يؤكد مسح للدماغ تشكل الذكريات لدى الرُضّع في تحدٍّ للمعتقدات الراسخة

تُعدّ سنواتنا الأولى وقتًا لسرعة التعلم، غير أنه من الطبيعي أننا لا نستطيع أن نستحضر تجارب بعينها من تلك الفترة، وهي ظاهرة تعرف بفقدان الذاكرة الطفولي.
لقد دحضت دراسة حديثة نُشِرَت في دورية العلوم في وقت سابق من عام 2025 هذه الافتراضات عن ذاكرة الأطفال، مشيرةً إلى أن العقول الصغيرة يمكنها بالفعل تشكيل الذكريات، لكن يبقى السؤال: لماذا تصبح هذه الذكريات صعبة الاسترجاع في وقت لاحقٍ من الحياة؟
في حواره مع وكالة فرانس برس، صرّح نيك تورك-براون، أستاذ علم النفس بجامعة يال وكبير مؤلفي هذه الدراسة: «لقد كنت دائمًا مفتونًا بمثل هذه البقعة الفارغة والغامضة الموجودة في حياتنا الشخصية». ففي عمر السنة تقريبًا، يصبح الأطفال متعلمين غير عاديين للغة والمشي، وقادرين على التعرف على الأشياء، وفهم الروابط الاجتماعية، وما إلى ذلك، مضيفًا: «غير أنه لا نتذكر شيئًا من تلك التجارب، الأمر الذي يخلق نوعًا من عدم التطابق بين اللدونة المذهلة والقدرة على التعلم».
افترض سيغموند فرويد، مؤسس التحليل النفسي، أن الذكريات الأولى تُكبَت على الرغم من رفض العلم لفكرة عملية الكبت النشطة. وعلى النقيض من ذلك، ركّزت النظريات الحديثة على الحُصين، وهو أحد أجزاء الدماغ الذي يعد مهمًّا للذاكرة العرضية، الذي لم يكتمل نموه في مرحلة الطفولة.
وقد أثار اهتمام تورك-براون الحلول التي توصلت إليها الأبحاث السلوكية التي أُجريَت في وقتٍ سابق، إذ إن الأطفال لا يمكنهم التحدث عن ذكرياتهم قبل تعلم اللغة، بل يحدّقون طويلًا في الأشياء المألوفة الأمر الذي يعطي تلميحًا مهمًّا.
كما أوضحت الدراسات التي أُجريَت مؤخرًا على الجرذان والتي ترصد نشاط الدماغ أن الإنغرامات، وهي أنماط خلوية يمكنها تخزين الذكريات، تتشكل في حُصين الطفل، لكن لا يمكن الوصول إليها على مدار الوقت على الرغم أنه يمكن تفعيلها باستخدام تقنية تسليط الضوء على الخلايا العصبية لإثارتها.
لكن حتى الآن، ما زال اقتران مراقبة الأطفال بتصوير الدماغ أمرًا بعيد المنال، إذ إن الأطفال معروفون بعدم القدرة على البقاء ساكنين أثناء الخضوع للتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي وهو الجهاز الذي يتتبع تدفق الدم لـ”مراقبة” نشاط الدماغ.
الأنماط المخدّرة
للتغلب على هذا التحدي، استخدم تورك-براون وفريقه طرقًا حسَّنها مختبره على مدار السنين وذلك من خلال العمل مع العائلات لدمج اللهايات والبطانيات والحيوانات المحشوة، وحمل الرُضَّع بهدوء باستخدام الوسائد، إضافةً إلى استخدام أنماط خلفية مخدّرة من أجل إبقائهم منشغلين. غير أن الاهتزاز المحتوم أدى إلى تكوّن صور ضبابية استدعى التخلص منها. لكن الفريق تمكن من تحقيق ذلك عبر تشغيل مئات الجلسات.
في المجمل، شارك 26 طفلًا، نصفهم يبلغ عمره أقل من سنة والنصف الآخر أكثر من سنة، إذ أُجري عليهم مسح دماغي في بحث عن مهمة الذاكرة التي اقتُبِسَت من دراسات للبالغين. ففي البداية، عُرِضَت عليهم صور لوجوه، ومشاهد، وأشياء. ثم بعد رؤيتهم لتلك الصور، عُرِضَت عليهم صورًا سبق مشاهدتها لكن إلى جانب أخرى جديدة.
عقَّب تورك-براون بقوله: «لقد قسنا مقدار الوقت الذي قضوه في النظر إلى الشيء القديم الذي رأوه من قبل، واعتبرنا ذلك مقياسًا لذاكرتهم لتلك الصورة».
وبمقارنة نشاط الدماغ أثناء التشكيل الناجح للذكريات مقابل الصور المنسية، أكّد الباحثون أن الحُصين يعمل بنشاط في تشفير الذكريات منذ سن مبكرة. وقد اتضح ذلك بالنسبة لـ 11 طفلًا من أصل 13 طفلًا ممن تبلغ أعمارهم أكثر من سنة، على عكس الأطفال دون عمر السنة. كما وجدوا أن الرُضّع الذين حققوا أفضل أداء في مهام الذاكرة أظهروا نشاطًا أكبر في النشاط الحُصيني. وقد أشار إلى ذلك تورك-براون بقوله: «ما يمكننا التوصل إليه بدقة من دراستنا هذه أن الأطفال لديهم القدرة على تشفير ذكريات عرضية في منطقة الحُصين بدايةً من عمر السنة تقريبًا».
ذكريات منسية
في مقالة افتتاحية مرافقة لدورية العلوم، ذكر كل من آدم رامارسان وباول فرانكلاند أنه «لا ينبغي التقليل من براعة نهجهم التجريبي». لكن ما تبقى دون حل هو مصير تلك الذكريات الأولى: فهي ربما لم تُعزَّز بالكامل لتخزينها في الذاكرة طويلة المدى، أو ربما بقيت ولكن ما زال يصعب الوصول إليها.
لكن تورك-براون يشتبه في الاحتمال الأخير، لذا يقود الآن دراسة جديدة لاختبار ما إذا كان الأطفال الرضع والأطفال الصغار والأكبر سنًّا قادرين على التعرف على مقاطع فيديو مسجلة من وجهة نظرهم الخاصة عندما كانوا أطفالًا أصغارًا.
وتشير النتائج الأولية والمبدئية إلى أن الذكريات ربما تدوم حتى نحو سن الثالثة قبل أن تتلاشى. وما أثار اهتمام تورك-براون على وجه الخصوص احتمالية أن يعاد تنشيط تلك البقايا يومًا ما في مرحلة لاحقة من الحياة.

  • ترجمة: زينب محمد الأصفر
  • تدقيق علمي ولغوي: عبير ياسين
  • المصادر: 1