من أين تأتي العدمية؟
كان (فريدريك نيتشه) أكثر من اهتمَ بمسألة العدمية، ويرى أن كل المجتمعاتِ تعتمدُ على الأحكام القيمية الضمنية. وقد توقع عواقب وخيمة في حال ضياع الأسس لهذه المحاولات:
(عدم مبالاة واسعة النطاق، أو محاولات عنيفة متعصبة لاستعادة الشعور بالهدف، أو ربما الاثنين معًا).
نتحدث عن القيم كثيرًا ونعلم أنها تجدي نفعًا، ولدينا فكرة صغيرة عنها. ولكن قد يتفاقم الأمر بسبب الشك بشأن خسارتهم.
العدمية ليست خيارًا أو التزامًا فكريًا، لكنها شيء يقع عليك، وكما ذكر نيتشه في عام 1885: “إن العدمية تقف على الأبواب. من أين يأتي هذا الغريب من بين كل الضيوف؟”.
يأتي جزء من الإجابة لفهم كيفية ارتباط القيم بالمعرفة والعمل في كتاب “رؤية الدولة” Seeing Like a State (1998)، لعالم السياسة جيمس سكوت James C Scott، ويصنف المعرفة بطريقتين:
-المعرفة الإبستيمية، والتي يمكن قياسها وتنظيرها ونقلها تجريديًا.
-و”الميتيس” (من اليونانية الكلاسيكية)، والتي تتعلق بالمعرفة المكتسبة من الخبرة العملية، مثل العلاقات الشخصية والتقاليد والعادات والحالات النفسية.
تحكم “الميتيس” التجربة المحلية: مثلًا زراعة أرض الأسرة بدلاً من دراسة علم الزراعة.
فعلى سبيل المثال، حصلت (جين ومارثا) على شهادات جامعية متطابقة، ولكن إذا كانت المناوبة الأولى لجين يوم الثلاثاء وكانت مارثا في عام 1970، فسيكون لدى مارثا بعض الحيل والعادات لتسريع عملها.
ومع ذلك، ليس من السهل تحديد ماهيتها: تملك مارثا “الميتيس”، ولا يمكن إنتاج “الميتيس” بسهولة. فلو كانت قابلة للتدريب، لكانت قد دُربت جين عليها.
تكمن عبقرية سكوت في مقارنة الميتيس بالتقاليد المحلية على مدى فترة طويلة كافية، إذ تُصنف العادات والسلوكيات وتُورث، تمامًا كما يختار التطور الصفات المفيدة. وستضفي المجموعة الناجحة الطابع المؤسسي على مجموعة معقدة لا يمكن اختزالها من الأدوات الثقافية التي تتعلق ببيئتها.
بما أنها الميتيس، وليست معرفة الإبستيمية فإنها لن تكون دائمًا واضحة أو قابلة للقياس، يروي سكوت عشرات الأمثلة عن العادات التي قد تبدو متخلفة ومشوشة وغير علمية، ولكن عندما تُحظر أو تُثبط، تنهار الإنتاجية. ويطلق على ذلك مشكلة “الوضوح”.
تعتمد نظريات المعرفة الإبستيمية على بيئات معزولة مجردة وقابلة للتصنيف، ولكنها بعيدة كل البعد عن الأنظمة الديناميكية والمترابطة للطبيعة والثقافة البشرية. وعلى النقيض من ذلك، تتطور الميتيس داخل بيئات معقدة، “غير واضحة”، لذلك فإنها تعمل معها.
وهذا يعني أيضًا أن تطبيقها يقتصر على فعل محدد، بدلًا من نظرية أوسع نطاقًا. ويرغب الغرباء أن يعرفوا سبب نجاح شيء ما، ولكن السكان المحليين سوف يشرحونه بلغة غير مفهومة لهم.
وبطبيعة الحال فإن الممارسات والتقاليد أكثر من مجرد خبرة عملية. إنها تُستخدم لحل المشاكل السياسية بكفاءة.
في كتاب العقل القويم (2012)، يصف عالم النفس الاجتماعي ‘جوناثان هيدت Jonathan Haidt’ مزارعي الأرز في بالي الذين يحتاجون إلى تنسيق الري على طول النهر. وبما أنهم كانوا مقسمين سياسيًا إلى وحدات عائلية صغيرة تسمى “سوباك” فقد احتاجوا إلى الاعتماد على وسائل أقدم من الحكم لضمان التعاون:
“كان الحل الديني البارع للمشكلة من الهندسة الاجتماعية وضع معبد صغير عند كل مفترق في نظام الري. وقد وحّد الإله في كل معبد جميع السوباك التي كانت واقعة في مجراه إلى مجتمع يعبد هذا الإله، مما ساعد السوباك على حل خلافاتهم بطريقة ودية. يقلل هذا الترتيب من الغش والخداع التي من شأنها أن تزدهر في تقسيم عادل للمياه. وأتاح النظام لآلاف المزارعين، المنتشرين على امتداد مئات الكيلومترات المربعة، التعاون دون حاجة إلى الحكومة المركزية والمفتشين والمحاكم.”.
وما زال هذا يحدث. ففي عام 2017، ذكر الاقتصاديان ‘ناثان نان Nathan Nunn’ من جامعة هارفارد و’راؤول سانشيز دي لا سييرا Raul Sanchez de la Sierra’ من جامعة كاليفورنيا، (بيركلي، غري-غري) وهو مسحوق سحري يصنعه السحرة في عام 2012، بعد فترة من اللصوصية المنتشرة وانعدام أمن الدولة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، جاء غري- غري في الحلم إلى شيخ في القرية. واستخدم المسحوق ليجعل مستعمِله مقاومًا للرصاص، وعمل على نحو جيد لدرجة أن المجتمعات المجاورة تبنّته بسرعة.
والسبب بسيط: فالمجموعات تقاوم أفضل من الأفراد، وسوف يتجرأ المزيد من الناس على القتال إذا ظنوا أنهم مقاومين للرصاص. لذلك، فإن القرية التي تستخدم مسحوق غري- غري كانت أكثر عرضة للبقاء على قيد الحياة.
تعتبر معابد غري -غري ومعابد الماء نوعًا من أنواع الميتيس، ولكنها تتطلب الإيمان بهياكل أكبر: على التوالي، السحر والآلهة.
ومع تطور الهياكل في البداية، فمن الضروري الاعتماد على أكثر من مجرد الإيمان أو التقاليد، إذ توفر القيم المشتركة القناعة بأفعال أكبر، ويشهد على تلك القيم نجاح تلك الأفعال.
نجاح غري -غري هو دليل تجريبي على السحر، وتميل فائدته نحو الثقة بالمزيد من أنشطة السحرة.
ويشير نان وسانشيز دي لا سييرا إلى ذلك: “ويبدو أن العديد من [التعاويذ] تزود الأفراد بشعور أكبر بالأمن والثقة، وهو ما يمكن أن يعمل على الحد من قلقهم وتحسين أدائهم.
على سبيل المثال، توفر معظم التعويذات الحماية، سواء كانت من الجفاف أو المرض أو الهجمات على القرية أو حتى لإلحاق الأذى باللصوص المحتملين -كما يؤمن اللصوص بفعالية تلك التعويذات، التي تعمل بمثابة رادع “.
وبعبارة أخرى: تؤدي الممارسات والمؤسسات عدة أدوار مختلفة، جميعها مرتبطة ببعضها. كذلك يؤدي الاختلاط إلى تفاقم مشكلة الوضوح.
عندما نناقش القيم المتغيرة، فإننا كثيرًا ما نفكر بطريقة هرمية: إيديولوجية جديدة ومقنعة ترسخت لأسباب فكرية.
ما يقترحه سكوت وتبني “غري -غري” هو عكس ذلك: تتطلب القوة الدافعة للقيم درجة من اليقين تعتمد على الفعل. كان إثبات غري -غري التجريبي هو ما سمح بنشرها في القرى المجاورة، وليس شعرها.
والعكس من ذلك مهم أيضًا: يمكننا تحسين مهمة محددة، ولكن هناك أدوار أخرى تحتاج إلى وقت للترسيب والتطور. مقايضة المعابد بحكومة، والقيام بالمشاحنات العادلة.
إن فائدة المؤسسة الثقافية تسمح أولاً بالتبني، ولكن صيانتها تمنح الميتيس وقتًا كافيًا للتعمق والإتقان.
إذا كنا قد فقدنا الإيمان بقيم معينة، فأحسبُ أن ذلك كان بسبب المناقشات الأكاديمية.
وقد غيّر القرن العشرين بصورةٍ كبيرة العمل والتكنولوجيا والتنظيم الاجتماعي في العالم الغربي. ومن الصعب أن نتخيل أن هذا لم يغير الميتيس أو جعل الأشكال القديمة من الميتيس غير مرتبطة، ومع أن قيم الميتيس ما زالت مطلوبة أو حتى محددة إلا أنها تفتقر إلى نفس القدر من اليقين الذي كانت تتمتع به ذات يوم.
ولا شيء يمكن أن يثبتها؛ لذلك تُبرر الادعاءات الأعلى، وكما قال الكتاب المقدس: ‹الإيمان بلا عمل ميت›، لكنَّ الإيمان بلا ميتيس لا يُصدَّق.
إن النظرة من الأعلى إلى الأسفل للقيمة تعني ضمنًا أننا نستطيع ببساطة أن نخلق أسبابًا جديدة للحياة، وأن الإيديولوجية تشكّل برهانًا في حدّ ذاتها. ولكن إذا جاءت القيم من الأسفل إلى الأعلى، فإن بحث الإنسان عن المعنى لا يمكن فصله عن عمله؛ لأنهما متشابهتان.
- ترجمة: حنان الميهوب
- تدقيق لغوي: غفران التميمي
- المصادر: 1