كيف نجا البشر من العصر الجليدي؟

منذ نشأة نوعنا قبل نحو 300 ألف سنة، انتشر الإنسان المعاصر في جميع أنحاء العالم، مسلحًا بالقدرة على التكيف مع المحيط.

بالإضافة إلى الموهبة الفطرية لتحمل مجموعة واسعة من المناخات، الإنسان العاقل أيضًا قادر على تحمل التغير الشديد للمناخ. في العصر الجليدي، الذي بدأ منذ ما يقارب من 115 ألف عام، نجا الإنسان من التقلبات الشديدة في الطقس التي لم يتمكن أقاربه البشر في النهاية من تحملها. كيف فعل هؤلاء البشر ذلك؟ يفتقر علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الآثار حاليًا إلى إجابة واضحة. ومع ذلك، فإن النظريات والتفسيرات المحتملة غالبًا ما تؤكد القدرات الاجتماعية الاستثنائية لجنسنا البشري وبراعته في تغيير محيطنا لصالحنا.

أزمة مناخية

لفهم كيف نجا البشر وتكيف مع العصر الجليدي، من المهم أن نقدر ما كان يتعامل معه. في الفترات الطويلة الأمد التي تسمى العصور الجليدية، انخفضت درجات الحرارة في جميع أنحاء سطح كوكبنا وغلافه الجوي، مما تسبب في تغطية الجليد القاري والكتل الجليدية لمساحات كبيرة من التضاريس. على الرغم من أن هذه الفترات عادة ما تعد إنجمادًا مستمرًا، فإن العصور الجليدية تتميز في الواقع بتقلبات متكررة في المناخ، إذ تتأرجح درجات الحرارة بين البرد والبرد القارس. في الواقع، فإن الفترة ما بين 115،000 إلى 11،700 سنة مضت، والتي يطلق عليها بالعامية «العصر الجليدي»، شهدت عدم استقرار مناخي لا يصدق.

يقول ريك بوتس Rick Potts، عالم الحفريات البشرية الذي يرأس برنامج الأصول البشرية التابع لمؤسسة Smithsonian: «لقد كانت السنوات المائة ألف الماضية وما فوق فترة من التذبذب الهائل بين البرودة والدفء في خطوط العرض العليا، وكذلك الرطوبة والجفاف في خطوط العرض المنخفضة. إن ديناميكية هذا الكوكب تجعل جميع الكائنات الحية أمام سؤال أساسي عن كيف عساها تنجو من التغير». وفي الواقع، تسببت الظروف المناخية في عواقب وخيمة للعديد من الأنواع النباتية والحيوانية، التي كافحت للتكيف مع التحولات المفاجئة في محيطها. من المؤكد أن البشريين واجهوا نفس التحدي.

البشر الآخرون

في بداية العصر الجليدي، لم نكن البشر الوحيدين الموجودين. إذ اجتازت آخر بقايا الإنسان منتصب القامة Homo erectus طويل العمر وإنسان فلوريس Homo floresiensis قصير القامة جزر إندونيسيا. وسكن إنسان الدينيسوفان Denisovans آسيا. وتحمل إنسان نياندرتال Neanderthals الظروف الباردة في أوروبا. وعلى الرغم من أن هذه الأنواع، وهي أقرب أقاربنا التطوريين، قد ازدهرت في الماضي، فإنها اختفت جميعها من السجل الأثري في منتصف العصر الجليدي. لماذا؟

يقول بوتس: «من المؤكد تقريبًا أنه لا يوجد تفسير موحد، ولكن هناك الكثير من الأفكار».

تقترح إحدى النظريات الصامدة أن هذه الأنواع من أشباه البشر قضي عليها عندما ظهر نوع أكثر ذكاءً منها -نوعنا- في أراضيها وتغلب عليها من خلال العنف أو الاستيلاء على الطعام. يقول بوتس: «إن تشتت الإنسان العاقل، في وقت قريب من انقراض كل هذه الأنواع المختلفة يثير الشكوك، وتتضخم هذه الشكوك عندما يفكر الناس في العنف الذي سببه البشر لبعضهم البعض، حتى في جنسنا البشري في العصور التاريخية». لذلك، سيشك الناس دائمًا في أن جنسنا البشري قتل الأنواع الأخرى، ولكن هناك القليل جدًا من الأدلة التي تشير إلى ذلك.

تفترض إحدى النظريات البارزة اليوم أن التغيرات المناخية المفاجئة في تلك الفترة ساهمت في اختفاء أولئك السكان. تشير الأبحاث الحديثة إلى أن العديد من المناطق الباردة والقاحلة المفاجئة منذ نحو 44،000 إلى 40،000 سنة مضت دمرت إنسان نياندرتال، على الرغم من تكيفاته البيولوجية والسلوكية الوفيرة مع البرد. يقول جون شيا John Shea، عالم الحفريات البشرية في جامعة ستوني بروك: «إن الارتباط بالمناخ واضح جدًا. في نهاية المطاف، أصبح الجو باردًا جدًا فلم يمكنهم العثور على الطعام، وتجمدوا حتى الموت». ويتكهن بعض العلماء، بما في ذلك شيا، بأن التقلبات في المناخ والإمدادات الغذائية تفاقمت بسبب التركيبة السكانية. تشير دراسات أخرى إلى أن إنسان نياندرتال كان بمجموعات سكانية صغيرة وهشة لدرجة أن أي تهديد لقدرته على التكاثر -سواء كان مرتبطًا بالمناخ أو بأي سبب آخر- لا يكاد ممكنًا التغلب عليه.

لا تزال الأحجام الدقيقة لمجموعات أشباه البشر هذه بعيدة عن المتخصصين، ويقول شيا إن التقديرات متفاوتة جدًا. على أي حال، ينظر علماء الإنسان القديم بشكل متزايد في التركيبة السكانية لتفسير انقراضات العصر الجليدي، على الرغم من أنهم يسارعون إلى تخفيف نظرياتهم. يقول شيا: الانقراض يمكن أن يحدث لأسباب عديدة. ولا تختفي الأنواع دائمًا حتى عندما تظل أعدادها صغيرة. ظلت أنواعنا البشرية متناثرة نسبيًا طوال هذه الفترة، واستمرت رغم ذلك، مما يشير إلى وجود اعتبارات أخرى.

الناجي الوحيد

اختفى جميع أشباه البشر تقريبًا في العصر الجليدي. ونجا نوع واحد فقط. لكن الإنسان العاقل ظهر قبل عدة آلاف من السنين من العصر الجليدي، قبل نحو 200 ألف سنة، في قارة أفريقيا. من نواحٍ عديدة، كان هذا موقعًا ميمونًا. عندما مر العصر الجليدي بنحو 200 ألف عام من تطورنا، يقول بوتس إن هذه التضاريس ظلت معزولة عن القوة الكاملة للنشاط الجليدي التي شهدها أشباه البشر الآخرون في أماكن أخرى.

ومع ذلك، منذ ما يقرب من 70،000 إلى 60،000 سنة مضت، في منتصف العصر الجليدي، بدأ جنسنا البشري في الانتشار في جميع أنحاء الكوكب لمجموعة متنوعة من الأسباب المحتملة. انتقلنا إلى الغابات المزدهرة والصحاري القاحلة والجافة. يقول بوتس: «لم تكن لديهم خريطة. لقد كانوا في طريقهم إلى الوادي والتل المجاور ليروا ما كان هناك، وبعضهم قطع مسافة طويلة». وفي نهاية المطاف، دخل هؤلاء المسافرون إلى البيئات الأكثر جليدية في أوروبا، وهي مناظر طبيعية حاول إنسان نياندرتال المتكيف مع البرد تجنبها.

في نهاية المطاف، عاش أسلافنا في مجموعة متنوعة من البيئات وتحملوا الدورات المتقلبة للمناخ التي حدثت في كل منها. ومع ذلك، فإن حقيقة أنهم حققوا هذا العمل الفذ مع تلاشي أشباه البشر الآخرين من السجل الأثري أمر مثير للفضول، بالنظر إلى أوجه التشابه الثقافية بينهم.

يقول شيا: «يتشارك أشباه البشر في مجموعة من مهارات البقاء على قيد الحياة. لقد أمضوا وقتهم في مجتمعات اجتماعية معقدة، وتواصلوا فيما بينهم، وتخيلوا حلولاً مبتكرة لمشكلاتهم، واخترعوا ونفذوا أدوات متخصصة. ليس الأمر أننا نملك شيئًا يفتقر إليه أشباه البشر المنقرضون. بل إننا استخدمنا تلك المهارات بشكل مختلف».

التحدث والرمزية

أوضح مثال على قدرة البشر الأوائل على البقاء، كما يقول شيا، «هو أنهم كانوا يفعلون شيئًا مختلفًا من حيث إرسال الإشارات ونقل المعلومات إلى بعضهم البعض». على الرغم من أن المتخصصين تكهنوا تاريخيًا بأن جنسنا البشري هو النوع الوحيد القادر على التحدث، من المؤكد تقريبًا أن أشباه البشر كانوا جميعًا قادرين على التواصل بطريقة أو بأخرى. حتى إن بعض المتخصصين يتكهنون بأن أشباه البشر في وقت مبكر مثل الإنسان منتصب القامة كانوا يمتلكون قدرات لغوية بدائية. علاوة على ذلك، تشير الدراسات إلى أن إنسان نياندرتال كان يمتلك «قدرات سمعية وكلامية» مماثلة لقدراتنا.

ومع ذلك، يبدو أن قدرتنا على التواصل تفوق قدرة أقرب أبناء عمومتنا إلى حد كبير. ربما كان لدى الإنسان العاقل المبكر مرونة صوتية كبيرة بفضل طبيعة بنيته، مما مكن لغته من التكاثر ونقل معلومات معقدة حول البيئة المحلية المحيطة به، بما في ذلك النباتات والحيوانات والظروف المناخية المتغيرة. يقول بوتس: «إن ميزان الأدلة يميل لصالح الإنسان العاقل لقدرته الفعالة للسيطرة على تعقيد الأصوات. التحكم الدقيق يؤدي إلى التنوع الثقافي والتنوع السلوكي، وبالتالي القدرة على اكتشاف أشياء مختلفة في أماكن مختلفة».

بالإضافة إلى ذلك، يقول المتخصصون إن الإنسان العاقل، أكثر من أي حيوان آخر، يشترك في الشعور بالهوية الاجتماعية التي يتواصل بها من خلال الأنشطة الرمزية، بما في ذلك الطقوس والزينة الشخصية والفن. هذه الصداقة الحميمة الثقافية والرمزية، وفقًا لبوتس، ساعدت أقاربنا على التجمع معًا وبناء روابط اجتماعية واسعة النطاق خارج مجتمعاتهم. وكانت هذه الاتصالات بمثابة خطة طوارئ في أوقات الاضطرابات. وإذا تسبب تغير المناخ أو أي قضية أخرى في معاناة سكان منطقة ما، من الممكن أن يلجأ هؤلاء الأشخاص إلى جيرانهم. يقول بوتس: «إذا كانت الأمور سيئة في مكان تواجدك، فسيكون لديك حلفاء في مكان آخر يمكنهم مساعدتك على البقاء على قيد الحياة».

ويؤكد المختصون أن أشباه البشر الآخرين، وخاصة إنسان نياندرتال، اكتسبوا أيضًا هويات اجتماعية. يشير السجل الأثري بشكل متزايد إلى أن هؤلاء الأفراد صنعوا قطعًا أثرية رمزية بسيطة، على الرغم من أنهم لم يكونوا ماهرين في بناء روابط اجتماعية داعمة. يقول بوتس: «كان إنسان نياندرتال جيدًا حقًا في البقاء على قيد الحياة في بيئاته المحلية، ولكن إذا لم تكن الأمور جيدة في بيئته، فلا يبدو أن له نوع التواصل الاجتماعي البعيد الذي أتاح للإنسان العاقل التغلب على جميع العقبات».

تكنولوجيا الأدوات

قد تكون قدرتنا على تغيير البيئة المحيطة بنا من المهارات الأخرى التي ساعدت البشر على البقاء على قيد الحياة خلال العصر الجليدي، خاصة في تصور وإنشاء أدوات حجرية متطورة. ومرة أخرى، لم يكن الإنسان العاقل هو النوع الوحيد الذي صنع رؤوسًا ورقائقَ حادة. ومع ذلك، فقد قام بابتكارات كبيرة في صناعة الأدوات من خلال التخطيط المتعمد ونشر التكنولوجيا الخاصة به، وهي عملية من المحتمل أن تكون مرتبطة بقدرات الاتصال. يقول بوتس: «عندما تنظر إلى الإنسان العاقل، تجد أن تنوع الأدوات الحجرية وابتكار الأدوات الحجرية يتجاوز بكثير ما أنتجه إنسان نياندرتال على الإطلاق».

على الرغم من عدم وجود إجماع أكاديمي، فمن المحتمل أن صناعة الأدوات لها دور مهم في قدرة جنسنا البشري على التكيف. وفي هذا الباب يقول بوتس: «أداة البقاء لدينا هي في الأساس قدرتنا على تعديل الأشياء. إنك تعود إلى أقدم أداة حجرية، وهي عبارة عن تعديل للبيئة. تلتقط حجرًا وتقوم بتعديله، وفجأة، تصبح لديك حوافًا حادة وأدوات للدق. هذا يشكل أساس طول عمر جنسنا البشري. يمكن للتكنولوجيا أن تساعد في إيجاد الحلول- حلول لمكان العثور على الطعام، ومتى يمكن العثور عليه، وكيفية حل مشكلات البقاء على قيد الحياة».

بشكل عام، أتاحت الظروف المناخية المتغيرة لجنسنا البشري الفرصة لإتقان أكبر وأفضل مهاراتنا- وهي تواصلنا واستعدادنا لترك بصمتنا على العالم. وعندما خرجنا من الصقيع، تحسن جنسنا البشري بهذه المواهب. عندما ذاب العالم منذ حوالي 11،700 عام، بدأ البشر يتجمعون معًا لزراعة المحاصيل وإنشاء المستوطنات لأول مرة، مما شكل أساس الحضارات الأولى.

يختتم شيا: «لقد نشأت الحضارة لأننا عشنا في مناخ مستقر أتاح الزراعة، وأتاح للناس البقاء في مكان واحد».

  • ترجمة: منهل زريقة
  • المصادر: 1