ميناء الأسنان الاصطناعي أقسى حتّى من الطبيعي
يعد ميناء الأسنان معقد جدًا، ومن شبه المستحيل استنساخه. على كل الأحوال نجح فريق من المهندسين بذلك.
كل يوم تسحن أسنانك وتتحمل ذلك. فبينما تسحق الطعام أو تكزّ على أسنانك عند التوتر، عليك شكر الدرع النانومتري على حماية أسنانك البيضاء اللؤلؤية: هذا الدرع هو ميناء الأسنان. هذه الطبقة الخارجيّة المعقدة بسماكة بضع ميليمترات تسمح لك بسحق وتمزيق ومضغ الطعام دون ألم مستمر في الأنسجة الحساسة تحتها.
يعتبر ميناء الأسنان أقسى نسيج حيوي في جسم الإنسان (كما أنّه يبدو جميلًا تحت المجهر). وقد عمل علماء الأسنان لوقت طويل على اكتشاف طرق لاستنساخ بنيته الرقيقة، فائقة الدقة، والقوية رغم ذلك لتأمين حماية أطول لإبقاء السن حي. والآن اقترب فريق من المهندسين خطوة للقيام بذلك.
اخترع علماء مواد ومهندسون كيميائيون من جامعة بيهينج وجامعة بكين وجامعة مشيغان ميناء اصطناعي أقوى من الموجود في أسناننا. وقد نشروا إنجازهم الكبير في 3 شباط/فبراير في مجلة Science. لقد صُمِّم الشبيه الحيوي للميناء بشكل مشابه لتصميم الميناء الطبيعي، لكن عُدِّل في المختبر ليتحمل تآكل وتمزيق أكثر. وبينما تمكّن مهندسون آخرون من إنتاج أجزاء محددة من هذه الطبقة الخارجية القاسية، فإن هذا الاختراع الجديد أخذ بالحسبان المكونات القاسية والمرنة ليحاكي أكثر تركيب الميناء الطبيعي.
كتب هيوي تشاو المؤلف الرئيسي للدراسة، ومهندس كيميائي في جامعة بيهينج في بكين في بريد إلكتروني: «يمتلك ميناء الأسنان الطبيعي لزوجة مطاطية خارقة تساعده على تحمّل الاهتزازات والتشوهات لخدمة طويلة الأمد. إذ تعتبر هذه الخصائص مقايضات تقليدية، وهذا أمر غير عادي في المواد بشريّة الصنع، ويعطينا دافع لدراسته».
يقدِّم ميناء الأسنان حماية ضد سلسلة من المؤذيات الفموية، حيث يتعرض بشكل مستمر لهجوم المواد الحمضية والقلوية الموجودة في الأطعمة والمشروبات، ويواجه البكتيريا والتغيرات في الفلورا الفموية. عدا عن ذكر إنّ الميناء يتحفَّر من التنظيف الزائد بالفرشاة والصرير الاعتيادي. وكما قال نيكولاس كوتوف مهندس كيميائي في جامعة مشيغان ومؤلف مساعد في الدراسة: «إن البيئة هجومية جدًا».
يُحدث التآكل والنخر مع الوقت تجاويف في طبقات السن السطحية مُسببةً حفر ومشاكل سنيّة أخرى. وعلى عكس العظم، فإن خط الدفاع المينائي لا يصلح نفسه، وهذا ما وضحته الأستاذة جانيت موراديان أولداك، كيميائية حيوية وأستاذة في كلية طب الأسنان في جامعة جنوب كاليفورنيا ولوس أنجلوس، وهي لم تشارك في الدراسة.
في الواقع إنّ ميناء الأسنان خالٍ من الأنسجة الحية، كما شرحت موراديان أولداك. وأضافت: «في الوقت الذي يبزغ فيه السن من اللثة تكون الخلايا التي تصنع الميناء، المسماة مصورات الميناء (الأميلوبلاستات)، ميتة». وهي تقوم حاليًا باختبار طرقًا لإعادة بناء الميناء من ببتيد الهيدروجين، ولكنها تُقر بأنّه تحدٍ كبير في أبحاث طب الأسنان.
إن جزء من قوة الميناء وسبب صعوبة استنساخه يأتي من كون بنيته مركبة ومعقدة. إذ يتكون الحصن المعدني من أنابيب متداخلة تُعرف بالقضبان النانوية وتكون ممتلئة بشبكة من هيدروكسيباتيت الكالسيوم، وهو نوع من معادن فوسفات الكالسيوم. وكما تقول موردان أولداك: «إن البنية الكريستالية هي ما يجعلها مميزة جدًا».
تضيف أولداك إنّ هذه الكريستالات نانوية الحجم مترابطة معًا على شكل مواشير، منسوجة وممزوجة معًا كل على حدة: «إنّها مثل حفنة من المعكرونة الجافة قبل إسقاطها في الوعاء». لكن البنيات الكريستالية للقضبان النانوية يمكن أن تنكسر دون وسادة داعمة لها. فبينما تضرب قوى المضغ تلك المواشير، تقوم الطبقة الهجينة من المغنزيوم والبروتين ومكونات أخرى بامتصاص الضربات والضغط، وبالتالي لا تنكسر تلك القضبان.
وتشرح موراديان أولداك: «إن كل هذه الأسلاك النانوية الصغيرة، أو أي من هذه المعكرونة الجافة، مغطاة بمادة هجينة مؤلفة من مواد مرنة ليّنة ومواد صلبة هشة. ولكن ما يكوّن ميناء الأسنان حقيقةً هو مزيج من كليهما. وكما يقول كوتوف فإن المرونة الحقيقية للمادة الهجينة هي مكوّن مهم للتنظيم الهرمي الذي يعطي ميناء السن خصائصه الميكانيكية.
ويشير: «من المهم للبنى الحيوية ألّا تمتلك خاصة واحدة بل العديد من الخصائص التي يمكن تحسينها في الوقت نفسه، ويعد ميناء الأسنان واحدًا من تلك العجائب الحيوية».
أوضح تشاو إنه لاختراع ميناء الأسنان صنع المهندسون أسلاكًا نانوية القطر من بلورات هيدروكسيباتيت المصطفة بدقة وغطوها بثاني أوكسيد الزركونيوم، وهو نسخة أقوى من مادة المغنزيوم الهجينة. ويقول كوتوف إن هذه المادة المعدلة والمعايرة جعلت من الميناء الاصطناعي مساوٍ أو أفضل من الميناء البشري. ويضيف: «تمكنت الدراسات السابقة من استنساخ ميناء الأسنان بقضبانه النانوية البلورية تمامًا، وكان أداؤها جيدًا إلى حد ما، لكن ليس مثل ما فعل فريقنا حين أضاف طبقة المادة الهجينة. إن هذه الدراسة تُظهر بشكل جلي ومقنع جدًا إمكانية الحصول على نسخ كبيرة الحجم من هذه المواد عالية الأداء».
يعتقد تشاو وكوتوف إنّ ميناء الأسنان الاصطناعي يُمكِّن الناس من تجديد دفاعاتهم المتآكلة. لكن كوتوف يرى إنّ هذا النهج الجديد يذهب إلى أبعد من مجرد بقع بسيطة وإصلاحات، ويؤدي إلى أسنان «ذكيّة» فعلًا تُشفى ذاتيًا أو تستشعر الالتهاب، وتغيّر في ميكروبات الفم، والأسيتون في التنفس الذي يعد دلالة على مرض السكري.
على أي حال، فقد عبّرت ماراديان أولداك عن تحفظاتها حول استخدامها العملي في طب الأسنان في القريب العاجل. إذ لجأ المهندسون من أجل صنع مينائهم إلى تسخين المواد لدرجة حرارة 300 درجة مئوية، ووضعها تحت درجات التجمد واستعمال الكحول متعدد الفينيل لضبط الممرات البلوريّة. وتقول: «يجب أن نتذكَّر إنه لا يوجد في الطبيعة درجات حرارة شديدة أو درجات حموضة شديدة أو ضغط شديد كما فعل هؤلاء المهندسون».
وتضيف موراديان أولداك إنه وبينما يمتلك الميناء الاصطناعي خصائص خاصة لم تُجمع من قبل، فإنها لا تشبه تمامًا البنية ثلاثية الأبعاد للميناء البشري الحقيقي، وهذا اعتبار مهم لأطباء الأسنان عند لصق أو تثبيت هذه المادة إلى السن أو العظام إلى الفك. إذ تقول: «إنها أقوى بكثير من الميناء الطبيعي، لكن ما زال ينقصها تسلسله الهرمي الأعلى». كما تشير إنّ هناك دروس مفيدة يمكن استخلاصها من نهج وتقنيات الفريق. فتقول: «لقد تأثرت جدًا كيف استطاع المهندسون حقيقةً محاكاة المبادئ العلميّة الأساسية في التركيب والبنية بهذا المستوى العالي جدًا».
يقول كوتوف إن فهم وهندسة بنية الميناء بالمقياس النانومتري يمكن أن يؤدي إلى بناء مواد في تخصصات أبعد من طب الأسنان. كما يرى تشاو وكوتوف إنّ صلابته وقدرته العالية على احتمال الاهتزازات يمكن أن يكونا عاملين حاسمين في بناء مبانٍ معدة للزلازل. وترى موردان أولداك إنّه يمكن استخدامه لبناء خوذ للجنود أيضاً.
يقول كوتوف إنه بالنظر للعجائب الحيوية مثل ميناء الأسنان، يمتلك المهندسون فرصة للتحسين حتى أبعد من التصميم الطبيعي لصنع مواد واختراعات يحتاج البشر إلى المزيد منها.
ويشرح: «من المؤكد إنّ الطبيعة يمكن أن تنجز ذلك بالتطور لكنّ ذلك يستغرق بعض الوقت. إذ إن بعض المواد المتاحة لنا غير متاحة للخلايا. ويمكننا الآن إعادة بناء تلك المواد للحصول على خصائص أفضل وذلك عن طريق استبدال بعض المكونات».
- ترجمة: ياسمين درويش
- تدقيق علمي ولغوي: عبير ياسين
- المصادر: 1