للإنزيمات دور في ارتباط الجهاز المناعي بالجهاز العصبي

تتزايد مستويات إنزيم إحدى الخلايا المناعيَّة في الفئران والمرضى المتوترين المصابين بالاضطراب الاكتئابي المزمن.

يشكل الإجهاد المزمن عامل خطر للإصابة بالاضطرابات النفسيَّة والعصبيَّة.

جميعنا يعاني من الإجهاد بدرجات متفاوتة، فهي إحدى التجارب الطبيعية التي يمر بها البشر، غير أن المرور بنوبات قليلة منه تبدو مفيدة في بعض الأحيان؛ فهو يشكل حافزًا لنا لمعالجة التحديات التي نواجهها أو التَّغيرات التي قد تطرأ في حياتنا، لكن الإجهاد المزمن قد يترتب عليه آثارُ ضارَّة على صحتنا النفسيَّة، كما إنه يشكل العامل الرئيسي للتعرض لخطر الإصابة بعدد من الاضطرابات النفسيَّة والعصبيَّة، منها الاضطراب الاكتئابي المزمن (MMD)، وتشكل الآلية التي يساهم بها الإجهاد في الفيزيولوجيا المرضيَّة لمثل هذه الاضطرابات مجال البحث ذي الصِّلة.

ما هو الاضطراب الاكتئابي المزمن؟

يتَّسم الاكتئاب بأنَّه تجربة مزاجيَّة متدنيَّة تتراوح نوباته في درجة الخطورة من خفيفة، مؤقتة، إلى شديدة وأكثر شدَّة. ويعد الاكتئاب السريري أو فيما يُشار إليه بالاضطراب الاكتئابي المزمن (MMD) بأشد أنواعهم خطورة، فقد يتم تشخيصه بظهور أعراضه على الفرد بصفةٍ مستمرة، منها الشعور بالاكتئاب أو تدني الحالة المزاجيَّة أو ما يطلق بانعدام التلذذ “الأنهيدونيا” وهي انعدام الشعور بالاهتمام أو السعادة بتجارب الحياة، والشعور بالذنب، والدّونيًّة، والخمول، مع مواجهة مشكلات في التركيز، أو فقدان الشهيَّة، أو حدوث اضطرابات النوم، أو التفكير في الانتحار.

يمكن أن يؤثر الإجهاد في آليَّة عمل الجهاز العصبي المركزي (CNS) Central Nervous System – المخ والحبل الشوكي الذي يتفاعل مع العمليات السيكولوجيَّة التي تحدث في باقي أجهزة جسم الإنسان كالجهاز المناعي – على سبيل المثال.

أوضحت دراسات عن عيِّنات دم مأخوذة من المرضى المصابين بالاضطراب الاكتئابي المزمن زيادة انتشار السيتوكينات المحرضة على الالتهابات من بين الخلايا المناعيَّة الأخرى لتؤدي إلى الإصابة بالتهاب منخفض الدرجة.

ففي الفئران، يمكن أن يؤدي إلى تعطيل حاجز الدَّم في الدِّماغ؛ مما يسمح بمرور السيتوكينات التي يفرزها الجهاز المناعي بصورة مباشرة إلى الدماغ. على الرَّغم أن العديد من الأبحاث أحالت سبب أمراض الجهاز المناعي الطَّرفي إلى تلك الاضطرابات المتصلة بالإجهاد، فإن الآليات الحيوية التي تقوم على هذه الصلة ما زالت غير مفهومة.

قدَّم مجموعة من العلماء، من بينهم الفريق البحثي بمستشفى زيورخ الجامعي للطب النَّفسي (PUK)، ومدرسة إيكان للطب بجبل سيناء أدلة على وجود إنزيمٍ معيَّن بالخلايا المناعيَّة الذي يمكن أن يكون هذا الرَّابط حسبما أشاروا في هذه الدراسة التي نشرت بمجلة «نيتشر».

تلعب مصفوفة الميتالوبروتيناز ((MMPs دورًا كبيرًا في الحفاظ على استتباب المصفوفة خارج الخلية (ECM)، ويفصل بين الخلايا العصبية (العصبونات) وبعضها مسافات خارج خلوية يتخللها السائل الخلالي والمصفوفة خارج الخلية التي تلعب دورًا رئيسيًا في تنظيم اللدونة المشبكية الوظيفية، حيث تتكسر المصفوفة خارج الخلية ويعاد بناؤها من جديد بفعل عدد من الإنزيمات، بما فيهم الإنزيمات المسماة بمصفوفة الميتالوبروتيناز التي تنظم أيضاً وظائف ترتبط بحدوث الالتهابات، وتقترَن بحدوث الاضطرابات الالتهابية مثل السرطان والنوبات القلبية. حالياً، لا نعلم كثيرًا عن الكيفية التي تفرز بها إنزيمات مصفوفة الميتالوبروتيناز في الجهاز المناعي الطرفي، وكيف يمكنها أن تؤثر على الدماغ حال الاجهاد.

في دراسة حديثة، استكشف الفريق البحثي آثار الإجهاد على الجهاز المناعي للفئران وأدمغتهم والذي انبثق عنه رؤى جديدة حول دور إنزيمات الميتالوبروتيناز.

زيادة تركيز مصفوفة ميتالوبروتيناز في الفئران والبشر المصابين بالاضطراب الاكتئابي المزمن.

استخدمت الدراسة نموذج الهزيمة الاجتماعية المزمنة (CSDS) الذي يعد واحدا من أكثر النماذج ملاءمة للفئران المصابة بالإجهاد النفسي، وهو أكثرهم شيوعا لاختبار كفاءة العلاجات المضادَّة للاكتئابات على المشاركين. تكمن فكرة النموذج في إخضاع فأر لتبعية آخر يتصف بالعدوانية من خلال الاتصال الجسدي والحسي لفترة تمتد إلى عشرة أيام. بعضهم يظهر ردة فعل تنم عن شعورهم بالضغط مثل البشر كالتجنب الاجتماعي، وانخفاض تفضيل المكافآت وضعف المكافآت الاجتماعيَّة على المستوى النفسي؛ فيؤدي ذلك إلى الإصابة بالمتلازمات الأيضية مثل حدوث الالتهابات، أو مشاكل بالجهاز الهضمي. ويطلق على هذه الفئران الفئران المعرضة للإجهاد STRESS-SUSCEPTIBLE (SUS) MICE. فيما لم يظهر البعض الآخر الذي خضع لنموذج الهزيمة الاجتماعيَّة المزمنة مثل هذه الاستجابات، ولم يستدل على ذلك من خلال النظر عن كثب في ملفاتهم السلوكية والنفسيَّة التي تعكس عدم تأثرهم أو إجهادهم، وبالتالي يطلق على هذا النوع بالنوع الصامد أو المعزز بالريسفيراترول RES MICE.

أجرى الباحثون وعلى رأسهم دكتور فلورين كاثوماس، طبيب نفسي وعالم أعصاب بجامعة زيورخ تنميطًا للخلايا المناعيَّة، والتعرف على تسلسل الحمض النووي الريبوزي RNA، وتحليلاً كاملاً لأدمغة الفئران المعرضة للإجهاد والصامدة أو المعززة بالريسفيراترول.

أفاد الباحثون أن في حال الفئران المعرضة للإجهاد، يعمل نموذج الهزيمة الاجتماعية المزمنة على زيادة انتشار الوحيدات، وهي أحد أنواع كريات الدم البيضاء، في الجهاز الوعائي بالدماغ، موضحين أنه بانتشارها أدى إلى زيادة تعبير مصفوفة الميتالوبروتيناز-8 عقب استخدام نموذج الهزيمة الاجتماعية المزمنة؛ حيث إنها تتخلل النواة المتكئة Nucleus Accumbens، الجزء المسئول عن المكافآت في الدماغ الذي يقترن بحدوث تغيرات عصبية فسيولوجية وسلوكية. وحسبما أضاف كاثوماس، “إذا اخترقت مصفوفة ميتالوبروتيناز-8 النسيج الدماغي عبر مجرى الدم، فإن تركيبها سوف يتغير، ومن ثم تتعطل وظائف الخلايا العصبية. وفي هذه الحالة، تظهر الفئران المتأثرة نتيجة ذلك تصرفاتٍ شبيهة بالبشر الذين يعانون الاكتئاب”.

بفصل الجين المسئول عن مصفوفة الميتالوبروتيناز، تمكن الفريق البحثي من التحقق ما إذا كان هو المسئول عن التغيرات السلوكية الملحوظة في الفئران أم لا، وقد تيقن من ذلك بفصل تلك المادة عن الفئران الصامدة التي تظهر أية تغيرات سلوكية يستدل منها على الإجهاد.

بحث كاثوماس وزملاؤه ما إذا كان الإجهاد سيسبب أيضًا نفس التغيرات في التنميط المناعي في البشر بتحليل عينات دم مأخوذة من تسعة وعشرين فردًا سليمًا وأربعين آخرين يعانون من الاضطراب الاكتئابي المزمن، فوُجد – كما فسر كاثوماس – أن “عينات الدم المأخوذة من مرضى الاكتئاب تشير إلى أن النتائج التي تم التوصل إليها باستخدام نماذج الفئران ذات الصلة أيضًا بالبشر وهي زيادة تركيز كل من الوحيدات ومصفوفة الميتالوبروتيناز-8 في دم مرضى الاكتئاب مقارنةً بالأصحَّاء”.

آلية عقل جسدية جديدة

سلطت الحقائق الضوء على وجود آلية تعمل بها أعضاء الجهاز المناعي الطرفي لتؤثر مباشرة على الجهاز العصبي المركزي في حال الإجهاد الاجتماعي، فأوضح كاثوماس أن النتائج تشير إلى وجود آلية عقل جسدية جديدة التي قد تكون ليس فحسب مسبِّبًا للإصابة بالأمراض العقلية المرتبطة بالإجهاد، بل أيضًا غيرها من الأمراض التي تؤثر على الجهاز المناعي والجهاز العصبي، مضيفًا أن دور مصفوفة الميتالوبروتيناز الذي تم تحديده في هذه الآلية قد يمهد الطريق لابتكار علاجات جديدة تستهدف الاكتئاب. وفي السياق ذاته، اختتم الفريق معلقين أن “استهداف مصفوفة الميتالوبروتيناز المشتقة من الخلايا المناعية الطرفية يمكن أن تشكل أهدافًا علاجية جديدة لاضطرابات النفسية العصبية المرتبطة بالإجهاد من خلال إجراء المزيد من الأبحاث للتحقق ما إذا وجود تلك الآلية ضروري للبشر.

  • ترجمة: زينب محمد الأصفر
  • تدقيق علمي ولغوي: حسام عبدالله
  • المصادر: 1