عصر الجائحة: لماذا ما كان علينا التفاجؤ من كوفيد 19

عمل لي وين ليانغ Li Wenliang طبيب عيون في مستشفى ووهان- مدينة شرق الصين تعدادها 11 مليون نسمة. عَلِم هذا الطبيب البالغ من العمر 34 سنة، في كانون الأول (ديسمبر) من عام 2019، أن المستشفى الذي يعمل فيه يستضيف سبعة أشخاص مصابين بالتهاب رئوي حاد. جميعهم يعملون في سوق السمك، ما يشير إلى أن وباءً بدأ ينتشر في المدينة. التزمت السلطات المحلية الصمت فيما يخص الالتهاب الرئوي، ولكن لي كان قلقًا.

عانى المرضى السبعة أعراضًا مثل الحمى والسعال المتقطع وامتلاء الرئة بالماء، وهذه أعراض ذكَّرَتهُ بمرض انتشر في الصين قبل 17 عشر عامًا. سمي آنذاك مرض الالتهاب الرئوي الحاد (سارس SARS)، وسببه نوع من الفيروسات يسمى الفيروس التاجي coronavirus. كانت معظم الفيروسات التاجية لا تسبب للإنسان غير زكام بسيط، ولكن مرض سارس قتل عُشْرَ المصابين به. لحسن الحظ، نجح الحجر في احتواء التفشي ولم يُلحظ الفيروس بعد ذلك.

والآن باتت ووهان تشهد مجموعة حالات تشبه سارس. علم لي من أحد زملائه في المستشفى عن نتائج مريض يقيم لديهم، وهي تكشف عن وجود فيروس تاجي. وكان لي عضوًا في مجموعة مغلقة أعضاؤها خريجي جامعة ووهان، نشر فيها تحذيرًا لأصدقائه في 30 كانون الأول، يحثهم فيه على الاحتياط.

صور أحد الأعضاء رسالة لي، وسرعان ما انتشرت في الإنترنت نارًا في هشيم. لقد كانت الشائعات تدور منذ أيام عن التهاب رئوي، وها هو ذا التأكيد يصدر من طبيب في مستشفى مرموق، وكان هذا التحذير الأول من عامل في القطاع الصحي.

قال لي لمراسل من CNN: كل ما أردته تحذير زملائي. وحين رأيت تحذيري منتشرًا علمت أن الأمر خرج عن سيطرتي، ومن المرجح أن أعاقب عليه.

كان لي مصيبًا فيما قال، إذ استدعته إدارة المستشفى الذي يعمل فيه لشرح كيف علم بتلك الحالات. ومن ثم استدعي إلى مركز شرطة محلي في 3 كانون الثاني (يناير) ليوقع إفادة فيها أنه «أربك النظام العام بشدة» لنشره مزاعمًا «لم تكن واقعية، وتخالف القانون»، وعاهدهم لي ألا يرتكب المزيد من الأعمال غير القانونية.

المفارقة أن الصين آنذاك كانت تشارك منظمة الصحة العالمية ذات المعلومات التي عاقبت لي على نشرها. وكانت حالات الالتهاب الرئوي تزيد يوميًا في ووهان. عاود لي العمل وحاول تجنب المشكلات. عالج لي بعد بضعة أيام مراجعة تعاني الزرقة، وقد بدت سليمة باستثناء لون عينيها، لذا لم يحتط لي عند معالجتها. لكن المراجعة مرضت لاحقًا وأصابت كل عائلتها. ومن ثم في العاشر من كانون الثاني، بدأ لي يسعل، وقال لصحيفة نيويورك تايمز: لقد كنت متهورًا.

وسرعان ما كان لي يعاني في تنفسه. وأقام في المستشفى حيث أعطاه زملاؤه الأطباء قناع تنفس يزوده بالأكسجين. ما كانت المضادات الحيوية تنفع لأن التهاب لي الرئوي كان سببه فيروس لا بكتيريا. ولم يكن في يد الأطباء غير انتظار أن يتعافى بمفرده، وهذا ما كان متوقعًا كون لي شابًا سليمًا في الرابعة والثلاثين. ولكن كان على لي أن يظل في الحجر لأن الفيروس شديد العدوى، فبات يتصل بزوجته الحامل وابنه البالغ أربع سنوات عبر مكالمات الفيديو. وحين تحدث مع صحيفة نيويورك تايمز في نهاية كانون الثاني قال إنه واثق من قيامه من سرير المستشفى في النهاية، «سأستغرق قرابة 15 يومًا إضافيًا لأتعافى. وسأشارك العاملين الصحيين في محاربة الجائحة، فهذا واجبي».

ولكن لي توفي بعد أسبوع. ثم صار للفيروس اسم رسمي، هو سارس-كوف-2، وسمي المرض الذي يتسبب به كوفيد 19. وبحلول الوقت الذي ولدت فيه زوجة لي في حزيران (يونيو)، كان فيروس سارسكوف 2 منتشرًا في أرجاء الكوكب. وكانت نتيجة التحليل بحثًا عن الإصابة بالفيروس إيجابية لثمانين مليون شخص تقريبًا، والمرجح أن عشرات الملايين غيرهم أصيبوا أيضًا. وتجاوزت حصيلة الوفيات الرسمية 430 ألف شخص، ومن المرجح أن الحصيلة الحقيقية أعلى بكثير. ولما كان الفيروس يجتاح الدول واحدة تلو أخرى، ما كان من خيار غير الإغلاق لإبطاء انتشاره وحماية المواطنين. وكانت نتيجة هذا أضخم كساد اقتصادي منذ الكساد الكبير، إذ ضيَّع تريليونات الدولارات من اقتصاد العالم دافعًا مئات ملايين البشر إلى الفقر.

ربما كان من الممكن تفادي الكثير من هذه الكارثة العالمية لو أنذر الأطباء أمثال لي في وقت أبكر. ولعلنا لا نعلم أول شخص أصيب بكوفيد 19، أي المريض صفر في الجائحة، ولكننا نعلم بطلها الأول وينبغي لنا تبجيل ذكراه.

كان مرض كوفيد 19 مفاجأة للعديد من الناس، وما كان ينبغي لهم الصدمة منه. فقد كان علماء الفيروسات يحذرون من خطر ظهور فيروسات منذ عقود، حتى إن عالم الفيروسات ستيفن مورس كتب عام 1991: تظهر الجائحة العالمية لمرض متلازمة النقص المناعي المكتسب (الإيدز) أن الأمراض المعدية ليست بقايا ماضينا غير الحديث، بل إنه -والأمراض عمومًا- الثمن الذي ندفعه لقاء العيش في العالم العضوي.

أصدر مورس هذا التحذير لما بزغ فيروس نقص المناعة البشري تهديدًا عالميًا للبشرية بعد تطوره من فيروس الشمبانزي. إذ خشي مورس وعلماء فيروسات آخرون أن فيروسات حيوانات أخرى قد تعبر حاجز النوع أيضًا. فلم تكن تسميات حمى الوادي المتصدع، وجدري القردة، والإيبولا مألوفة لعلماء الفيروسات إلا في التسعينيات. إذ إنها تصيب عددًا قليلًا من الناس بين حين وآخر، وتسبب نتائج مروعة قبل أن تختفي مجددًا في مضيفيها من الحيوانات. ولكن يمكن أن يصبح أحد تلك الفيروسات فيروس نقص المناعة البشري التالي، أو جائحة الأنفلونزا التالية، في الظروف المناسبة. وكلما زاد الضغط الذي يمارسه البشر على الموائل التي تعيش فيها هذه الحيوانات، عن طريق قطع الأشجار في الغابات المطيرة وتطهير البرية من أجل الزراعة على نطاق واسع، زاد احتمال ظهور فيروس.

كذلك حذر مورس أن التهديد التالي قد يصدر من فيروس ليس له اسم بعد، وكتب: ما لم تبذل جهود مضنية في البحث، فإن الفيروسات لا تكتشف إلا مصادفة، أو -كما الحال لكل الأمراض الفيروسية البشرية تقريبًا- عندما تظهر أخيرًا لتسبب تفشٍ ضخم في مكان ما في العالمي الغربي.

ظهر فيروس سارسكوف بعد 11 سنة من تحذير مورس. ويبدو أنه طابق نبوءته. إذ في عام 2002، دخل مزارع صيني إلى مستشفى وهو يعاني حمى شديدة، وسرعان ما توفي. وأصيب الناس في مناطق أخرى من الصين بالمرض ذاته، ولكنه لم يسترعِ اهتمام العالم إلا بعد أن أصيب به رجل أعمال أمريكي، حين عانى الحمى وهو في طيارة وجهتها سنغافورة. توقفت الطيارة في هانوي، ولكن رجل الأعمال توفي هناك. وبعد ذلك بوقت قصير، أصيب الناس بأعراض مشابهة، حتى الذين في الدول القصية مثل كندا.

سحب العلماء عينات من ضحايا سارس لمعرفة سبب المرض. والذي اكتشفه فريق باحثين يقوده مالك بيريس من جامعة هونغ كونغ. حين اكتشفوا في دراسة لخمسين مريضًا بسارس ذات الفيروسات تنمو في اثنين منهم. سلسل بيريس وزملاؤه المادة الجينية في الفيروس الجديد ثم بحثوا عن الجينات المشابهة في المرضى الآخرين. ووجدوا تطابقًا في 45 مريضًا.

كانت تلك الفيروسات فيروسات تاجية، والتي سميت بهذا نسبة لتاج البروتينات المدببة الموجود على سطحها. حين درس العلماء هذا الفيروس أول مرة في ستينيات القرن الماضي، فإنه ذكرهم بالهالة (corona) التي تظهرها الشمس في كسوفها. وبما أن الفيروسات التاجية المعروفة في ذلك الوقت كانت تسبب رشحًا بسيطًا وحسب، كان اكتشاف فيروس تاجي يسبب التهابًا رئويًا قاتلًا مفاجأة. حتى إن مورس وزملاؤه حين كتبوا لائحة بأنواع الفيروسات التي ينبغي القلق منها، لم يذكروا الفيروسات التاجية.

على الرغم من ذلك فإن فيروس سارسكوف ظهر كما تنبأ مورس وزملاؤه. وفي محاولة تتبع أصله، استخدم العلماء ذات النهج الذي استخدموه لتحديد أصل فيروس نقص المناعة البشري؛ فرسموا شجرة عائلة فيروس سارسكوف وبحثوا في الحيوانات عن أقاربه. فوجدوا أنه لم ينشأ في الثديات بل خفافيش حدوة الفرس الصينية.

من الممكن أن فيروس سارسكوف انتشر إلى حيوان آخر قبل مهاجمة البشر. إذ وجد العلماء الفيروس في ثديات قططية تسمى الزباد، وهي شائعة في سوق الحيوانات الصيني. ولكن من الممكن أيضًا أنه انتقل من الخفافيش إلى البشر مباشرة. فربما أكل أحدهم خفاشًا مصابًا، أو احتك بفضلاته. وأيًا كان الطريق الذي سلكه إلينا الفيروس، يبدو أنه مناسب أحيائيًا ليستطيع الانتشار من شخص إلى آخر.

لحسن الحظ، تبين أن المصابين بسارسكوف لا يصبحون معدين إلا بعد أن تظهر عليهم أعراض مثل الحمى والسعال. وما إن يمرضوا حتى يمكن للأطباء عزلهم ومنعهم من نشر الفيروس. على الرغم من ذلك فقد تسبب سارسكوف بثمانية آلاف إصابة، وقتل 900 شخص قبل اختفائه. وهذا هين قياسًا بسنة عادية من الإنفلونزا. ولكن العلماء علموا أن فيروس سارسكوف إن كان قد أتى من خفافيش حدوة الحصان الصينية، فإنه يستطيع العودة.

بعد عقد من ذلك، ظهر نوع جديد من الفيروسات التاجية في المملكة العربية السعودية. وذلك عام 2012، حين لاحظ أطباء سعوديون أن بعض المراجعين مصاب بمرض تنفسي لا يمكنهم تحديده. كان يشبه سارسكوف، ولكنه أشد فتكًا، إذ قتل ثلث المرضى به تقريبًا. عرف هذا المرض بمتلازمة الشرق الأسط التنفسية (ميرس MERC)، وسرعان ما عزل علماء الفيروسات الفيروس التاجي الذي يسببه. وكان قريبًا جدًا من فيروس سارسكوف. وعثر على أقرب أقارب ميرسكوف في الخفافيش، ولكن تلك الخفافيش تعيش في إفريقيا لا السعودية.

برز سؤال ظل بلا إجابة واضحة، هو كيف سببت الخفافيش الإفريقية جائحة في الشرق الأوسط؟ جاءت إجابة ممكنة لهذا السؤال من فحص العلماء الثديات التي يعتمد عليها بعض سكان الشرق الأوسط: الجمال. إذ وجدوا أن فيروسات متلازمة الشرق الأسط التنفسية شائعة بين الجمال، التي تنقله عبر أنوفها بقطرات المخاط. لذا فإن أحد التفسيرات المحتملة لأصل فيروسات متلازمة الشرق الأسط التنفسية أن الخفافيش نقلتها إلى الجمال في شمال إفريقيا. وبما أن تجارة الجمال رائجة بين شمال إفريقيا والشرق الأوسط، فربما نقل جمل مريض الفيروس إلى موطنه الجديد.

ولما أعاد العلماء بناء شجرة عائلة فيروسات ميرسكوف، كان هناك سبب مقنع للخوف من جائحة عالمية أسوأ من جائحة مرض سارس. لأن السعودية تستقبل مليوني مسلم سنويًا في الحج. لذا من اليسير أن ينتشر فيروس ميرسكوف بين الجموع، ثم ينتقل إلى بلدانهم حول العالم. ولكن هذا لم يحدث، حتى الآن. ولو أن بضع عشرات الحالات المصابة بهذا الفيروس تظهر كل عدة شهور. أصاب الفيروس 27 دولة، وحصد حياة 881 شخصًا من المصابين ال2462 حتى تشرين الثاني (نوفمبر) 2020. حدثت معظم حالات تفشي المرض في المستشفيات، مما دفع العلماء إلى الشك في أن فيروس ميرسكوف لا ينجح إلا في غزو من يعانون ضعفًا في جهاز المناعة.

على الرغم من الخوف الذي بثه فيروسا سارسكوف وميرسكوف، فإن العالم لم يتفاعل معهما ذاك التفاعل. إذ لم يثيرا اهتمامًا عالميًا لعجزهما عن إصابة عدد كبير جدًا من الناس. وهذا لم يكن الحال للفيروس التاجي المسبب لكوفيد 19 (سارسكوف 2).

يظهر التركيب الجيني لفيروس سارسكوف 2 قربه الشديد لفيروس سارسكوف. ومن المحتمل أنهما ينحدران من سلف مشترك أصاب الخفافيش قبل بضعة قرون. ولما ظلت أسلاف هذا الفيروس تدور بين الخفافيش لقرون، فإنها تحورت وتكيفت مع مضيفيها الطائرين. بل ومزجت جيناتها معًا في تركيب جديد كان يحدث حين يصيب فيروسان تاجيان حيوانًا واحدًا في آن. من بين كل الفيروسات التاجية التي اكتشفها العلماء في الخفافيش الصينية، كان الأقرب لفيروس سارسكوف 2 قد افترق عنه منذ عقود. لذا فإن أصل جائحة كوفيد 19 ما زالت مكتنفًا بالغموض، حتى الآن.

من المرجح أن سارسكوف 2 سلك ذات المسار الذي سلكته أقاربه من الفيروسات التاجية، فضلًا عن فيروسات أخرى مثل فيروسي نقص المناعة البشري والإنفلونزا. في عام 2019، أصيب رجل واحد في الصين بعدوى فيروس تاجي، وقد يكون فلاحًا صينيًا بعيدًا عن ووهان. وربما كان الفيروس قد تكيف سلفًا لإصابة مجارينا التنفسية، ثم تكيف تدريجيًا للانتقال من شخص إلى شخص بدل أن يظل محصورًا بالخفافيش. ولما وصل الفيروس مدينة ووهان وجد ملايين الناس الذين يعيشون في مساحات متقاربة ويعملون فيها، حيث يمكن أن ينقل المصاب الواحد العدوى إلى العشرات.

يعمل فيروس سارسكوف 2 بنفس طريقة سارسكوف من بعض النواحي. فكلاهما يغزو خلايا المجاري التنفسية من البروتين الموجود على سطحها والمسمى ACE2 (الإنزيم المحول للأنجيوتنسين 2). وكلاهما يمكنه تحفيز الجهاز المناعي لإحداث استجابة كاسحة ومدمرة لرئتي المريض. ولكن فيروس سارسكوف 2 كان مختلفًا من نواحٍ أخرى. فهو أقل فتكًا جدًا، فلا يقتل غير 0.5% ممن يصيبهم بكوفيد 19، في حين أن فيروس سارسكوف يقتل 10% ممن يسبب لهم سارس. وكذلك فإنه ينتقل من المصاب إلى الآخرين قبل أن تظهر الأعراض، خلافًا لفيروس سارسكوف الذي لا ينتقل إلا بعد ظهور الأعراض على المريض. فضلًا عن أن خمس مرضى كوفيد 19 لا تظهر عليهم أي أعراض. لذا انتشر هذا المرض في الصين وغيرها من الدول قبل أن تدرك منظمات الصحة العامة حجم الكارثة التي تحدث. وكان من الصعب حصر الفيروس في أي دولة يدخلها باستخدام الاستراتيجيات التي كانت فعالة ضد فيروس سارسكوف قبل 17 سنة.

قد لا يدرك العديد من الناس إصابتهم بكوفيد 19 إلا بعد أشهر من العدوى. عن طريق فحص الجسم عن الأجسام المضادة التي تثبت أن جسمهم حارب الفيروس. ولكن هناك قلة من سيئي الحظ رقدوا في الفراش أيامًا أو أسابيعًا. ونحو 20% من المصابين اضطروا إلى الرقود في المستشفى. وذهل الأطباء الذين صادفوا مرض كوفيد 19 أول مرة، لأنهم وجدوه شديد الاختلاف عن الإنفلونزا أو سائر الأمراض التنفسية المعتادين عليها. إذ يمكن للفيروس إتلاف رئات المصابين، أو الانتشار في أجزاء أخرى من الجسم مسببًا أزمات قلبية وفشلًا كلويًا وجلطات من تخثر الدم.

اتخذت الجائحة مسارات مختلفة حسب الدول، لا سيما من ناحية جدية حكوماتها واستعدادها للأسوأ. مثلًا فإن كوريا الجنوبية عانت كثيرًا بسبب جائحة سارس سابقًا، وقاست مستشفياتها اندلاعًا لميرس. ولما أدركت حكومتها أن الفيروسات التاجية يمكنها التسبب بهجمات مشابهة، خزنت معدات واقية للعاملين في القطاع الصحي، واستثمرت في خبراء الصحة العامة الذين يتتبعون انتشار الفيروسات من شخص لآخر. وحين أكدت كوريا الجنوبية إصابتها الأولى بكوفيد 19 في العشرين من كانون الثاني 2020، اتخذت اجراءات حاسمة فورًا. فأعدوا اختبارًا جينيًا يكشف العدوى بكوفيد 19. ولتسهيل الاختبار على الناس فقد وضعوا اختبارًا على الطريق، حيث يمكن للعاملين في مجال الصحة ارتداء معداتهم الواقية وسحب عينات من أنوف الناس وهم في سياراتهم. ولما اكتشفت حكومة كوريا الجنوبية أن كنيسة صارت ملاذًا للعدوى، خصصت مجموعة تتبعت روادها الملامسين. وانقضت سنة 2020 وليس في كوريا غير 60 ألف إصابة و900 حالة وفاة من الفيروس.

أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد شهدت إصابتها الأولى بالتزامن مع كوريا الجنوبية، ولكن الفاجعة التي عانتها كانت أشنع وأبشع. اختارت الحكومة الأمريكية ألا تستخدم الاختبارات المتوفرة للكشف عن فيروس سارسكوف 2، بل قررت ابتداع اختبار بنفسها. وبسبب عدم الكفاءة البيروقراطية الشديدة، مرت أسابيع قبل أن يكتشفوا أن اختبارهم لا يعمل. وكان يمكن للمختبرات الأحيائية المتقدمة في الجامعات الأمريكية ابتكار اختبار ناجح بسهولة، ولكن الحكومة صدت كل محاولاتها. ولم تكد تجري الولايات المتحدة الأمريكية اختبارات في كانون الثاني وشباط (فبراير)، وصبت اهتمامها على القادمين من الصين. فوضعت إدارة ترامب حظرًا على السفر من الصين وإليها، وهذه المبادة كانت عديمة النفع لأن الفيروس انتشر سلفًا إلى العديد من الدول الأخرى. وتبين لاحقًا أن معظم الإصابات في نيويورك كان سببها الوافدين من أوروبا. وفي آذار (مارس) كانت المستشفيات قد غصت بمرضى كوفيد 19. وخلافًا للعاملين في القطاع الصحي في كوريا الجنوبية، كثيرا ما عانى العاملون في القطاع الصحي الأمريكي لإيجاد معدات واقية تقيهم الفيروس الشديد العدوى. حتى إن بعضهم ارتدى أكياس قمامة. وصارت المدن في أرجاء البلاد نسخة من ووهان. وما انقضى العام إلا بعد أن بلغ عدد الوفيات 25 ألف شخص في نيويورك بمفردها، وهذا أكثر جدًا من الوفيات في سيول (عاصمة كوريا الجنوبية، وهي بمساحة نيويورك تقريبًا). وفي نهاية عام 2020 كان عدد الإصابات في الولايات المتحدة الأمريكية 18.7 مليون شخص، وعدد الوفيات 350 ألف شخص.

ولكن الأمل بث في الناس بحلول نهاية السنة، لأن اللقاحات كانت على الأبواب. بدأ البحث عن لقاح ضد مرض كوفيد 19 في كانون الثاني من 2020، أي فور أن عزل العلماء الصينيون فيروس سارسكوف 2 وسلسلوا جينومه. استخدم بعض الباحثين الطرائق التقليدية، بغمر الفيروس التاجي بالمواد الكيميائية لإبطاله، كما فعل جوناس سولك في خمسينيات القرن الماضي عندما ابتكر لقاح شلل الأطفال. واستخدم آخرون الطرائق الحديثة، مثل ابتداع جزيئات رنا ترشد خلايا البشر لصنع بروتينات فيروسية. وصارت نتائج التجارب السريرية مبشرة في تشرين الثاني (نوفمبر)، حين أثبتت بعض اللقاحات فعاليتها في حماية المتطوعين من كوفيد 19. بعد ذلك انطلقت حملة تلقيح عالمية في كانون الأول. عادة ما كان يستغرق ابتكار لقاح جديد واختباره عقدًا كاملًا، وأسرع لقاح اكتشف سابقًا حدث للنكاف في غضون أربع سنين. ولكن العلماء كسروا تلك الأرقام تمامًا لإنهاء الجائحة.

مع ذلك فإن علينا التعلم من هذه التجربة لأجل البشرية. إذ سيكون هناك المزيد من مرض كوفيد، ربما كوفيد 24 أو 31 أو 33. وليست الفيروسات التاجية غير مجموعة واحدة من مجموعات الفيروسات التي يعلم الباحثون أنها قد تسبب أمراضًا جديدة للبشر. وعلماء الفيروسات مدركون أتم الإدراك أنهم لم يبدأوا باستكشاف التنوع الفيروسي إلا توًا. وهم يمسحون الحيوانات ويبحثون عن أجزاء مادة الفيروسات الجينية فيها للحد من جهلنا بذلك التنوع. ولكن هذه المهمة عصية جدًا لأننا نعيش في كوكب من الفيروسات. وهذا ما زاد على اثباتاته إيان ليبكين وزملاؤه في جامعة كولومبيا، إذ جمعوا 33 فأرًا من مدينة نيويورك فاكتشفوا فيها 18 نوعًا جديدًا من الفيروسات القريبة جدًا من الممرضات البشرية. كذلك فإنهم أجروا دراسة أخرى في بنغلادش، درسوا فيها خفاشًا يسمى الثعلب الطائر الهندي لتحديد كل الفيروسات التي تعده وطنًا. فاكتشفوا 55 نوعًا، لم نكن نعلم منها غير خمسة.

لا نعلم أيًا من هذه الفيروسات المكتشفة حديثًا سيكون السبب في الجائحة القادمة، هذا إن كان منها. ولكن هذا لا يسوغ لنا أن نتجاهلها. بل علينا أن نظل يقظين، عسى أن نصدها قبل أن تحظى بفرصة الانتقال إلى جنسنا.

source: A Planet of Viruses, Carl Zimmer.
  • ترجمة: موسى جعفر
  • المصادر: 1