثّمن، والتي كان من المعتاد أن ينقشها المتخصّصون على الآثار، كانوا يكتبون عادةً بالخطّ الهيراطيقي المتّصل، وهو خطّ أبسط وأكثر ملاءمة لتدوين الملاحظات اليوميّة.

على الرّغم من أنّ هذا العمل لم يكن يتطلّب جهدًا بدنيًّا-وكان من المرجّح أن يكون وظيفة مطلوبة في ذلك الوقت -تشير دراسة نُشرت الآن فيscientific reports.

إلى أنّ تبنّي هذه الأوضاع الكتابيّة المتكرّرة باستمرار قد ألحق الضّرر بالهياكل العظميّة للكتّاب.

بعد فحص رفات العشرات من الكتّاب، وجد الباحثون أدلّة على الإجهاد والحمل الزّائد في المفاصل في الرّكبتين وعظام مشط اليد في الأصابع والإبهام والكاحلين والكتفين والفكّ السّفليّ وعظم التّرقوة الأيمن والرّقبة والظّهر. غالبًا ما كانت الهياكل العظميّة تعاني أيضًا من هشاشة العظام في الرّكبة اليمنى، والتي يظنّ مؤلّفو الدّراسة أنّها جاءت من وضع ساقهم اليمنى بشكل متكرّر في وضع القرفصاء للكتابة.

وتقول المؤلّفة المشاركة في الدّراسة فيرونيكا دوليكوفا، عالمة المصريّات في المعهد التّشيكي لعلم المصريّات: “إنّ الورقة المنشورة هي في الواقع أوّل نظرة ثاقبة في مسألة النّشاط البدنيّ للكتّاب”.

حلّلت دوليكوفا وزملاؤها بقايا هياكل عظميّة ل 69 فردًا من الذّكور، 30 منهم معروفون أنّهم كتّاب بسبب الوثائق المكتوبة من مقابرهم. وقد دُفنوا جميعًا في مقبرة موقع هرم أبو صير في مصر، بين عامي 2700 و2180 قبل الميلاد.

وبشكلٍ عام، فحص الفريق 1767 سمة هيكليّة وقارنوها بعظام من بقايا المصريّين القدماء الذين لم يكونوا كتّابًا.

وبالمقارنة مع بقايا غير الكتّاب، كانت هناك علامات ذات دلالة إحصائيّة على أنّ مفاصل الكتّاب كانت متآكلة طوال حياتهم -وهو دليل، كما يدّعي العلماء، على الضّغوط المهنيّة النّاجمة عن جلوس هؤلاء الأفراد متربّعين أو راكعين ورؤوسهم منحنية للأمام معظم الوقت.

وكما أنّ الجلوس وراء المكتب والانحناء إلى الأمام للنّظر إلى الشّاشة يمكن أن يؤذي العمود الفقريّ والرّقبة، فمن المرجّح أن يكون الكتّاب المصريّون القدماء قد تعرّضوا لضغوط جسديّة مماثلة من الانحناء على ورق البرديّ لفترة طويلة جدًا.

يبدو أنّ الجلوس لفترات طويلة في وضع غير مناسب لا يزال يؤثّر على الهيكل العظميّ البشريّ بنفس الطّريقة، كما تقول بيترا بروكنر هافيلكوفا، عالمة الأنثروبولوجيا في المتحف الوطنيّ في براغ. يمكن أن يسبّب تنكّس العمود الفقري والتهاب المفاصل والألم اللّاحق “.

تقول هانا نافراتيلوفا، عالمة المصريّات في جامعة أكسفورد، والتي لم تشارك في العمل: “إنّ البحث الجديد يضيف بالتّأكيد شعورًا بالإحساس الجسديّ إلى حياة الكاتب”. وتشير نافراتيلوفا إلى أنّ هناك حاجة إلى بيانات إضافيّة لتعزيز البحث، لكنّها تؤكّد أيضًا على قيمة القدرة على نقل فهمنا لحياة الشّعب المصريّ القديم إلى ما هو أبعد من الصّور الفنّيّة. وتضيف: “الآن نخرج من هذا الأمر، ونتتبّع المواقف الفرديّة التي كان يعمل فيها الكتّاب. .. [للعثور على] التّأثير المقابل على الأجسام التي قامت بهذا النّوع من النّشاط”.

يقول جو ويجنر، أمين القسم المصريّ في متحف الآثار والأنثروبولوجيا بجامعة بنسلفانيا: “إنّ الرّوابط بين عيّنات الهياكل العظميّة والسّجل التّاريخيّ لهويّة ومهنة الأفراد في أبو صير تشكّل فرصة فريدة للنّظر إلى خطوط متعدّدة من الأدّلة”.

كما يرغب أيضًا في رؤية مجموعة بيانات أكبر. ويهدف مؤلّفو الدّراسة بعد ذلك إلى تأكيد نتائجهم من خلال النّظر في بقايا مماثلة من موقع دفن مختلف.

ويضيف ويجنر: “من عجيب المفارقات أنّ المصريّين كثيرًا ما تحدّثوا عن كيف كانت مهنة الكتّاب هي المهنة الأكثر استحسانًا، ولكن يبدو أنّ حتّى ذلك كان مصحوبًا ببعض المخاطر الصّحّيّة”.

  • ترجمة: ريمة جبارة
  • المصادر: 1