الكتابة بلسم للأرواح
تمرن على الكتابة التعبيرية وتلمَّس أثرها في مشاعرك
تتعدى الكتابة التعبيرية كونها مجرد فعل اعتيادي نوثق من خلاله الأحداث اليومية، بل هي أداة خلَّاقة للمعاني. إذ تمنحنا الفرصة لنسرد قصصنا النابضة بالحياة مجددًا من زاوية المسؤولية الذاتية.
وعبّر عنها الكاتب والمتحدث الناشط ‘باركر بالمر’بأنها دعوة للولوج داخل ‘الفجوة المأساوية’ أو الوقوف على العتبة الفاصلة بين الواقع والممكن.
ما هي الكتابة التعبيرية؟
ترأس ‘جيمس بيني بيكر’ -عالم النفس الاجتماعي والأستاذ الفخري من جامعة تكساس في أوستن- بحثًا حول الكتابة التعبيرية، طُلب فيه من المتطوعين أن يعبّرو بطريقة مأساوية، ويكتبوا عما تعرضوا له من أحداث خلفت وراءها الكرب أو الصدمة، ثم يفتشوا عن طوق نجاة يوصلهم إلى بر الأمان. في بادئ الأمر، جمع بيكر وزملاؤه طلاب الجامعات المتطوعين في المختبر، ثم قسموهم عشوائيًا لفريقين كُلِّفوا أن يكتبوا إما عن تجربة مريرة أو حدث طبيعي تعرضوا له، مثل: (توثيق أحداث الأسبوع الماضي)، مما يعكس أيضًا مهاراتهم في إدارة الوقت. في كلتا التجربتين، وثق المشاركون تجاربهم بهوية مجهولة. ففي البداية، افترض الباحثون أن بوح المشاركين عن ذواتهم سيجعل مكامن نفوسهم تطفو على أسطح الورق، وهذا بدوره سيؤدي لنتائج إيجابية على صحتهم.
ورغم صحة بعض تلك الافتراضات السابقة، تبين أن السر الحقيقي يكمن في فعل الكتابة ذاته، وليس في طريقة البوح. خلفت الكتابة مشاعر الاستياء لدى بعض المشاركين الذين تحدثوا عن تجاربهم المريرة، لكن على المدى البعيد أثمرت كتاباتهم ثمارًا طيبة مقارنة بالمجموعة الثانية، دلت عليها زياراتهم المتكررة لمركز الصحة الطلابي. علاوة على ذلك، فإن طلاب المجموعة الأولى الذين اتسمت كتاباتهم أثناء الدراسة بالغموض كانوا قادرين على صياغة الأحداث ببلاغة منقطعة النظير، مما ينم عن تقديرهم لقصصهم.
تطابقت نتائج الدراسات اللاحقة لشريحة واسعة من الباحثين واتسع نطاق المتطوعين فيها لتشمل المحاربين القدماء، والعاملين في الرعاية الصحية، والناجين من السرطان، والمصابين بالأمراض المزمنة، وضحايا الجرائم، وموظفي الإسعاف، والأمهات الجدد، ومقدمي الرعاية، والفاقدين حديثًا لوظائفهم، والسجناء. علاوة على ذلك، تبين أن مدة الكتابة وعدد جلسات الكتابة لم يحسّنا الصحة على نحو ملحوظ. وفي جميع الدراسات، أقيمت جلسات متتالية للكتابة في أماكن مختلفة وتراوحت المدة الفاصلة بينها من دقائق إلى أسابيع، استغرق فيها المشاركون من دقيقتين إلى خمس عشرة دقيقة في الكتابة.
من المثير للاهتمام أن الفائدة لا تنحصر فقط في الكتابة عن ظروف الحياة الشخصية حسب ما أشارت إليه الدراسات اللاحقة. فمثلًا، ظهرت علامات الصحة على المشاركين الذين وثَّقوا صعوبة تجارب حياة الآخرين. ورغم عدم إدراك سبب ذلك، ُفسر الأمر على أن الكتابة التعبيرية تصقل مهارات الأفراد في معالجة المشاعر، مما ينعكس لاحقًا على كفاهم الفردي. فضلًا عن ذلك، تخفف القراءة عن الآخرين آلام الشعور بالوحدة، فيتيقن القارئ أن البشر جميعًا شركاء في الابتلاء.
لمَ لا تبدأ بالكتابة الآن؟
لن يكلفك الشروع بالكتابة التعبيرية اقتناء أي معدات خاصة أو الاقتطاع من وقتك الثمين. ولعلك تفضل الكتابة على لوحة المفاتيح، لكن الكتابة اليدوية أفضل منها كونها تتطلب جهدًا إضافيًا قد يقلل من وتيرة الكتابة ولكنه يحفز التعمق في التفكير. وتبقى مسألة طول الكتابة واستمراريتها مسألة شخصية، ولكن من السهل على الغالبية الالتزام بالكتابة لمدة 15 دقيقة على مدى ثلاثة أيام متتالية.
من الجدير بالذكر، أن النتائج الإيجابية على الصحة ظهرت على حد السواء عند من التزم بالكتابة لأيام متتالية عن موضوع محدد، وكذلك الأمر لدى من اختار موضوعات متنوعة في كل جلسة. ربما مجرد سرد التجارب الأليمة أو الأحداث الصادمة له فوائد جمة، غير أن الأمر لا يخلو من طرق أخرى أكثر دقة تستحق التجربة.
على سبيل المثال، يقترح ‘بيني بيكر وسميث’ الكتابة بالتركيز على الأفكار والمشاعر المرتبطة بالحدث، في محاولة للتنقيب عن المعنى الباطن للتجربة بدلًا من مجرد توثيق الحدث. ومن المعلوم أن استخراج المعاني واستيعابها مسألة تتطلب الوقت الكافي والمحاولات العديدة.
وتتمحور الاستراتيجية الأخرى حول الكتابة عن الحدث من وجهات نظر متعددة، بدءًا من وجهة النظر الشخصية التي تستخدم ضمائر ‘أنا ونحن’؛ ثم إعادة سرد القصة بصيغة المخاطب، كما لو أنك تروي القصة لشخص أمامك في المرآة مستخدمًا الضمير ‘أنت’. وأخيرًا، الكتابة بصيغة الغائب، متبنيًا صوت شخص خارج المشهد، ومستخدمًا ضمائر مثل ‘هي, هو، أو هم’.
بالإضافة إلى ذلك يوجد طريقة أصعب ولكنها مجزية؛ وهي الكتابة بهدف استخلاص عِبرة دائمة ولسان حالك يقول: “حتمًا لم أطلب هذا الأمر، ولم أرده، وما كنت لأستحقه. أما وأنه قد حدث ما حدث، فما الحكمة من كل ذلك؟”.
أخيرًا، بعد تطبيق بعض الاستراتيجيات السابقة، ارجع خطوة للوراء ثم اقفز للمستقبل واكتب عن تجربة مريرة أو صادمة بعين نفسك المتنعِّمة بالعافية، وستكافئ بخارطة تطوّر طريقك.
في الختام نقتبس حِكَم باركر بالمر من كتابه ‘دع حياتك تتحدث: انصت لنداء ضميرك’: “أسفارنا مختلفة، تتخللها دروب مستقيمة وأخرى ملتوية، بعضها بطولية وبعضها مخيفة ومربكة. فلنؤمن بأن دروبًا ستفتح لنا مع كل سفر، تأخذنا لمكان تلتقي فيه سعادتنا العميقة مع الحاجة للعالم”.
- ترجمة: آلاء نوفلي
- تدقيق علمي ولغوي: روان نيوف
- المصادر: 1