حكاية عن أحد أفتك الفيروسات التي شهدتها البشرية. ذاك الذي كان يحصد من أوروبا وحدها نحو نصف مليار شخص
هذا المقال حكاية عن أحد أفتك الفيروسات التي شهدتها البشرية. ذاك الذي كان يحصد من أوروبا وحدها نحو نصف مليار شخص كل مائة سنة منذ القرن الرابع عشر حتى الثامن عشر. نهاية هذه الحكاية سعيدة لحسن حظنا؛ تكللت فيها جهود منظمات الصحة بإبادة فيروس الجدري بعد ألف سنة تقريبًا من محاولة علاجه الأولى في الصين.
لكن ملحمة الجدري تلك خلفت ريبة في نفوس بعض العلماء، لأن عينات من الفيروس ظلت في بعض المختبرات الأحيائية، لا سيما التي في الاتحاد السوفيتي الذي تفكك واجتاحته الفوضى. فكرة اجتياح الجدري للعالم من جديد، أو تحويله إلى سلاح أحيائي، مرعبة جدًا لأن حملات التلقيح الشامل توقفت منذ ثمانينيات القرن السابق.
العنوان: انقراض الجدري المؤجل!
ما زال أصل الجدري غير معروف بدقة، غير أن الأطباء الصينيين في القرن الرابع تركوا تفاصيل دقيقة لمسار المرض. فقالوا إن الفيروس ينتشر عبر الهواء، وإن الناس يعانون البرد والحمى الشديدة والآلام المبرحة بعد أسبوع من الإصابة. ومع أن الحمى تتضاءل بعد أيام قليلة، فإن الفيروس أبعد ما يكون عن النهاية. إذ تظهر بثور حمراء في الفم، ثم على الوجه فسائر الجسم. وهي بثور مملوءة بالقيح، والألم الذي تسببه أشبه بالوخز. يموت ثلث المصابين بالجدري تقريبًا، أما الناجون فتغطيهم البثور وتترك وراءها ندوبًا غائرة دائمة.
كان أقدم شاهد على مرض الجدري هياكل عظمية تعود لفايكنغ القرن السابع. فقد كان في العظام أجزاء من جينات الفيروس. وظهر الفيروس في مناطق أخرى في القرون التالية، وعاث بها فسادًا. فوصل آيسلندا عام 1241، وقتل 20 ألف شخص من سكانها ال70 ألفًا. ويقدر أن حالات الوفاة بالجدري في أوروبا في الأعوام 1400-1800 بلغت نصف مليار حالة تقريبًا في كل قرن. وكان من بين الضحايا أعيان مثل ملك روسيا القيصر بيتر الثاني، وملكة إنجلترا ماري الثانية، وملك النمسا الإمبراطور جوزيف الأول.
أما سكان الأمريكيتين فلم يعرفوا الجدري حتى بلغ كولومبوس منطقة البحر الكاريبي. إذ جلب الأوروبيون -عن غير قصد- سلاحًا أحيائيًا وهب للغزاة أفضلية ساحقة. لم يكن للسكان الأصليين أي مناعة من الجدري، لذا ماتوا بالجملة حين أصابهم الفيروس. في العقود التالية لوصول الفاتحين الإسبانيين في مطلع القرن السادس عشر، يقدر أن ما نسبته 90% من السكان الأصليين في أمريكا الوسطى ماتوا بالجدري.
العلاج والوقاية
فيرجح أن أول طريقة فعالة لمنع انتشار الجدري اكتشفت في الصين، في سنة 900 تقريبًا. تمثلت تلك الطريقة بأخذ قيح بثور المصابين وفركها في شق يصنع في جسم السليم (وأحيانًا كان يعطى كمسحوق يستنشق). سميت تلك العملية بالتجدير، وكانت تسبب ظهور بثرة واحدة على ذراع الذي يلقح. بمجرد أن تتقشر البثرة، يمسي الذي خضع لعملية التجدير محصنًا ضد الجدري.
هذه كانت الفكرة في الأقل، والحقيقة أن التجدير كان يسبب ظهور بثور أخرى بنسبة غير نادرة، ويموت 2% ممن يخضع لهذه العملية. على الرغم من ذلك فإن احتمالية الوفاة من التجدر (2%) أقل جدًا من احتمالية الوفاة من الإصابة بالجدري (30%). لذا انتشر التجدير في أرجاء آسيا، وانتقل شرقًا عبر الطرق التجارية حتى بلغ القسطنطينية في القرن السابع عشر. صار الأطباء الأوروبيون يطبقون التجدير بعد أن بلغتهم أنباء نجاحه. مع أنه لاقى معارضة دينية على أساس أن الرب وحده من يقرر من ينجو من الجدري. صد الأطباء هذه الشائعات بتجربة، أجراها الطبيب الإنجليزي زابديل بويلستون. طبق بويلستون عملية تجدير عامة عام 1721 في أثناء جائحة الجدري، فجدَّر المئات من العامة، والنتيجة أن النسبة الأعلى من الناجين من الجدري كانت من المجموعات التي خضعت للتجدير. ومن شواهد قبول التجدير ما حدث في الحرب الأهلية الأمريكية، إذ أمر جورج واشنطن أن يخضع كل جنوده لعملية التجدير، ليقي جيشه «أكبر مصيبة يمكن أن تصيبه».
لكن لم يعرف أحد آنذاك السبب العلمي لفعالية عملية التجدير، لجهلهم بالفيروسات وآلية عمل جهازنا المناعي، فقد تطور هذا العلاج بالتجربة والخطأ أساسًا. لكن طبيبًا بريطانيًا يسمى إدوارد جينر سمع شائعات عن أن الحلابات (النساء اللاتي يحلبن الحيوانات) لا يصبن بالمرض أبدًا. من المعروف آنذاك أن الأبقار تصاب بمرض جدري البقر، وهو قريب جدًا من الجدري الذي يصيبنا، لذا تساءل جينر إن وفر الاحتكاك بالأول بعض المناعة. واستخرج إثر ذلك قيحًا من يد حلابة تسمى سارة نيلمس، ولقح به صبيًا في ذراعه. أصيب الصبي ببثور صغيرة ظهرت على ذراعه، ولكنه لم يعانِ أعراضًا أخرى. وبعد ستة أسابيع، أخضع جينر الصبي لعملية تجدير، بالجدري البشري بالطبع، ولم تظهر بثور على الصبي البتة. وذلك كان أول لقاح آمن للجدري.
نشر جينر ورقة بحثية عام 1798 عرَّف فيها الناس بهذه الطريقة الجديدة والآمنة للوقاية من الجدري. وسمى هذه الطريقة التلقيح vaccination، تيمّنًا بالاسم اللاتيني لجدري البقر Variolae vaccinae. ولم تمضِ ثلاث سنين حتى لُقِّح 100 ألف شخص من الجدري في إنجلترا وحدها، وانتشر اللقاح في طول البلدان وعرضها. وفي السنين التالية، حذا الأطباء حذو جينر واخترعوا لقاحات لفيروسات أخرى بالطريقة ذاتها. وهكذا حدثت ثورة طبية من تناقل شائعات عن حلابات.
راجت اللقاحات أيّما رواج، وعانى الأطباء في تلبية الطلب الشديد عليها. في البداية، كانوا يستخدمون القيح من أذرع الملقحين، فيلقحون بها الآخرين. ولكن جدري البقر كان منتشرًا في أوروبا، ويصعب الحصول على الفيروس في المناطق الأخرى من العالم. حتى جاء ملك إسبانيا كارلوس بحل جذري، هو بعثة تلقيح لآسيا والأمريكيتين. بناء على هذا وُضِع 20 يتيمًا على سفينة إسبانية، ولُقِّح أحدهم قبل أن تنطلق الرحلة. ظهرت البثور على اليتيم بعد ثمانية أيام، ثم القيح. ومن هذا الشخص استخرج لقاح ليتيم آخر، وهكذا بدأت سلسلة تلقيحات. وكلما بلغت السفينة ميناءً وفّرت البعثة القيح اللازم لتلقيح السكان هناك.
عملية الإبادة
عانى الأطباء في القرن التاسع عشر وهم يحاولون اكتشاف طريقة تلقيح أفضل من الجدري. فجعل البعض العجول معامل تلقيح، بإصابتها بجدري البقر مرارًا وتكرارًا. واختلط جدري البقر بجدري الأحصنة (الذي يسببه فيروس قريب من الأول) مع الوقت. ولكن مع اكتشاف طبيعة الفيروسات في مطلع القرن العشرين، هجر الباحثون العجول وأقبلوا على صنع دفعات لقاحات من الخلايا. فصاروا يستطيعون إنتاج دفعات كبيرة منه، بنقاوة مضمونة. طلبت الدول لقاحات كافية للمباشرة بحملات استئصال للمرض. ولكن العمل كان بطيئًا ومتقطعًا حتى قياسًا بزمنه، بدليل أن الجدري قتل ما يقدر بنحو 300 مليون شخص في القرن العشرين.
أخيرًا في خمسينيات القرن الماضي، بدأت منظمة الصحة العالمية في التفكير في إمكانية أن تستطيع حملة منسقة إبادة الجدري كليًا. استند أنصار تلك الفكرة إلى الطبيعة الأحيائية للفيروس، إذ يصيب فيروس الجدري البشر حصرًا، خلافًا لفيروسي غرب النيل والإنفلونزا مثلًا. لذا إن أمكن تنسيق إزالته من البشر كلهم، فليس علينا أن نخشى عودته بعد الاختباء في خنزير أو إوزة مثلًا. فضلًا عن أن الجدري مرض واضح، تظهر أعراضه في غضون أيام من الإصابة، خلافًا لبعض الفيروسات -مثل فيروس نقص المناعة البشري- التي قد لا تكشف عن نفسها إلا بعد سنين. وهكذا يمكن للعاملين في الصحة العامة تحديد مناطق انتشار المرض بدقة ومعالجتها.
مع ذلك، ظلت فكرة القضاء على الجدري موضع شك. لأن مشروع الاستئصال وإن كان ممكنًا فإنه سيتطلب سنوات عمل آلاف العمال المدربين، الذين عليهم الانتشار في معظم أنحاء العالم، والعمل في العديد من الأماكن النائية والخطيرة. ثم إن العاملين في مجال الصحة العامة حاولوا إبادة أمراض أخرى -مثل الملاريا- سلفًا وفشلوا. فماذا تغير في حالة الجدري؟
باء المشككون بالفشل، وأطلقت منظمة الصحة العالمية البرنامج المكثف لاستئصال الجدري عام 1965. وزُوِّدَ العاملون في مجال الصحة العامة بحقن جديدة يمكنها توصيل لقاح الجدري بكفاءة أعلى من الحقن التي كانوا يستخدمونها. كذلك أدرك العاملون في مجال الصحة العامة عدم ضرورة تحقيق الهدف المستحيل المتمثل بتطعيم كل شخص على وجه الأرض، بل عليهم فقط تحديد حالات تفشي الجدري الجديدة واتخاذ إجراءات سريعة لعلاجها. فوضعوا المصابين في الحجر الصحي ولقحوا الناس في القرى والبلدات المجاورة. انتشر الجدري كالنار في الهشيم، ولكنه سرعان ما أُخمِد بالتطعيم. غلب الفيروس في المعركة تلو المعركة، حتى سجلت الحالة الأخيرة في إثيوبيا عام 1977. وصار العالم خاليًا من الجدري (من جائحاته).
مخاوف الخبراء
في أثناء المحاولات التي جرت لإبادة الفيروسات، اكتشفنا أنها تستطيع تحمل أشد الظروف. مثلًا عندما انتشر العاملون في الصحة العامة في العالم ضمن حملة إبادة الجدري مطلع القرن العشرين، كان العلماء يُكثِّرون الفيروس في المختبرات بغرض دراسته. وحين أعلنت منظمة الصحة العالمية أنها نجحت في القضاء على الجدري عام 1980، حفظت تلك العينات المختبرية. لذا كل ما تتطلبه عودة الجدري، وعكس الإبادة، أن يحرر أحدهم تلك العينات بالخطأ.
قررت منظمة الصحة العالمية أن تلك العينات المختبرية لا بد أن تدمر في النهاية. ولكنها سمحت بالاحتفاظ بها في الوقت الحالي، ليبحث العلماء في الفيروس في ظروف محكمة. وكان هناك مختبران سمح لها بالاحتفاظ بتلك العينات من الجدري، واحد في مدينة نوفوسيبيرسك السيبيرية في الاتحاد السوفيتي، وآخر في المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها في أتلانتا بولاية جورجيا. واستمر البحث في الجدري ثلاثة عقود بإشراف الأعين الساهرة لمنظمة الصحة العالمية. تعلم فيها العلماء كيف يهندسون الحيوانات المختبرية لتصاب بالجدري، ما يتيح لهم فهم المرض بنحو أفضل. فحللوا جينوم الفيروس، وصنعوا لقاحًا أحسن، ووجدوا أدوية واعدة لتكون علاجًا له. عندها دار نقاش في منظمة الصحة العالمية بشأن الوقت المناسب لتدمير الفيروس أخيرًا.
رأى بعض الخبراء ألا داعي للانتظار. فما دام فيروس الجدري موجودًا، فإن هناك احتمالية أن ينفذ ويقتل الملايين، بغض النظر عن دقة مراقبته. وربما يحاول الإرهابيون استخدامه سلاحًا أحيائيًا. هذه الاحتمالية مخيفة جدًا، كون مناعة العالم ضد الجدري تتضاءل لأننا ما عدنا نلقح ضده.
ولكن بعض العلماء ارتأى المحافظة على ما تبقى من الفيروس. قائلين إن حملة الإبادة ربما لم تنجح كليًا. فقد أفشى منشقون سوفيتيون في التسعينيات أن حكوماتهم أعدت مختبرات لإنتاج سلاح أحيائي من الجدري، سلاح يمكن أن تحمله الصواريخ إلى أهداف محددة. وتلك المختبرات هُجِرت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. ولا يعلم أحد مصير الفيروسات التي استُخدِمت في تلك البحوث. من يدري، لعل عالم فيروسات سوفيتي سابق باع مخزون فيروس الجدري إلى حكومة أو منظمة إرهابية!
قال معارضو إبادة الفيروسات المحفوظة إن الخطر من انتشار جديد للجدري، وإن كان صغيرًا، يسوغ المزيد من البحث. فما زلنا نجهل الكثير عنه. مثلًا فإن الجدري يصيب نوعًا واحدًا هو البشر، في حين أن أقاربه من فيروسات الأرثوبوكس تصيب العديد من الأنواع. فما الذي يجعل الجدري بتلك الانتقائية؟ وإن حدث تفشٍ للجدري في السنين القادمة، فإن التشخيص السريع سينقذ نفوسًا تعد فلا تحصى. وبغية أن يخترع العلماء طرق تشخيص حديثة، لا بد من التأكد أنها تفرق بين الجدري وغيره من فيروسات الأرثوبوكس، ولن يوصلهم إلى هذا اليقين غير اختبار على فيروس جدري حي. فضلًا عن أنهم يستطيعون استخدام تلك الفيروسات لاختراع أنواع أفضل من اللقاحات والأدوية المضادة للفيروسات.
- ترجمة: موسى جعفر
- تدقيق علمي ولغوي: فريال حنا
- المصادر: 1