ما سبب حاجتنا لأن نكون مرغوبين

إنّ مفهوم الجنس لا يتمحور حول الجنس فقط

نقاط مفتاحيّة:

• بالنّسبة للبشر، إنّ الانجذاب يتعلّق بكون المرء جذّابًا أكثر من كونه منجذبًا إلى شخص آخر.

• نحن لا نرغب بالشّخص الآخر، بل برغبة الشّخص الآخر بنا، نريد أن نكون مرغوبين.

• إنّ الرّغبة هي من تجعلنا بشرًا وذلك من خلال مساعدتنا على تجاوز احتياجاتنا الأساسيّة من أجل الحبّ.

عند السّعي نحو الحقيقة، الحكمة، وفهم الذّات، نادرًا ما يفكّر المرء بأنّ موسيقا البوب هي المكان الذي يجب البحث فيه. فبينما يظهر لنا الشّعراء الصّورة القاتمة لرجل ميّت “والذي كان يومًا ما وسيمًا وطويلًا مثلكم” (قصيدة الأرض اليباب)، تصدح إذاعاتنا بأغانٍ عن كيف أنّنا سنبقى “شبّانًا للأبد”. تقول الفلسفة “اعرف نفسك” ؛ وتقول موسيقا البوب “افقد نفسك”. يوبّخنا الكتاب المقدّس بسبب كبريائنا التّافه (سفر الجامعة)، بينما تقوم تسعة من أصل 10 أغاني على قائمة بيلبورد لأكثر 100 أغنية رواجًا بتمجيد هذا الغرور.

إنّ الكلمات الموجودة في موسيقا البوب مشهورة بالتّفاهة، وتقدّم القليل من الرّؤى المتعمّقة عن الحالة الإنسانيّة ولكنّها نافذة مفتوحة على أمنياتنا وأوهامنا. تُظهِر لنا ما نظنّ أنّنا نريده_مال سهل الجمع، جنس رخيص، شهرة، تألّق، ووفقًا لأكثر ألحان اليوم رواجًا، مفهومًا صبيانيًّا عن الرّومانسيّة_ ولكن نادرًا ما تعبّر عن معاناتنا، صراعاتنا، وأشواقنا الدّفينة.

ولكن بين الفينة والأخرى، ستظهر أغنية مشهورة لتقول شيئًا عميقًا عن بلاء الوجود البشريّ. هناك، بالطّبع، تلك التي تفعل ذلك بشكلٍ واعٍ مثل أغنية فرقة كانساس-Cansas “غبار في مهبّ الرّيح-Dust in the wind”، وأغنية آيمي واينهاوس-Amy Winehouse “إعادة تأهيل-Rehab”، وأغنية فرقة أفرومانس-Afromans “لأنّني أنتشيت-Because I Got High” _ وهناك تلك التي يبدو أنّها تصل إلى رؤيا ما عن طريق الصّدفة، رغمًا عنها تقريبًا. يمكن إيجاد مثال جيّد عن هذا في رائعة الرّوك لفرقة تشيب تريك-Cheap Trick “أريدك أن تريدني-I want You To Want Me” عام 1977. إنّ اللّحن آسر، وكلماتها قابلة للتّذكّر بسهولة لدرجة أنّها لا تحتاج إلى تكرار. إنّها أيقونيّة، واحدة من تلك الأغاني النّادرة التي تتغلغل في الثّقافة إلى درجة أنّ حتّى الأشخاص الذين لا يرغبون في سماعها أبدًا يحفظونها عن ظهر قلب.

مع ذلك، فإنّ المثير للاهتمام في أغنية “أريدك أن تريدني” ليس شهرتها بل حقيقة أنّها تدرك طبيعة الرّغبة الجنسيّة ببراعة أكثر من بعض أشهر المنظرين. بالنّسبة للبشر، تقترح بأنّ الانجذاب يتعلّق بكون المرء جذابًا أكثر من كونه منجذبًا إلى الآخر. إنّ رغبتنا مبنيّة على رغبة شريكنا أو معشوقنا والذي تثير اهتماماته اهتمامنا (سواء كان حقيقيًا أو ببساطة مأمولًا)، وبعبارة أخرى، نحن لا نرغب بالشّخص الآخر، بل برغبة الشّخص الآخر. نريد أن نكون مرغوبين.

ولكي نفهم لماذا هذا هو الحال، علينا أولًا أن نفهم الفرق الذي يبدو أنّ القليل من مراقبي الحالة الإنسانيّة يأخذونه بالحسبان. وهو التّمييز بين الحاجة والرّغبة. مثل الحيوانات (فكرة غريبة باعتراف الجميع)، فإنّ لدى البشر بعض الحاجات الأساسيّة الرّامية إلى البقاء على قيد الحياة. نحتاج إلى الطّعام، نحتاج إلى المأوى، نحتاج إلى النّوم. نحن بحاجة إلى وسيلة لإدامة النّوع. يمكن تلبية جميع هذه الاحتياجات ببساطة إلى حدّ ما إذا كان المرء قانعًا بتلبيتها وعدم تجاوزها. فالحيوانات في النّهاية تجد سبلًا للنّجاة بالحدّ الأدنى من الطّعام والمأوى والنّوم، ولا يبدو أنّها تواجه مشكلة كبيرة في التّكاثر.

هنا تدخل الرّغبة البشريّة في الإطار وتعقد الأمور بطريقة دراماتيكيّة. لأنّ البشر لا يكتفون بمجرّد تلبية احتياجاتهم_ لا أحد منّا يطمح إلى مجرّد البقاء على قيد الحياة. نحن نريد أن نزدهر. نريد طعامًا لذيذًا، ومأوىً واسعًا وممتعًا من النّاحية الجماليّة، ونومًا مريحًا، ووقتًا وفيرًا للاستجمام، وجنسًا ليس بغرض التّكاثر، بل من أجل الحبّ والمرح والمتعة. نحن نريد، أيّ أكثر بكثير ممّا نحتاج إليه. نحن نرغب في الأشياء التي تجعلنا بشرًا وليس مجرّد حيوانات.

تؤثّر هذه الرّغبة على جميع جوانب الحياة البشريّة، من حبّنا الأسمى للفنّ والثّقافة إلى أنشطتنا الأكثر شيوعًا مثل وضع المكياج، وقصّ الشّعر، والتّنزّه في الحيّ. ولكن، كما هو الحال مع كلّ الأشياء البشريّة، فإنّ الرّغبة في تجاوز احتياجاتنا الحيوانيّة الأساسيّة لا يتمّ التّعبير عنها في أيّ مكان أكثر من رغبتنا الجنسيّة. في الجنس، أكثر من أيّ شيء آخر، تفسح الحاجة الطّريق للرّغبة ويتمّ التّغلّب على الصّراع من أجل البقاء.

حتّى عندما نأكل وجبات فخمة، ما زلنا نشبع جوعنا. وعندما نعيش في منازل كبيرة ومزدانة بديكور أنيق، فإنّنا لا نزال نحتمي من أخطار الطّبيعة. إنّ إحدى أسمى الملذّات في أوقات الرّفاهية هي شعورنا بأنّ أجسادنا قد مُنحت الرّاحة التي تحتاجها.

ولكن مع الجنس، والذي يجبرنا على البحث عن شريك لغرض التّكاثر البيولوجيّ، نحن قادرون على كسر هيمنة الحاجة الحيوانيّة وإدراك الإمكانات الكاملة للرّغبة الإنسانيّة. إنّ النّشاط الجنسيّ البشريّ، والمفهوم على نطاق واسع ليشمل أشياء مثل تسامي الدّافع الجنسيّ في الفنّ والدّين، هو وحده القادر على السّعي وراء الرّغبة من أجل الرّغبة، والتّحرّر من الحاجة الحيوانيّة الوحشيّة.

أن ترغب في أن تكون مرغوبًا هو التّغلّب على الدّافع الحيوانيّ للحفاظ على النّوع. هو أن يتخلّى المرء عن غرائزه من أجل رغبة الآخرين. هو أن يدرك المرء إنسانيّته الكاملة بدافع الحبّ بدلًا من إجبار نفسه بدافع الحاجة. إنّ الرّغبة في أن يكون المرء مرغوبًا هو اعتراف ليس فقط بإنسانيّته ولكن بإنسانيّة الشّخص الآخر، شخص قادر أيضًا على الرّغبة وليس مجرّد الاحتياج.

مفهوم الجنس، إذن، لا يتعلّق بالجنس حقًا، بل بشيء أعمق وأكثر حميميّة وإنسانيّة. إنّ الجنس يتعلّق بقدرتنا على حمل بشيء أكثر قداسة من البقاء على قيد الحياة، أن نحبّ الآخر بدلاً من إشباع حاجاتنا. وهكذا، حتّى لو اتّضح أنّ أغنية “كلّ ما تحتاجه هو الحبّ” خاطئة بقدر ما هي مبتذلة -فأنت تحتاج إلى أشياء كثيرة، لكن الحبّ ليس أحدها -فالرّغبة التي ألهمتها ليست كذلك. لأنّ مثل هذه الأغاني، مثلها مثل إنسانيّتنا نفسها، تُغنى من خلال رغبتنا في الرّغبة في بعضنا البعض، وهذا أكثر ضرورة من أيّ شيء نحتاجه.

  • ترجمة: زينب كندسلي
  • تدقيق لغوي: الأيهم عبد الحميد
  • المصادر: 1