لتصبح أكثرَ سعادةً ونجاحاً، تحرّر من حلقة المتعة المفرغة
ملخص:
- استناداً إلى علم الأعصاب فإن العطاء أفضل من الأخذ، وهو الأمر الذي يؤيده الأشخاص ذوو الأداء العالي.
- أظهرت الأبحاث إصابة الكثيرين من ذوي الأداء العالي بالتوتر المصغّر الذي ينشأ من التراكم المتتالي للضغوط الطفيفة.
- تتجاوز الأنشطة المسببة للسعادة حدود الفرد مركّزةً على المحيط الخارجي، في حين تركّز الأنشطة المسببة للمتعة على إرضاء الذات.
- الأشخاص القادرون على التحكّم بالتوتر المصغّر يتمتعون بإحساس داخلي ملموس يمكّنهم من تحديد غايتهم وذلك من خلال مساعدتهم للآخرين.
(تشارلز) هو شخصٌ ذو أداءٍ عالٍ بجميع المقاييس؛ إذ بلغ أعلى المناصب التنفيذية في إحدى الشركات المرموقة في وادي السيليكون، وبعدها كانت له يدٌ في إنشاء شركةٍ أخرى مُرتقِياً فيها أرفع المناصب كذلك، لكن هذه ليست الطريقة التي يقيس بها (تشارلز) نجاحه، فقد أنشأ نسخةً شخصيةً من مخطط ڤن “Venn” لحياةٍ ذات معنى، واحتلّ عملُه جزءاً واحداً فقط من هذا المخطط. «يتضمن المخطط ثلاثة عناصر»، شاركنا (تشارلز) بالقول، وتابع: «وهي السعي نحو الشغف، وإحاطة نفسي بالأشخاص الذين أحبهم، وأن أكون ممتنًا لرحلتي في الحياة.».
نعم، إنّ العمل الذي يقومُ به مهم، ولكن التفاصيل حول سبب كونه مهمًّا بالنسبة إليه مهمةٌ كذلك، وقد أخبرنا قائلًا: «عليك أن تقوم بعملٍ ذي هدف، لكنه يبقى بلا معنى إذا لم يُنجَز بالتشارك مع الآخرين. وإذا لم تكن قادرًا على الشعور بالامتنان أو التقدير له أو حتى الاعتراف به، فعملك بأكمله بلا جدوى».
لقد التقينا ب (تشارلز) من خلال بحثنا حول أصحاب الأداء العالي، وهو بحثٌ يهدف أساساً إلى فهمِ كيفية قدرةِ بعض الأشخاص على العمل بفاعلية لمدّةٍ طويلة، لذا فقد أجرينا مقابلاتٍ مع ثلاثمئة شخصٍ صنفتهم مؤسساتهم على أنهم أصحاب الأداء العالي، (اخترنا عدداً متساوياً من الرجال والنساء من مختلف المؤسسات حول العالم).
كانت إحدى النتائج المفاجئة في بحثنا عدد الأشخاص ذوي الأداء العالي ممّن توارت في داخلهم قنابل الإجهاد الموقوتة غيرَ مدركين لذلك، فقد كنا نتوغل في العُمق خلال المقابلة قبل أن يشرَعوا بالاعتراف بمعاناتهم لأجل مواكبة كلٍّ من مسيرتهم المهنية وحياتهم الشخصية. وبعد عقودٍ من البحث، توصلنا لمعرفة نوع الإجهاد الذي قد يكابده أصحاب الأداء العالي في سبيل تحقيق أهدافهم المهنية، ولكن هناك أمرٌ مختلفٌ تمامًا قد ظهر جليًّا في أثناء حديثنا، إنّ شعور الناس بالإرهاق لم ينشأ من سببٍ أساسيٍّ واحد، بل كان تراكمًا مستمراً من الضغوط الطفيفة غير الملحوظة في لحظاتٍ عابرة، تلك التي تركت أثراً بالغاً في رفاه وسعادة هؤلاء الأشخاص الذين بدَوا وكأنهم يمتلكون كلَّ شيء، لذا فقد بدأنا نطلق على هذا مصطلح (التوتر المصغر/ Microstress).
غير أن (تشارلز) هو واحدٌ من ثُلّةٍ من الأشخاص الذين قابلناهم وبدت بشكلٍ جليٍّ قدرتهم على التحكم بالتوتر المصغر وتجاوزه أفضل من البقية، وقد أطلقنا على تلك الثُلّة مسمّى«العشرة بالمئة»، أحدُ القواسم المشتركة بين أفراد مجموعة “العشرة بالمائة” هو قدرتهم على إيجاد الغاية من أصغر اللحظات في عملهم وفي حياتهم الخاصة.
ونحن في عالمٍ نتعرض فيه باستمرارٍ لوابل الإعلانات ونخضع فيه لمتابعة مؤثري وسائل التواصل الاجتماعي الذين يحاولون إقناعنا بأن السعادة مأتاها من الممتلكات المادية والإشباع الفوري للرغبات، ونحن في عالمٍ كهذا من السهل أن نغفل عن أهمية العطاء، بخلاف أولئك “العشرة بالمئة”.
المتعة مقابل السعادة
يمكن أن يبعث العطاء للآخرين -حتى العطاء القليل- إحساسًا ملموسًا بالغاية، وهذا الإحساس ليس ناشئاً من كوننا عُلِّمنا أنّ العطاء هو الشيء الصحيح الذي ينبغي القيام به فحسب؛ بل يوجد في الواقع تفسيرٌ علميٌّ لذلك، إنه متّصلٌ بالتّمييز الذي يجريه الباحثون غالباً بين الأنشطة التي تسبِّب المتعة وتلك التي تبعث إحساسًا بالسعادة.
أنشطة “Eudaimonic” أو ما تعرف بالأنشطة المسبِّبة للسعادة هي الأنشطة التي تركِّز على الخارج ونمنح فيها أنفسنا للآخرين، يأتي هذا المصطلح مما وصفه أرسطو: «بالسعي وراء الفضيلة والتميُّز وإخراج الأفضل من داخلنا». في المقابل، تركِّز أنشطة المتعة على الداخل وتهتم بتحقيق مزيدٍ من السّعادة اللحظيَّة، فقد يكون الحصول على أحدث هاتفٍ أو تناول وجبةٍ شهية أو الفوز بعقد مبيعاتٍ جديدٍ من الأنشطة الممتعة التي لا يعدُّ أيٌّ منها سيئاً بحد ذاته، ولكن عندما يسيطر السّعي وراء المكافآت الممتعة على حياتك، ستبدأ في اتِّخاذ خياراتٍ لن تقودك إلى السعادة مطلقاً على المدى البعيد.
تُظهر الأدلة العصبية الجديدة أن الأنشطة التي تتجاوز حدود المتعة -مثل العطاء- تؤدي إلى سعادةٍ أكبر بمرور الوقت، ففي إحدى الدراسات، استُخدم التصوير بالرنين المغناطيسيّ الوظيفيّ لمراقبة النشاط العصبي في مركز المكافأة في الدماغ، وذلك بعد دفعه للتفكير حول إعطاء أو تلقي المال، عند بعض الأشخاص، حفّزت الأسئلة حول التبرع بالمال (على سبيل المثال: إذا كنت في صدد التبرع بالمال، لمن ستعطيه ولماذا؟) نشاطًا ذا مكافأة عالية، وعند أشخاص آخرين، أدت الأسئلة المتعلقة بتلقي الأموال (على سبيل المثال: إذا كنت ستجني مالاً، فعلامَ ستنفقه ولماذا؟) إلى تنشيط مركز المكافأة في الدماغ.
مع مرور الوقت، برز أمرٌ مثيرٌ للاهتمام، فعندما درس الباحثون أعراض الاكتئاب في كل مجموعة بعد مضيّ عامٍ واحد، وجدوا المشاركين الذين تحفزت أدمغتهم عند التبرع بالمال قد انخفضت لديهم أعراض الاكتئاب، في حين ظهرت عند الأشخاص الذين كافأتهم أدمغتهم على تلقي المال زيادةٌ في أعراض الاكتئاب.
في المقابل، تؤدي الأنشطة المسببة للمتعة إلى الرغبة في مزيدٍ منها، إذ يتسبب الحصول على الأشياء المادية في الرغبة في المزيد منها، وذلك ما اصطلح الباحثون على تسميته بحلقة المتعة المفرغة، لكن المكاسب التي نشعر بها من نشاط المتعة ما تلبث أن تتلاشى، ومرجع ذلك إلى سببين: (1) تطلعاتنا المتزايدة تعني سرعةَ اعتيادنا ملابسَنا الجديدة وسيارتَنا ومنزلَنا وهاتفنا وجهازَ الكمبيوتر وما إلى ذلك، ومن ثم سعينا للوصول إلى نشوة امتلاكنا للعنصر التالي؛ و (2) تجعلنا المقارنة الاجتماعية نسعى دوماً للبحث عما يمتلكه الآخرون ونرغب في تحصيله، سواءً أكان منزلًا كبيرًا أو إجازةً مرغوبة أو حتى إجراءَ مقابلاتٍ مع المؤسسات الكبرى.
إحساسٌ ملموسٌ بالغاية
لوحظ في بحثنا أنه على الرغم من امتلاك «العشرة بالمئة» للسمات المادية للنجاح -فهم أشخاصٌ تعترف شركاتهم بكونهم من ذوي الأداء المتميز ويكافَؤون وفقاً لذلك- إلا أن ذلك ليس محور هويتهم، بل إن إحساسهم بغايتهم في حياتهم ليس متعلقًّا بالمال أو الأشياء أو حتى توقعات المجتمع، ولعل هذا مما يعينهم على تجاوز ضغوط الحياة القائمة على المتعة.
في الوقت الذي تحدث فيه ذوو الكفاءات العالية في بحثنا بشغفٍ شديدٍ عن منابع غايتهم في العمل، غالبًا ما تضمن حديثهم آنذاك دورًا لعبوه وساهموا من خلاله في مساعدة الآخرين، يتخذ هذا العطاء صوراً عديدة؛ كالإقرار بمساهمة شخصٍ ما وسؤاله عن أدائه ومعناه، أو إظهار التعاطف، أو الإدلاء بملاحظةٍ صغيرة، أو مشاركة مقال. وحتى بالنسبة للشباب الذين قد يعتقدون بعدم امتلاكهم الكثير ليقدموه، فإن مجرد طلبك للإرشاد من شخصٍ ما يمكنه أن يعزز الثقة بالنفس لديه، ففي أثناء بحثنا، وجدنا كثيراً أن الناس يحرمون أنفسهم من الآثار المهمة للعطاء فقط لأجل قلة إدراكهم لما يمتلكونه ويستطيعون تقديمه.
ما تعلمناه من «العشرة بالمئة» أن العطاء للآخرين -حتى العطاء القليل- يمكن أن يبعث للإنسان إحساسًا ملموسًا بغايته؛ وذلك لأن الأنشطة التي تتجاوز المتعة تؤدي إلى سعادةٍ أكبر بمرور الوقت، ومع أن أنشطة المتعة ليست جميعاً سيئة، لكنها عندما تهيمن على حياتنا تجعلنا نتخذ خياراتٍ لن تؤدي إلى السعادة على المدى الطويل، وعلى النقيض من ذلك، فإن إيجاد الغاية -حتى في اللحظات الصغيرة في يوم روتيني- يمكن أن يغير ليس فقط شعورك حيال وظيفتك، بل حيال حياتك كذلك الأمر.
- ترجمة: مجدي عوكان
- تدقيق علمي ولغوي: دانية دويرج
- المصادر: 1