لا يمتلك الجميع صوتًا داخليًا يتدفق في رؤوسهم!

تختلف مدى تجربة الناس للصوت الداخلي بشكل كبير، وهذه الاختلافات مهمة في أداء بعض المهام المعرفية.

يمتلك معظمنا صوتًا داخليًا، ونرجِّح فرضيةَ أنَّ الجميع يمتلكون هذا الصوت، لكن الأدلة الحديثة تشير إلى أنًّ الناس يختلفون بشكلٍ كبير في مدى ما يختبرونه من الصوت الداخلي، بدءاً من حديث داخلي شبه ثابت, إلى غيابٍ فعليّ لحديث النَّفس.

يقول (غاري لوبيان) عالم الإدراك في جامعة ويسكونسن ماديسون:

«لن تدرك وجود اختلاف، حتى تبدأ بطرح الأسئلة الصحيحة، يتفاجأ الناس حقاً، نتيجة لافتراضهم أن الجميع مثلهم».

أظهرت دراسة جديدة أجراها (لوبيان) وزميلته عالمة الإدراك في جامعة كوبنهاجن (يوهان نيدرجارد)؛ أن هذه الاختلافات حقيقية، كما أن لها عواقب تؤثّر على المعرفة.

لقد كان أداء المشاركين ذوي الأصوات الداخلية الضعيفة أسوأ في المهام النفسية التي تقيس “الذاكرة اللفظية” كمثال، مقارنةً بذوي الأصوات الداخلية القوية.

وقد اقترح الباحثون تسمية نقص الكلام الداخلي ب “anendophasia” ؛ آملين بأن تساعد التسمية في تسهيل إجراء مزيد من البحوث.

وتضيف الدراسة إلى تزايد الأدلة التي تفيد بأن عوالمنا العقلية الداخلية قد تكون مختلفة بشكل عميق. يقول (لوبيان): «إنها تخبرنا عن التنوّع المذهل لتجاربنا الذاتية».

يعتقد علماء النفس أننا نستخدم الكلام الداخلي لدعم الوظائف العقلية المتنوعة.

تقول (فاميرا راسي) الباحثة المستقلة التي شاركت في تأسيس مختبر أبحاث الكلام الداخلي بجامعة ماونت رويال في كالجاري:

«تشير الأبحاث السابقة إلى أن الكلام الداخلي هو مفتاح لتنظيم الذات والأداء التنفيذي، مثل تبديل المهام والذاكرة واتخاذ القرار».

«وقد اقترح بعض الباحثين أن عدم وجود صوت داخلي قد يؤثّر على هذه المجالات وغيرها من المجالات المهمة للشعور بالذات، على الرغم من أن هذا ليس حتمياً».

يعلم الباحثون في مجال الكلام الداخلي أنَّ الأمر يختلف من شخصٍ لآخر، لكن الدراسات تستخدم عادةً مقاييس ذاتية، مثل الاستبيانات، ومن الصعب التأكد ما إذا كان ما يقوله الناس ويدور في أذهانهم هو ما يحدث بالفعل.

يقول (تشارلز فيرنيهو) عالم النفس بجامعة دورهام في إنجلترا، والذي لم يشارك في الدراسة: «من الصعب جدًا التفكير في تجارب المرء الداخلية، ومعظم الناس لا يجيدون ذلك عندما يبدؤون».

وقد اقترح بعض الباحثين في السابق أن الاختلافات في أحكام المشاركين في الدراسة حول ما إذا كانت أسماء الأشياء المختلفة ذات القافية يمكن أن تكون بمثابة مقياس موضوعي للكلام الداخلي، لكن الدراسة الجديدة هي الأولى التي تظهر أن الافتقار إلى الكلام الداخلي يؤثر على الأداء في بعض المهام الإدراكية.

كان (لوبيان) قد أجرى تقييمًا سابقًا على 1037 شخصًا باستخدام مقياس يسمى استبيان التمثيلات الداخلية (IRQ)، كجزء من بحث جارٍ. وبالنسبة للجزء اللفظي من استبيان التمثيلات الداخلية (IRQ)، أشار المشاركون إلى موافقتهم على عبارات مثل” أفكر في المشاكل في ذهني في شكل محادثة مع نفسي“على مقياس من واحد إلى خمسة.

بالنسبة للدراسة الجديدة، قام (لوبيان ونيدرغارد) بتجنيد 47 مشاركًا سجلوا أعلى الدرجات في امتلاك صوت داخلي و46 مشاركًا سجلوا درجات منخفضة – تقريبًا في الخُمس الأعلى والأدنى من الدرجات. ثم أعطيا هؤلاء المشاركين أربع مهام متعلقة باللغة اعتقدوا أنها قد تتأثر باستخدام الكلام الداخلي.

في الأولى، عُرضت على المشاركين خمس كلمات بإيجاز وطُلب منهم ترديدها.

وتضمنت الثانية أن يقول المشاركون ما إذا كانت أسماء الأشياء في صورتين متناغمة أم لا. في كلتا التجربتين كانت المجموعة ذات درجة الكلام الداخلي الأدنى أقل دقةً في استجاباتها. أما بالنسبة لأحكام القافية، فقد كان الأفراد الذين يتمتعون بدرجة أعلى من الكلام الداخلي أسرع أيضًا. يقول فيرنيهوغ:

«تختبر هذه الدراسة الواسعة النطاق حقًا ما يقدمه لنا الكلام الداخلي من فوائد معرفية».

بعد الاختبار، سأل الباحثون المشاركين عما إذا كانوا قد تحدثوا بصوت عالٍ أثناء هذه المهام. قالت نسبة مماثلة من كلتا المجموعتين أنهم فعلوا ذلك، وعندما قارن الباحثون بين هؤلاء المشاركين فقط، اختفى الفرق بين المجموعتين، مما يشير إلى أن التحدث بصوت عالٍ يعوض عن نقص الكلام الداخلي.

أما المهمة الثالثة فقد اختبرت التبديل بين المهام، أي التحول السريع بين الجمع أو الطرح، عند الطلب أو بالتناوب. وقد أشارت دراسات سابقة إلى أن الناس يستخدمون الكلام الداخلي لتوجيه أنفسهم في تبديل المهام. بحثت المهمة الرابعة عن الاختلافات في قدرة المشاركين على تحديد الاختلافات بين صورتين ظليلتين من نفس الفئة أو من فئات مختلفة (قطتان مختلفتان مقابل كلب وقطة على سبيل المثال)، حيث تؤثر اللغة على الفئات والتسميات. لم تظهر المجموعات أي اختلافات في هذه المهام. ويشير لوبيان إلى أنه من المحتمل أن يستخدم الناس العديد من الاستراتيجيات الأخرى للتبديل بين المهام، مثل استخدام الأصابع للتتبع، في حين أن الكلام الداخلي قد لا يكون مفيدًا في أحكام التشابه البصري.

قد يكون للبحث آثار طبيَّة. يقول (لوبيان):« قد يكون الأشخاص الذين يعانون من الكلام الداخلي أكثر اعتماداً على اللغة في تفكيرهم».

« لذا فإن ضعف اللغة الناتج عن السكتة الدماغية قد يكون له تأثير أكثر حدة، وقد يستفيدون من علاجات مختلفة».

يقول (لاديسلاس نالبورتشيك) عالم الأعصاب في معهد باريس للدماغ الذي لم يشارك في الدراسة، «إن فهم كيفية تطور الكلام الداخلي له آثار على التعليم» . ويضيف:«قد تؤثر التباينات في قدرة الأطفال على تمثيل أصوات الكلام على قدرتهم على تعلم العلاقة بين الأصوات والكتابة، وهذا بدوره قد يؤثر على الطريقة التي يتعلمون بها القراءة والكتابة، والتي ربما يكون لها تأثير هائل على طرق اكتسابهم للمعرفة ».

يقترح الباحثون تسمية نقص الكلام الداخلي باسم:” أنيندوفاسيا/ anendophasia “ (من اليونانية: ” an “ تعني نقص، و” endo “ تعني داخلي، و” phasia “ تعني كلام). على أمل أن يشجع ذلك على إجراء المزيد من الأبحاث، مشيرين إلى حدوث أمر مشابه عندما تمت صياغة مصطلح” أفانتازيا“للأشخاص الذين يفتقرون إلى التخيل الذهني البصري. يقول (لوبيان):

«إنه يساعد الناس على إيجاد وتجميع الأبحاث حول موضوع ما، فإذا كان الأشخاص الذين يدرسون شيئًا ما يطلقون عليه أسماء مختلفة، يصبح الأمر أكثر تشتتًا.».

كما تشكل مجتمع عبر الإنترنت حول الأفانتازيا، ويضم حاليًا أكثر من 60,000 عضو.

ولكن هناك أيضًا معارضة حول هذا النهج. يقول (فيرنيهو):

« لست مقتنعًا بأن صياغة مصطلح جديد هو أمر مفيد؛ فهو ينطوي على خطر اعتبار هذا النمط من التجربة شرطاً.».

« أفضّل الترويج لرسالة مفادها أن التنوع في التجربة الداخلية يجب أن يكون نقطة انطلاقنا – فلا يوجد عقلان متماثلان.».

يشير (فيرنيهو) إلى أن المشاركين في مجموعة الكلام الداخلي المنخفض كانوا في الخمس الأسفل فقط، كما تم قياسه على أحد المقاييس. ويقول:” هذا لا يعني بأي حال من الأحوال غياب الكلام الداخلي“. يأمل الباحثون في متابعة هذا السؤال من خلال تجنيد المشاركين الذين حصلوا على درجات منخفضة للغاية، للتحقق مما إذا كان الغياب التام للكلام الداخلي موجودًا بالفعل. يقول (لوبيان):« هذا بالتأكيد على جدول الأعمال».

يختلف الخطاب الداخلي أيضًا بالنسبة لفرد نفسه. يقول (فيرنيهو):

«يمكن أن تختلف تجربتنا الداخلية من لحظة إلى أخرى، اعتمادًا على ما نقوم به».

” لقد أظهر عملنا أن الخطاب الداخلي يختلف في مجموعة من الأبعاد الموثوقة“.

ويشمل ذلك مدى تشابه الحوار، وما إذا كان مكثفًا، ونوعيته العاطفية. ويضيف (فيرنيهو):

«السؤال المثير للاهتمام بالنسبة للمستقبل هو ما إذا كانت أنواع معينة من الكلام الداخلي يمكن أن تساعدنا في حل تحديات معرفية معينة، بدلًا من مجرد معرفة ما يحدث بشكل عام.».

إن الحصول على مقاييس أكثر موضوعية للاختلافات في الكلام الداخلي سيكون أحد السبل المهمة للعمل المستقبلي، وذلك باستخدام تصوير الدماغ على سبيل المثال. يقول (نالبورشيك):

«يمكننا محاولة فك شيفرات إشارات الدماغ إذا كان المشارك يسمع صوتًا، وما نوع الصوت، وما إلى ذلك».

«ستكون هذه هي الخطوة المنطقية التالية. »

في الوقت الراهن، توضح هذه الاختلافات، جنباً إلى جنب مع “الأفانتازيا” والحس المواكب (تجربة حاسة واحدة كحاسة مختلفة)، مدى اختلاف الحياة الداخلية للأشخاص.

يقول (نالبورشيك): « إنه جزءٌ كبير من لغز ما يعنيه أن تكونَ إنسانًا ».

  • ترجمة: عبير ياسين
  • تدقيق علمي ولغوي: رشا عسكر
  • المصادر: 1