ما هي سرعة الجاذبية بالضبط؟
بفضل ما تم ملاحظته من الانحناءات على النسيج الزمكاني والتي تعبر عن الجاذبية، تمكن العلماء من حسم نقاش طويل الأمد حول سرعة هذه الجاذبية.
عبر التاريخ، اقترح العلماء العديد من الإجابات عن السرعة الدقيقة للجاذبية.
بشكلٍ عام، افترضوا إما أن تكون الجاذبية سرعتها لا نهائية أو أن سرعتها بنفس سرعة الضوء.
بفضل ملاحظات موجات الجاذبية على النسيج الزمكاني المسجلة في عام 2017، وجدوا أن الجاذبية والضوء يسيران بنفس السرعة.
ومن بين القوى الأساسية المعروفة في الكون (القوى النووية الضعيفة والقوى النووية القوية والكهرومغناطيسسة والجاذبية) فإن الجاذبية هي الأكثر شيوعًا والتي تجمع هذا الكون على بعضه دون أن تسحقه، وتربط بين المجرات البعيدة في شبكة كونية واسعة ومترابطة. مع أخذ ذلك في الاعتبار، فإن السؤال الرائع الذي يجب التفكير فيه هو ما إذا كانت الجاذبية لها سرعة؟ اتضح أنها بالفعل كذلك، وقد قام العلماء بقياسها بدقة.
لنبدأ بتجربة نظرية لنفترض أنه في هذه اللحظة بالذات، اختفت الشمس تماماً والتي تعد هي قوة الجاذبية كما رأى نيوتن، ونعلم أن الضوء ينتقل بسرعة ثابتة: 300000 كيلومتر في الثانية، أو 186000 ميل في الثانية من المسافة المعروفة بين الأرض والشمس (150 مليون كيلومتر، أو 93 مليون ميل)، يمكننا حساب المدة التي المستغرقة حتى نتأثر ونحن على الأرض بإختفاء الشمس. وهي ثمان دقائق و20 ثانية قبل أن تصبح السماء مظلمة تماماً.
لكن ماذا عن الجاذبية إذا اختفت الشمس؟ فلن يصبح العالم فقط مظلم بل سنفقد قوة الجاذبية القوة التي تبقي الكواكب في مدارها. لكن متى سنكتشف ذلك؟
إذا كان للجاذبية سرعة لا نهائية، فإن الجاذبية ستختفي أيضًا بمجرد أن تصبح الشمس غير موجودة. لكن ما زلنا نرى الشمس لأكثر من ثماني دقائق بقليل الوقت الذي يستغرقه الضوء للوصول للأرض، لكن الأرض ستعود إلى حركتها الطبيعية والتي تكون بخط مستقيم وبسرعة منتظمة في غياب مركز قوة الجاذبية (الشمس). من ناحية أخرى، إذا سارت الجاذبية بسرعة الضوء، فسيستمر كوكبنا في الدوران حول الشمس كالمعتاد لمدة ثماني دقائق و20 ثانية، وبعد ذلك سيتوقف عن اتباع مساره المألوف (قانون العطالة).
بالتأكيد، إذا تحركت الجاذبية بسرعة أخرى، فإن الفترة الفاصلة بين الوقت الذي تم فيه ملاحظة أن الشمس قد اختفت، وعندما لاحظ علماء الفلك أن الأرض كانت تسير في الاتجاه الخاطئ ستكون السرعة مختلفة. إذن ما هي سرعة الجاذبية؟
تم اقتراح إجابات مختلفة عبر تاريخ البحث العلمي. يعتقد إسحاق نيوتن، الذي وضع أول نظرية معقدة عن الجاذبية، أن سرعة الجاذبية لا نهائية. وكان يتنبأ بأن مسار الأرض عبر الفضاء سيتغير قبل أن يلاحظ البشر على الأرض أن الشمس قد اختفت.
من ناحية أخرى، اعتقد ألبرت أينشتاين أن الجاذبية تنتقل بسرعة الضوء وليس لحظياً كما رأى نيوتن الذي كان يتنبأ بأن البشر سيلاحظون في نفس الوقت اختفاء الشمس وتغير مسار الأرض عبر الكون. لقد بنى هذا الافتراض في نظريته عن النسبية العامة، والتي تعد حاليًا أفضل نظرية مقبولة للجاذبية، وتتنبأ بدقة شديدة بمسار الكواكب حول الشمس. تقدم نظريته تنبؤات أكثر دقة من توقعات نيوتن. إذن، هل يمكننا أن نستنتج أن أينشتاين كان على حق؟
لا، لا نستطيع. إذا أردنا قياس سرعة الجاذبية، فعلينا التفكير في طريقة لقياسها مباشرة. وبالطبع، نظرًا لأنه لا يمكننا “إخفاء” الشمس لبضع لحظات لاختبار فكرة أينشتاين، فنحن بحاجة إلى إيجاد طريقة أخرى.
وقدمت نظرية الجاذبية لأينشتاين تنبؤات قابلة للاختبار. الأهم هو أنه أدرك أن الجاذبية المألوفة التي نختبرها يمكن تفسيرها على أنها تشويه لنسيج الفضاء (الزمكان): فكلما زاد التشوه الذي تحدثه الكواكب على هذا النسيج المطاطي زادت الجاذبية. وهذه الفكرة لها عواقب وخيمة. أي أنه يشير إلى أن الفضاء مرن، مثل سطح الترامبولين، الذي يتشوه عندما يدوس عليه الطفل. علاوة على ذلك، إذا قفز نفس الطفل على الترامبولين، يتغير هذا النسيج المطاطي ويرتد لأعلى ولأسفل.
وبالمثل، يمكن للفضاء أن “يرتد لأعلى ولأسفل” مجازًا، وبشكلٍ أدق لابد من القول أنه ينضغط ويسترخي على غرار الطريقة التي ينقل بها الهواء الموجات الصوتية. تسمى هذه التشوهات المكانية “موجات الجاذبية” وستنتقل بسرعة الجاذبية. لذا، إذا تمكنا من اكتشاف موجات الجاذبية، فربما يمكننا قياس سرعة الجاذبية. لكن تشويه الفضاء بطرق يمكن للعلماء قياسها أمر صعب للغاية ويتجاوز التكنولوجيا الحالية. لحسن الحظ، ساعدتنا الطبيعة.
قياس موجات الجاذبية
في الفضاء، تدور الكواكب حول النجوم. لكن في بعض الأحيان تدور النجوم حول نجوم أخرى. كانت بعض تلك النجوم ذات يوم ضخمة وعاشت فترة زمنية وانهارت على نفسها، مشكلةً ثقبًا أسودًا. إذا مات نجمان من هذا القبيل، فيمكن أن يكون لديك ثقبان أسودان يدوران حول بعضهما البعض. أثناء دورانها، تصدر كميات ضئيلة (وغير قابلة للكشف حاليًا) من إشعاع الجاذبية، مما يجعلها تفقد الطاقة وتقترب من بعضها البعض. في النهاية، يقترب الثقبان الأسودان بدرجة كافية بحيث يندمجان. تطلق هذه العملية العنيفة كميات هائلة من موجات الجاذبية. بالنسبة لجزء من الثانية التي يجتمع فيها الثقبان الأسودان معًا، فإن الاندماج يطلق طاقة في موجات الجاذبية أكثر من كل الضوء المنبعث من جميع النجوم في الكون المرئي خلال نفس الوقت.
في حين تم التنبؤ بالموجة الثقالية في عام 1916، فقد استغرق العلماء ما يقرب من قرن لتطوير التكنولوجيا لاكتشافه. ولاكتشاف هذه التشوهات، يأخذ العلماء أنبوبين، طول كل منهما حوالي 2.5 ميل (4 كيلومترات)، وتوجيههما بزاوية 90 درجة، بحيث يشكلان “L.” ثم يستخدمون مزيجًا من المرايا والليزر لقياس طول كلا الساقين.
سيغير إشعاع الجاذبية طول الأنبوبين بشكل مختلف، وإذا رأوا النمط الصحيح للتغيرات في الطول، فقد لاحظوا موجات الجاذبية حدثت أول ملاحظة لموجات الجاذبية في عام 2015، عندما اندمج ثقبان أسودان على بعد أكثر من مليار سنة ضوئية من الأرض. بينما كانت هذه لحظة مهمة للغاية في علم الفلك، إلا إنها لم تجب على سؤال سرعة الجاذبية.
لذلك، كانت هناك حاجة إلى ملاحظة مختلفة. وعلى الرغم من أن موجات الجاذبية تنبعث عند اصطدام ثقبين أسودين، فإن هذا ليس السبب الوحيد المحتمل. بالإضافة تنبعث موجات الجاذبية أيضًا عندما يصطدم نجمان نيوترونيان ببعضهما البعض. النجوم النيوترونية هي أيضًا نجوم محترقة تشبه الثقوب السوداء، ولكنها أخف قليلاً.
علاوة على ذلك، عندما تصطدم النجوم النيوترونية، فإنها لا تصدر إشعاعات ثقالية فحسب، بل تبعث أيضًا اندفاعاً قوياً من الضوء يمكن رؤيته عبر الكون. لتحديد سرعة الجاذبية، احتاج العلماء إلى رؤية اندماج نجمين نيوترونيين.
في عام 2017 حصل علماء الفلك على فرصتهم. اكتشفوا موجة جاذبية وبعد أكثر من ثانيتين بقليل، اكتشفت المراصد المدارية إشعاع غاما، وهو شكل من أشكال الضوء، من نفس الموقع في الفضاء نشأ في مجرة تقع على بعد 130 مليون سنة ضوئية. أخيرًا، وجد علماء الفلك ما يحتاجون إليه لتحديد سرعة الجاذبية.
ونتج عن اندماج نجمين نيوترونيين موجات ضوئية وموجات ثقالية في نفس الوقت، لذلك إذا كان للجاذبية والضوء نفس السرعة، فيجب اكتشافهما على الأرض في نفس الوقت. بالنظر إلى مسافة المجرة التي كانت تضم هذين النجمين النيوترونيين، نعلم أن هذين النوعين من الموجات قد سافروا لمدة 130 مليون سنة ووصلوا في غضون ثانيتين من بعضهما البعض.
إذن، هذا هو الجواب. تتحرك الجاذبية والضوء بنفس السرعة، ويتم تحديدهما بقياس دقيق. وهذا يثبت صحة أفتراض أينشتاين مرة أخرى، وتلمح إلى شيء عميق حول طبيعة الفضاء المطاطية ويأمل العلماء يومًا ما أن يفهموا تمامًا سبب امتلاك هاتين الظاهرتين المختلفتين تمامًا سرعات متطابقة.
- ترجمة: سوسن العليوي
- تدقيق علمي ولغوي: حسام عبدالله
- المصادر: 1