هل بإمكاننا الفصل بين الحياة العملية والحياة الشخصية بشكل كامل؟

تقدم الشبكة التلفازية Apple بمسلسلها الجديد severance تصورًا عن إحساسنا بأنفسنا عند الفصل التام بين الحياة العملية والشخصية .

كيف ستبدو الحياة إذا ذهبنا بالتوازن بين العمل والبيت إلى الحد الأقصى؟ هذه هي الفكرة الرئيسية لمسلسل الخيال العلمي severance الذي انتهى عرضه للتو على شبكة Apple.

إذ يمكن للموظفين في شركة Lumon الخيالية الخضوع لإجراء يتم فيه تقسيم وعيهم وذكرياتهم بين العمل والمنزل، وهكذا لن يتذكر الموظفون الذين خضعوا لعملية الفصل تلك أيّ شيء عن حياتهم في العمل في اللحظة التي ينتهي عملهم فيها، ولا يتذكرون بالمقابل أيّ شيء عن حياتهم الشخصية خلال ساعات العمل.

يتسبب هذا الفصل بزعزعة الحياة سريعًا، فعند فصل الذكريات العملية لشخص ما، يتم ضمنيًا إنشاء شخص جديد هو أشبه ما يكون بعبد يعيش فقط للعمل.

ورغم إخبار هؤلاء الموظفين الجدد (عبيد العمل) أنهم يستطيعون مغادرة المكتب حينما يشاؤون، لكنهم يُعادون للعمل من قبل نظرائهم في الحياة المنزلية الذين لا يريدون خسارة عملهم، كما لا يجب عليهم تحمل رعب العيش في المكتب فقط.

يمكننا القول أن أغلبنا لن يخضع لمثل هذا الإجراء لو أتيح لنا، فالعمل هو المكان الذي نبني فيه صداقات مع أشخاص قد يساعدوننا على المستوى الشخصي أيضًا، ومع ذلك فالنموذج الذي يقدمه هذا العمل يثير تساؤلات فلسفية عميقة عن العلاقة بين ذاكرتنا وأنفسنا.

إذ يعتبر كل من العمل لإحداث فرق في العالم، وفي ذات الوقت السعي لتأمين منزل، أو محاولة العيش بشكل مستقر بينما نتعامل مع مشاكل الصحة النفسية، من المشاكل التي نواجها في العشرين والثلاثين من عمرنا، بل ونتعامل معها بشكل يومي.

إن هذا المقال جزء من سلسلة مقالات Quarter Life التي تكشف هذه المشاكل وتسعى لحلها، وإليكم بعض الأمثلة عن المقالات الأخرى:

  • قد تؤثر أخبار الحرب على صحتك النفسية، فإليك بعض النصائح للتأقلم.
  • هل ستجلب كلبك إلى المتجر؟ لماذا يجب أن يكون بائعي التجزئة ودودين أكثر مع الحيوانات الأليفة.
  • لم يتوجب على مديرك الاهتمام بصحتك النفسية من وجهة نظر منطقية.

يتناول هذا العرض الفكرة القائلة أن الشخصية مرتبطة بالتجارب الفردية الواعية، ومفهوم (الأنا ) يمثل خلاصة تجاربي وأفكاري ورغباتي الشخصية، مما يعني أن سرد ذكرياتي هو ما يشكل حياتي.

وعلى حد تعبير أحد موظفي Lumon”

(إن التاريخ هو ما يجعلنا أشخاصًا)، ويتقاطع مع هذه الطريقة في فهم الهوية الشخصية حديث فلسفي مهم حول الذاكرة، وغالبًا ما يرتبط بمفكر القرن السابع عشر جون لوك.

فالأسئلة حول الشخصية مثل: ما الذي يجعلك أنت أنت وليس شخص آخر؟، كانت مهمة جدًا في عصر لوك حينما كان من المسلّم به أن هنالك حياة أخرى بعد هذه الحياة الفانية وفقًا للعديد من مفكري القرن السابع عشر (حيث المسيحية تشكل لهم جزءًا من نسيج المجتمع، والإلحاد تقريبًا غير وارد ) ولكن من بالضبط سيعيش تلك الحياة؟.

جاءت إجابة لوك أنه: بالنسبة للجميع (يترافق الوعي مع التفكير دائمًا، حيث أن ما يجعل الفرد يكون نفسه هو اعتقاده الذاتي) ، بمعنى آخر أنا ما أعرفه، مضيفًا (إن الوعي قد يمتد ليشمل كل فعل أو فكرة في الماضي، وهو بذلك يصنع الهوية الفردية).

وحسب لوك فإن كل شيء أتذكر فعله – وما أتذكره فقط – هو إنجازي، وبالتالي طالما أمتلك تجارب واعية في الحياة الأخرى (وأتذكر تجاربي الماضية) ، فأنا ما زلت موجودًا.

إن قضية فصل الحياة العملية بشكل حرفي مهمة بالتحديد لأنها طريقة لصنع فرد جديد، وهذا الفرد يأتي للوجود أو يبدأ وعيه عند انتهاء عملية الفصل.

و بما أنه يكون واعي في العمل فقط، فهو حاضر في العمل فقط. وهذه طريقة تفكير الناس في severance.

يكون بإمكاني تجنب ضغط العمل (التسرب) في القادم من حياتي من خلال بتر نفسي منه، وأُصبح شخص آخر عند انتهاء العمل.

مشكلة لوك:

تقترح الحلقة الأولى من العمل أن الفصل الجيد لأنا _العمل عن أنا- المنزل قد يسبب مشاكل واضحة، على غرار الفلاسفة الذين استجابوا لفلسفة لوك من مفكري القرن الثامن عشر مثل جورج بيركلي وتوماس ريد، وأشاروا إلى أن تعريفه لمفهوم الشخصية كان غير مجدي.

فهل أنا لست الطفل الذي ولد يوم ميلادي، لأنني لا أتذكره؟

وهل لن أكون العجوز الذي يعيش في عام 2050 إذا لم أذكر هذا اليوم تحديدا من عام 2022 ؟

وهل أنا بريء من أي جريمة قد أرتكبها تحت تأثير الكحول لأني في النهار التالي لن أذكرها؟

قادت الأسئلة المشابهة لهذه المفكرين إلى تطوير تعليلات بديلة لما يصنع الكينونة، لم لا تكون الروح هي السبب؟

لقد قدم severance إشارات على وجود ما هو أكبر من قدرة الإنسان على التذكر.

وخلال الحلقة الأولى يذهب بطل العمل إلى المنزل ليجد أن لديه جرحًا في جبهته بسبب حادث في العمل، والذي لا يتذكره بالطبع.

وهذا نذير سوء يوضح أن عرقل ما يحدث في العمل سوف تواجهها أنت نفسك وليس شخص آخر.

إن ما يدعو للقلق أكثر هو أن الموظفين الذين خضعوا للفصل سيعرضون أنفسهم لظروف معقدة، والتي بدورها ستكون أسوأ لأنهم لا يستطيعون التذكر.

هنالك عدة أسباب وجيهة تقودنا لإدراك أن ( أنا ) أكثر مما أتذكره فقط، وقد مررت بالكثير من الأشياء التي لا أتذكرها، وكم منا يعاني لتذكر حتى اللحظات المهمة في الحياة مثل لقاءات العمل؟

و في الواقع، إن توقيت إطلاق هذا العمل مثير للاهتمام، وذلك لأنه بعد عامين من العمل من المنزل، يبدو الفصل الخالص للعمل أقل واقعية من أي وقت مضى.

إذ لا يعتبر الكثير من الناس( العمل ) هو المكتب الذي نغادر إليه كل صباح، بل هو غرفة إضافية أو طاولة مطبخ.

وخلاصة لما سبق، مع أن العديد منا يبحث عن الطرق الفعالة للفصل بين العمل والحياة الشخصية، يقدم لنا severance رسالة مهمة مفادها أنه ربما يجب علينا أن نحاول إحلال السلام بين مختلف أجزاء حياتنا بدلًا من ذلك، مما سيقودنا إلى فهم أنفسنا بشكل أعمق.

  • ترجمة: نور مخلوف
  • تدقيق علمي ولغوي: بلال سلامة
  • المصادر: 1