وجدت دراسة أنّ التّوهّج الحيويّ تطوّر في أعماق المحيطات منذ 540 مليون سنة مضت

في أحلك زوايا الكوكب، حيث لا يصل ضوء الشّمس أبدًا، قد نعثر على توهّجات غريبة تضيء الظّلال.

هذا ما يُعرف بالتّوهّج الحيويّ، قدرةٌ مميّزة قد تطوّرت، بشكلٍ منفصل، على الأقلّ 94 مرّة طوال تاريخ الحياة على الأرض. يمكن للكائنات الحيّة المتوهّجة تسخير تفاعلات كيميائيّة لإنتاج توهّج خاصّ بها، وهي أداة تستخدم لأغراض مختلفة من قبل الكائنات المختلفة التي تملك هذه الظّاهرة.

الآن، تعقّب العلماء هذه الظّاهرة وصولًا لأقدم أصول تطوّريّة معروفة لها: فصيلة من الشّعاب المرجانيّة تسمّى المرجانيّات الثّمانية في أعماق المحيط من العصر الكامبري، قبل حوالي 540 مليون سنة. وهذا أكثر من ضعف عمر حامل اللّقب السّابق، وهو قشريّ بحريّ صغير عاش قبل 267 مليون سنة في أعماق المحيطات.

تقول عالمة الأحياء البحريّة والمؤلّفة الرّئيسيّة دانييل دي ليو من معهد سميثسونيان وجامعة فلوريدا الدّوليّة “أردنا معرفة متى نشأ التّوهّج الحيويّ، وتعدّ المرجانيّات الثّمانية واحدة من أقدم مجموعات الحيوانات على الكوكب المعروفة بامتلاكها لظاهرة التّوهّج الحيويّ.

“لذا، كان السّؤال متى طوّروا هذه القدرة؟”

المرجانيّات الثّمانية هي مجموعة مثيرة من المخلوقات. مثل الشّعاب المرجانيّة الأخرى، فهي مكوّنة من عقيدات تتجمّع معًا لتشكّل مستعمرة، وغالبًا ما تعيش على إطار مصنوع من إفرازاتها المتكلّسة. ومع ذلك، فإنّ المرجانيّات الثّمانية، التي تأخذ اسمها من التّناظر الثّمانيّ للعقيدات، لديها هياكل عظميّة أكثر ليونة من أقاربها الصّلبة.

ومن المعروف أيضًا أنّ بعضها يتوهّج توهّجًا بيولوجيًا، لكن السّبب وراء ذلك يعدّ لغزًا، حيث أنّها تصدر هذا التّوهّج فقط عندما يتمّ إزعاجها. يعتقد العلماء أنّه قد يكون بمثابة إغراء للفريسة، أو للحيوانات المفترسة أن تأتي وتأكل الأسماك الصغيرة التي تتغذّى على المرجان وتدمّره.

نظرًا لأنّ المرجان من أقدم الكائنات الحيّة على الكوكب، ومن المعروف أن المرجانيّات الثّمانية تتوهّج، اعتقدت دي ليو وزملاؤها أنّ هذه الكائنات قد تكون أفضل مكان للبحث عن أصول التّوهّج الحيويّ. كانت الأسس موجودة بالفعل، مع نشر شجرة عائلة المرجانيّات الثّمانية مفصّلة في عام 2022، باستخدام البيانات الجينيّة من 185 نوعًا من المرجانيّات الثّمانية.

الخطوة التّالية كانت تحديد وتعقّب سلالات الأنواع المعروفة من المرجانيّات الثّمانية ذات التّوهّج الحيويّ، التي تمّ جمعها كجزءٍ من العمل الميدانيّ الذي أجراه عالما الأحياء البحريّة مانابو بيشو-أويهارا من جامعة ناغويا في اليابان وأندريا كواتريني من معهد سميثسونيان.

أثناء رحلاتهم لقاع البحر رصدوا توهّجًا حيويًا غير معروف مسبقًا في خمسة أنواع من المرجانيّات الثّمانية -اكتشاف يمكنهم استخدامه للخطوة التّالية، بتحليل يُسمّى إعادة بناء الحالة الأصليّة.

تشرح كواتريني: “إذا علمنا أنّ هذه الأنواع من المرجانيّات الثّمانية التي تعيش الآن تصدر توهّجًا حيويًا، يمكننا استخدام الإحصائيّات لاستنتاج ما إذا كان من المحتمل جدًا أنّ أصول هذه الأنواع متوهّج حيويًا أم لا”.

كلّما زادت الأنواع الحيّة التي تحمل هذه السّمة المشتركة، زادت احتماليّة أن تكون أسلاف تلك الأنواع تمتلك هذه الصّفة كلّما عدت بالزّمن إلى الوراء.

نفّذ الفريق العديد من التّحليلات الإحصائيّة المختلفة، وكلّها أظهرت نفس النّتيجة: ظهر التّوهّج الحيويّ لأوّل مرّة في السّلف المشترك لجميع أنواع المرجانيّات الثّمانية قبل حوالي 540 مليون عام. في ذلك الوقت، كانت حياة متعدّدة الخلايا لا تزال في مهدها، لكن كان هناك لافقاريّات بحريّة لها عيون قادرة على اكتشاف الضّوء تتقاسم المحيط الكامبري.

يشير ظهور التّوهّج الحيويّ في نفس الوقت إلى تفاعل بين أنواع مختلفة، ويمكن أن يساعد في معرفة سبب تطوّر هذه القدرة على إصدار هذا الضّوء.

لكن يبقى لدينا سؤالٌ هامّ. إذا كان لدى السّلف المشترك اليوم لآلاف أنواع المرجانيّات الثّمانية توهّج حيويّ، فلماذا لا يمتلكه إلّا القليل منها الآن؟ وكيف فقدت تلك الكائنات هذه القدرة؟ هذه هي الخطوة التّالية، ويمكن أن تسلّط المزيد من الضّوء على البيئة الغريبة للمحيط الكامبري.

نُشِر البحث في وقائع الجمعيّة الملكيّة B العلوم البيولوجيّة.

  • ترجمة: وداد عنتر
  • تدقيق علمي ولغوي: ريمة جبارة
  • المصادر: 1