
تطور البشر في المستقبل: رحلة عبر 10,000 عام القادمة
سؤال هاري بوناس، البالغ من العمر 57 عامًا من نيجيريا، يثير تساؤلًا جوهريًا: إذا نجا البشر من الكوارث المناخية أو اصطدام الكويكبات خلال العشرة آلاف سنة القادمة، فهل من المحتمل أن نتطور إلى نوع أكثر تقدمًا؟
تشكلت البشرية نتيجة لأربعة مليارات سنة من التطور، في رحلة بدأت من الجزيئات ذاتية التكاثر في بحار العصر الأركياني، مروراً بالأسماك عديمة العيون في أعماق الكمبري، وصولاً إلى الثدييات التي تفر من الديناصورات في الظلام؛ ثم أخيرًا، وبشكل غير متوقع، إلى ما نحن عليه الآن.
لقد شابَ تكاثر الكائنات الحية العيب، وكانت الأخطاء التي طرأت عند نسخ الجينات في بعض الأحيان تجعلها أكثر ملاءمة لبيئاتها، لذا كانت تلك الجينات تميل إلى التوارث. لقد تبع ذلك المزيد من التكاثر، والمزيد من الأخطاء، وتكررت العملية على مدى مليارات الأجيال، إلى أن ظهر الإنسان العاقل أخيرا. لكننا لسنا نهاية تلك القصة، إذ أنّ التطور لن يتوقف عندنا، بل ربما سنتطور بشكل أسرع من أي وقت مضى.
يظلُ التنبؤ بالمستقبل أمرا صعبًا، ذلك أن العالم قد يتغير بأساليب لا يمكننا تخيلها، إلا أنّ هذا لن يمنعنا من وضع افتراضات مدروسة. ومن المفارقات العجيبة أن أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل هي على الأرجح النظر إلى الماضي وافتراض أن الاتجاهات السابقة ستستمر في المستقبل. وهذا يشير إلى بعض الأمور المدهشة حول مستقبلنا.
من المحتمل أن نعيش لفترة أطول، ونصبح أكثر طولاً وبنية أخف. سنكون على الأرجح أقل عدوانية وأكثر قبولاً، ولكننا سنكون أصغر حجماً. سنكون ودودين ومرحين، ولكن ربما لن نكون مثيرين للاهتمام. على الأقل، هذه أحد الاحتمالات المستقبلية الواردة. ولكن لكي نفهم لماذا أعتقد أن ذلك محتمل، علينا أن نعود إلى علم الأحياء.
نهاية الانتقاء الطبيعي
لقد اعتبر بعض العلماء بأن ظهور الحضارة أنهى الانتقاء الطبيعي. صحيح أن الضغوط الانتقائية التي هيمنت في الماضي مثل الحيوانات المفترسة والمجاعات والطاعون والحروب قد اختفت في الغالب.
وانتهت المجاعة والوفيات الناجمة عنها إلى حد كبير بفضل المحاصيل عالية الإنتاجية، وتحسين استخدام الأسمدة، وتنظيم الأسرة. كما انخفضت معدلات العنف والحروب بشكل ملحوظ مقارنة بأي فترة سابقة، على الرغم من وجود جيوش حديثة مجهزة بأسلحة نووية. أما الحيوانات المفترسة التي كانت تهدد حياتنا، مثل الأسود والذئاب والقطط ذات الأسنان السيفية، فقد أصبحت مهددة بالانقراض أو انقرضت بالفعل. كما تم السيطرة على الأوبئة التي أودت بحياة الملايين، مثل الجدري والطاعون الأسود والكوليرا، من خلال اللقاحات والمضادات الحيوية وتحسين نظم المياه النظيفة.
لم يتوقف التطور عند ما وصلنا إليه، بل هناك عوامل جديدة تُسهم في دفع مساره. فالتطور لم يعد يقتصر على بقاء الأقوى فحسب، بل أصبح يرتبط بشكل أكبر بقدرة الأفضل على التكاثر. وعلى الرغم من أن احتمالية أن تقضي الطبيعة على البشرية تبقى ضئيلة، إلا أننا ما زلنا بحاجة إلى إيجاد شركاء وتربية الأجيال القادمة. وبالتالي، أصبح الانتقاء الجنسي يلعب دورًا محوريًا في تشكيل مسار تطورنا الحالي، حيث يحدد اختيار الشركاء والنجاح في التكاثر سمات الأجيال المستقبلية.
و إذا كانت الطبيعة لم تعد هي القوة الرئيسية التي تتحكم في تطورنا، فإن البيئة الاصطناعية التي صنعناها بأنفسنا، مثل الثقافة والتكنولوجيا والحياة المدنية، تُحدث ضغوطًا انتقائية جديدة تختلف جذريًا عما واجهناه في العصر الجليدي. لقد وجدنا أنفسنا غير متكيفين بشكل جيد مع هذا العالم الحديث الذي خلقناه، مما يفرض علينا ضرورة التكيف معه بطرق أكثر فعالية.
لقد بدأت هذه العملية بالفعل تظهر آثارها، حيث طورنا جينات تساعدنا على هضم النشا والحليب بالتزامن مع تحول أنظمتنا الغذائية لتصبح أكثر اعتمادًا على الحبوب ومنتجات الألبان. بالإضافة إلى ذلك، انتشرت طفرات جينية تساهم في مقاومة الأمراض، والتي وجدت فرصًا أكبر للانتشار في المدن المزدحمة. ومن الغريب أن أدمغتنا أصبحت أصغر حجمًا لأسباب لا تزال غير واضحة تمامًا. كل هذا يشير إلى أن البيئات غير الطبيعية التي أوجدناها تُحدث ضغوطًا انتقائية جديدة وغير مألوفة، مما يخلق مسارًا تطوريًا فريدًا وغير مألوف أيضًا.
ولكي نرسم صورة بما ستؤول إليه الأمور في المستقبل، سننظر إلى عصور ما قبل التاريخ، وندرس الاتجاهات على مدى الستة ملايين سنة الماضية من التطور. ستستمر بعض الاتجاهات، خاصة تلك التي ظهرت في ال 10,000 سنة الماضية، بعد اختراع الزراعة والحضارة. إضافة إلى ذلك، فإننا نواجه ضغوطاً انتقائية جديدة، مثل انخفاض معدل الوفيات؛ وعليه فإن دراسة الماضي قد لا تفلح في الإجابة هنا، ولكن يمكننا أن نرى كيف استجابت الأنواع الأخرى لضغوط مماثلة. قد يكون التطور عند الحيوانات الأليفة وثيق الصلة بالموضوع بشكل خاص، إذ يمكن القول بأننا أصبحنا نوعًا من القردة أليفة، والغريب في الأمر أننا نحن من جعل من أنفسنا قردة أليفة.
وعلى ضوء هذا النهج سأعرض بعض التنبؤات، وإن لم تكن دائمًا بثقة عالية، سأخمن.
أمد الحياة
يكاد يكون من المؤكد أن البشر سيتطورون ليعيشوا لفترة أطول – أطول بكثير من ذي قبل. تتطور دورات الحياة بناءً على استجابتها لمعدلات الوفيات، ومدى احتمالية التعرض للإفتراس من قبل الحيوانات المفترسة والتهديدات الأخرى. عندما تكون معدلات الوفيات مرتفعة، يجب أن تتكاثر الحيوانات في سن صغيرة، أو قد لا تتكاثر على الإطلاق. كما أنه لا توجد ميزة لتطوير الطفرات التي تمنع الشيخوخة أو السرطان – فلن تعيش طويلاً بما يكفي لاستخدامها.
عندما تكون معدلات الوفيات منخفضة، تصبح الأمور مختلفة تمامًا. فمن الأفضل أن تأخذ الكائنات وقتها للوصول إلى النضج الجنسي، حيث لا توجد ضغوط ملحة للتكاثر المبكر. بالإضافة إلى ذلك، تصبح التكيفات التي تطيل العمر وتحافظ على الخصوبة لفترات أطول ذات فائدة كبيرة، حيث توفر المزيد من الوقت للتكاثر وضمان استمرار النوع. هذا يفسر سبب امتلاك الحيوانات التي تواجه تهديدات أقل، مثل تلك التي تعيش في الجزر النائية أو أعماق المحيطات، أو تلك ذات الأحجام الكبيرة، لأعمار أطول. على سبيل المثال، أسماك قرش جرينلاند وسلاحف غالاباغوس والحيتان مقوسة الرأس تنضج في مراحل متأخرة من حياتها ويمكن أن تعيش لمئات السنين، مما يعكس كيف تؤثر البيئة والضغوط التطورية على دورة حياتها.
وحتى قبل ظهور الحضارة، تميز الإنسان بخصائص فريدة بين القردة فيما يتعلق بانخفاض معدل الوفيات وطول العمر. فالصيادون وجامعو الثمار، الذين كانوا مسلحين بالرماح والأقواس، تمكنوا من صدّ الحيوانات المفترسة بفعالية، كما أن تقاسم الطعام ضمن المجموعات ساعد في تجنب المجاعة. هذه العوامل مجتمعة أدت إلى تطور سمات مثل النضج الجنسي المتأخر والعمر الطويل، حيث كان بإمكان البشر العيش حتى سن 70 عامًا أو أكثر.
وفي المقابل شَهِدَ معدل وفيات الأطفال ارتفاعًا – إذ كان يشكل 50% أو أكثر في سن 15 عامًا. وكان يبلغ متوسط أمد الحياة 35 عامًا فقط. وحتى بعد ظهور الحضارة، ظل معدل وفيات الأطفال مرتفعًا حتى القرن التاسع عشر، بينما انخفض متوسط أمد الحياة إلى 30 عامًا بسبب الأوبئة والمجاعات.
وأدى تحسن التغذية والطب والنظافة الصحية، خلال القرنين الماضيين، إلى خفض معدل وفيات الشباب إلى أقل من 1% في معظم الدول المتقدمة. وارتفع متوسط أمد الحياة إلى 70 عامًا في جميع أنحاء العالم، و80 عامًا في الدول المتقدمة. وتعزى هذه الزيادات إلى تحسن الصحة وليس التطور، لكنها مهدت الطريق للتطور لإطالة أعمارنا.
وفي الوقت الحالي، لم تعد هناك حاجة كبيرة للتكاثر المبكر. بل إنّ سنوات التدريب اللازمة لكي تصبح طبيبًا أو مديرًا تنفيذيًا أو نجارًا تحفز على تأجيل ذلك. وبما أن متوسط عمرنا المتوقع قد تضاعف، فإن التكيف لإطالة العمر وسنوات الإنجاب أصبح الآن مفيدًا. وبالنظر إلى أن المزيد من الناس يعيشون حتى 100 أو حتى 110 سنوات – الرقم القياسي هو 122 سنة – هناك سبب للاعتقاد بأن جيناتنا يمكن أن تتطور حتى يعيش الشخص العادي بشكل روتيني 100 سنة أو أكثر.
الحجم والقوة
غالباً ما يتطور حجم الحيوانات مع مرور الوقت؛ وهو اتجاه يظهر في التيرانوصورات والحيتان والخيول والقردة بما في ذلك أشباه البشر.
وكان أشباه البشر الأوائل مثل “أوسترالوبيثكس أفارينسيس” (قرد جنوبي عفاري) و”هومو هابيلس” (الإنسان الماهر) صغيري الحجم، بطول يتراوح بين أربعة إلى خمسة أقدام (120 سم – 150 سم). أما أشباه البشر في وقت لاحق – كالإنسان المنتصب والإنسان البدائي والإنسان العاقل – فقد ازدادو طولاً. لقد واصلنا زيادة طولنا في العصور التاريخية، ذلك بسبب بتحسين التغذية جزئيًا، وغير أن الجينات تتطور أيضًا.
ويظل الغموض يكتنف السبب وراء كِبر أحجامنا مع مرور الوقت. جزئيًا، قد يكون معدل الوفيات هو الدافع وراء تطور الحجم؛ فالنمو يستغرق وقتًا، لذا فإن الحياة الأطول تعني وقتًا أطول للنمو. لكن الإناث من البشر يفضلن أيضًا الذكور طوال القامة. لذلك من المرجح أن يؤدي كل من انخفاض معدل الوفيات والتفضيلات الجنسية إلى زيادة طول البشر. واليوم، يوجد أطول الناس في العالم في أوروبا، وعلى رأسها هولندا. حيث يبلغ متوسط طول الرجال هنا 183 سم (6 أقدام)، والنساء 170 سم (5 أقدام و6 بوصات). وفي يوم من الأيام، قد يصبح معظم الناس بهذا الطول أو أطول.
ومع ازدياد طولنا، أصبحنا أكثر رشاقة. وعلى مدى مليوني سنة مضت، أصبحت هياكلنا العظمية أكثر خفة في البنية حيث قل اعتمادنا على القوة الغاشمة واعتمدنا أكثر على الأدوات والأسلحة. وبما أن الزراعة أجبرتنا على الاستقرار، أصبحت حياتنا أكثر استقراراً، وبالتالي انخفضت كثافة عظامنا. وبما أننا نقضي المزيد من الوقت خلف المكاتب ولوحات المفاتيح وعجلات القيادة، فمن المرجح أن تستمر هذه الاتجاهات.
ويشهد البشر انخفاضًا في الكتلة العضلية مقارنةً بغيرهم من القرود، وخاصةً في الجزء العلوي من الجسم، ومن المرجح أن يستمر هذا الاتجاه. تاريخيًا، اعتمد أسلافنا على القوة البدنية في الصيد وحفر الجذور والزراعة، بينما تتطلب وظائف اليوم مهارات التعامل مع الآخرين والبيانات والرموز، مما يجعل الدماغ أكثر أهمية من العضلات. وحتى في الوظائف اليدوية، مثل الزراعة والصيد وقطع الأشجار، تحل الآلات محل الجهد العضلي. ومع تراجع الحاجة إلى القوة البدنية، ستستمر عضلاتنا في الضمور.
بالإضافة إلى ذلك، أصبحت فكوكنا وأسناننا أصغر حجمًا. كان لدى أسلافنا من أشباه البشر الذين يعتمدون على النباتات كغذاء فكوك وأضراس قوية لطحن المواد النباتية الليفية. لكن مع إدخال اللحوم إلى نظامنا الغذائي، ثم البدء في طهي الطعام، بدأت هذه الأعضاء في التقلص. وفي العصر الحديث، ومع انتشار الأطعمة المصنعة التي تتطلب القليل من المضغ، مثل قطع الدجاج وشطائر بيج ماك، فمن المتوقع أن يستمر هذا الانكماش، وقد نفقد في النهاية أضراس العقل.
الجمال
ومنذ أن غادر الإنسان أفريقيا قبل حوالي 100,000 عام، تباعدت القبائل البشرية وانعزلت عن بعضها البعض بسبب العوائق الطبيعية كالمحيطات والصحاري والجبال والأنهار الجليدية والمسافات الطويلة. وفي ظل هذه الظروف المتنوعة، تطورت كل قبيلة على طريقتها الخاصة، متأثرةً بعوامل مختلفة كالمناخ وأنماط الحياة ومعايير الجمال، مما أدى إلى ظهور اختلافات واضحة في لون البشرة والعينين والشعر وملامح الوجه بين القبائل المختلفة.
ومع صعود الحضارة والتكنولوجيات الجديدة، بدأت الشعوب في التواصل والاندماج مرة أخرى. فالحروب والغزوات، وقيام الإمبراطوريات، والاستعمار، والتجارة – بما في ذلك تجارة الرقيق – كلها عوامل أدت إلى تغيير التركيبة السكانية من خلال تشجيع الزيجات المختلطة. ومع تطور وسائل النقل الحديثة، مثل الطرق والسكك الحديدية والطائرات، أصبح السفر والتنقل أكثر سهولة من أي وقت مضى. فبينما كان أسلافنا يقطعون 40 ميلاً سيرًا على الأقدام للعثور على شريك، نسافر نحن اليوم آلاف الأميال. نحن نتجه بشكل متزايد نحو عالم واحد، حيث يختلط الناس بحرية، مما سيؤدي إلى ظهور جيل جديد من البشر يتميز بالتنوع العرقي، حيث يمتزج لون البشرة الداكن والفاتح والشعر الداكن، وتتنوع الأصول بين أفريقيا وأوروبا وأستراليا وأمريكا وآسيا، مما سيؤدي في النهاية إلى ظهور متوسط عالمي جديد للون البشرة وملامح الوجه.
ومع توقف معظم أشكال الانتقاء الطبيعي، سيلعب الانتقاء الجنسي دورًا أكبر في تطور مظهرنا. فبدلًا من البقاء على قيد الحياة، سيصبح اختيار الشريك هو العامل الحاسم. قد يصبح البشر أكثر جاذبية، لكن مع تقليل التنوع في المظهر. فوسائل الإعلام العالمية قد تخلق معايير جمال موحدة، تدفع الجميع نحو نموذج مثالي واحد. ومع ذلك، قد يؤدي هذا إلى تضخيم الاختلافات بين الجنسين، إذا كان النموذج المثالي للرجل هو المظهر الذكوري والمرأة هو المظهر الأنثوي.
الذكاء والشخصية
ستتطور أدمغتنا، وهي أكثر ما يميزنا كبشر، بشكل ملحوظ. فعلى مدى الستة ملايين سنة الماضية، ازداد حجم أدمغة أشباه البشر بمقدار ثلاثة أضعاف تقريبًا، مما يدل على أن الضغط الانتقائي للأدمغة الكبيرة كان نتيجة لاستخدام الأدوات، وتكوين المجتمعات المعقدة، وتطور اللغة. قد يبدو للبعض أن هذا التطور سيستمر حتمًا، لكنه على الأرجح لن يكون كذلك.
ولكن المفاجأة هي أن أدمغتنا لا تتجه نحو النمو، بل على العكس، هي في طريقها للانكماش. ففي قارة أوروبا، وصل حجم الدماغ إلى أقصى ذروته قبل حوالي 10,000 إلى 20,000 سنة، وتحديدًا قبل أن نطور الزراعة، وبعد ذلك بدأ في الانخفاض تدريجيًا. ويلاحظ العلماء أن حجم أدمغة البشر في العصر الحالي أصغر من حجم أدمغة أسلافنا الذين عاشوا في العصور القديمة، وحتى أصغر من أدمغة أولئك الذين عاشوا في العصور الوسطى. ولا يزال السبب وراء هذا الانكماش لغزًا لم يتم حله حتى الآن.
إنّ أحد التفسيرات المحتملة لذلك هو ندرة الدهون والبروتين بعد التحول إلى الزراعة، مما جعل نمو الدماغ الكبير والحفاظ عليه أكثر صعوبة. فالأدمغة تستهلك كمية كبيرة من الطاقة، إذ تحرق حوالي 20% من السعرات الحرارية اليومية. وفي المجتمعات الزراعية التي تعاني من نقص الغذاء بشكل متكرر، قد يكون الدماغ الكبير عائقًا.
ومن جهة أخرى، قد تكون حياة الصيد وجمع الثمار أكثر تطلبًا من الزراعة في بعض النواحي. ففي عالمنا المعاصر، لم يعد الإنسان مضطرًا لمواجهة الحيوانات المفترسة أو تتبع مصادر الغذاء والماء في مناطق شاسعة. فضلا عن أن مهارات الصيد تتطلب دقة حركية عالية وتنسيقًا وقدرة على تتبع الحيوانات، وهي قدرات ربما لم نعد بحاجة إليها بنفس القدر بعد أن توقفنا عن ممارسة الصيد كنمط حياة رئيسي.
أضف إلى ذلك أنّ العيش في مجتمع كبير من المتخصصين يتطلب قدرًا أقل من قوة الدماغ مقارنةً بالعيش في قبيلة مكتفية ذاتيًا. فقد أتقن أفراد العصر الحجري العديد من المهارات، كالصيد وتتبع الأثر والبحث عن النباتات وصناعة الأدوية والأدوات، بالإضافة إلى الحروب وصناعة الموسيقى وممارسة السحر. أما الإنسان الحديث، فيؤدي أدوارًا أقل تخصصًا ضمن شبكات اجتماعية واسعة، مستفيدًا من تقسيم العمل. ففي الحضارة الحديثة، نتخصص في مهنة واحدة، ثم نعتمد على الآخرين في كل شيء آخر.
ومع ذلك، فإن حجم الدماغ ليس كل شيء: فالفيلة وحيتان الأوركا لديها أدمغة أكبر من أدمغتنا، وكان دماغ أينشتاين أصغر من المتوسط. كان لدى إنسان نياندرتال أدمغة مماثلة لأدمغتنا، ولكن كان الجزء الأكبر من الدماغ مخصصًا للبصر والتحكم في الجسم، مما يشير إلى قدرة أقل على أشياء مثل اللغة واستخدام الأدوات. لذا فإن مدى تأثير فقدان كتلة الدماغ على الذكاء الكلي غير واضح. ربما فقدنا قدرات معينة، بينما عززنا قدرات أخرى أكثر صلة بالحياة العصرية. من المحتمل أننا حافظنا على قوة المعالجة من خلال امتلاك عدد أقل وأصغر من الخلايا العصبية. ومع ذلك، ما زلت قلقًا بشأن ما فعلته تلك ال 10% المفقودة من المادة الرمادية.
صحيح أن حجم الدماغ يلعب دورًا في الذكاء، لكنه ليس العامل الوحيد. فالفيلة والحيتان تمتلك أدمغة أكبر من أدمغتنا، بينما كان دماغ العالم الشهير أينشتاين أصغر من المتوسط. وزد على ذلك أن إنسان نياندرتال، وهو أحد أقرب أسلافنا، كان يمتلك أدمغة مشابهة لنا في الحجم، لكن الجزء الأكبر منها كان مخصصًا للرؤية والتحكم في الجسم، مما قد يشير إلى قدرة أقل على استخدام اللغة والأدوات. لذلك، ليس من الواضح تمامًا كيف يؤثر فقدان كتلة الدماغ على الذكاء بشكل عام. من المحتمل أننا فقدنا بعض القدرات، لكننا في المقابل اكتسبنا قدرات أخرى أكثر ملاءمة لحياتنا المعاصرة. بالإضافة إلى أنه من المحتمل أننا حافظنا على مستوى معين من قوة المعالجة من خلال امتلاك عدد أقل من الخلايا العصبية ولكنها أكثر كفاءة. ومع ذلك، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي فقدناه بالضبط مع فقدان ال 10% من المادة الرمادية في أدمغتنا؟
ومن الغريب أن الحيوانات الأليفة طورت أيضًا أدمغة أصغر. فقد خسرت الأغنام 24% من كتلة أدمغتها بعد تدجينها، والأبقار ب 26%، والكلاب ب 30%. ويثير هذا احتمالًا مقلقًا: هل تم، كما يبدو، تربية استعداد لدينا – نحن البشر – للاستسلام (وربما حتى التفكير بشكل أقل) كما حدث للحيوانات المستأنسة؟
ولا شك أن شخصياتنا ستشهد تحولات هي الأخرى. فقد كانت حياة أسلافنا من الصيادين-جامعي الثمار تتطلب مستوى عالٍ من العدوانية، حيث كانوا يعتمدون على صيد الحيوانات الضخمة، والتنافس مع الآخرين على الشركاء، والانخراط في صراعات مع القبائل المجاورة. أما في عالمنا المعاصر، فقد أصبح الحصول على الغذاء أكثر سهولة، وأصبحنا نلجأ إلى مؤسسات مثل الشرطة والمحاكم لحل خلافاتنا. وصحيح أيضا أن الحروب لا تزال قائمة، إلا أنها تسببت في عدد أقل من الضحايا مقارنةً بالحقبات التاريخية السابقة. ونتيجة لذلك، فإن سمة العدوانية، التي كانت في الماضي ضرورية للبقاء على قيد الحياة، قد تفقد تدريجيًا أهميتها وتختفي مع مرور الوقت.
إنّ الأنماط الاجتماعية المتغيرة ستؤثر حتما على شخصياتنا. فالبشر اليوم يعيشون في مجتمعات أكبر بكثير مما كان عليه الحال في الماضي، حيث كانت القبائل تتكون من حوالي 1000 شخص. أما الآن، فنحن نعيش في مدن ضخمة مكتظة بالملايين. في الماضي، كانت علاقاتنا محدودة للغاية، وغالبًا ما كانت تستمر مدى الحياة. أما اليوم، فنحن محاطون ببحر من البشر، ونتنقل باستمرار، ونقيم آلاف العلاقات، العديد منها عابر وافتراضي. هذا التغير سيجعلنا أكثر انفتاحًا وتقبلًا للآخر، لكنه قد يتطلب منا أيضًا قدرة أكبر على التكيف والامتثال.
ليس كل شخص قادرًا على التكيف بسهولة مع نمط الحياة الحديث. فما زالت غرائزنا ورغباتنا ومخاوفنا متأثرة بشكل كبير بتلك التي كانت لدى أسلافنا في العصر الحجري، الذين كانوا يجدون معنى لحياتهم في الصيد وتوفير الطعام لأسرهم، وفي خوض الحروب مع جيرانهم، والتواصل مع أرواح الأسلاف. صحيح أن مجتمعنا الحالي يوفر لنا مستوى جيدًا من الرفاهية المادية، إلا أنه قد لا يكون قادرًا على تلبية احتياجاتنا النفسية المتأصلة في نمط حياة أسلافنا القدماء.
وقد يكون هذا هو السبب وراء معاناة أعداد متزايدة من الأشخاص من مشاكل نفسية مثل الشعور بالوحدة والقلق والاكتئاب. ويلجأ الكثيرون إلى الكحول والمواد المخدرة للتخفيف من هذه المعاناة. قد يؤدي اختيار نمط حياة يقلل من التعرض لهذه المشاكل إلى تحسين صحتنا النفسية وزيادة سعادتنا كبشر. لكن هذا قد يأتي بتكلفة. فالعديد من العباقرة والمشاهير عانوا من مشاكل نفسية. على سبيل المثال، عانى قادة مثل أبراهام لينكولن وونستون تشرشل من الاكتئاب، وكذلك فعل علماء مثل إسحاق نيوتن وتشارلز داروين، وفنانون مثل هيرمان ملفيل وإميلي ديكنسون. والبعض، مثل فيرجينيا وولف وفنسنت فان جوخ وكورت كوبين، انتحروا. وآخرون – مثل بيلي هوليداي وجيمي هندريكس وجاك كيرواك – دمرهم إدمان المخدرات.
ويثير البعض قلقًا من أن التخلص من العقول المضطربة قد يكون على حساب فقدان تلك الشرارة التي تُلهم القادة العظماء، والكتاب المبدعين، والفنانين الموهوبين، والموسيقيين المؤثرين. صحيح أن البشر في المستقبل قد يصبحون أكثر تكيفًا مع محيطهم، لكنهم قد يفقدون أيضًا القدرة على الإبداع والابتكار، والشغف بالحياة، والقدرة على إحداث تغييرات جذرية في عالمنا. قد نصبح أكثر استقرارًا وهدوءًا، لكننا قد نصبح أيضًا أقل حيوية وإثارة.
هل نحن بصدد الإعلان عن ظهور أنواع بشرية جديدة؟
صحيح أننا اليوم آخر ما تبقى من تسعة أنواع بشرية كانت موجودة في الماضي. لكن هل يمكن أن يشهد المستقبل ظهور أنواع بشرية جديدة؟ لكي يحدث ذلك، يجب أن تتشكل مجموعات بشرية معزولة تتعرض لضغوط تطورية مختلفة. صحيح أن المسافات لم تعد تشكل عائقًا كما في السابق، إلا أنه من الناحية النظرية، يمكن تحقيق العزل التناسلي من خلال اختيار الشريك على أسس معينة. فإذا كان الناس يختارون شركاءهم على أسس ثقافية أو دينية أو اجتماعية أو حتى سياسية، فقد يؤدي ذلك بمرور الوقت إلى ظهور مجموعات بشرية مختلفة وربما حتى أنواع جديدة.
في رواية “آلة الزمن”، يتخيل هربرت جورج ويلز مستقبلًا مقلقًا حيث يخلق التمايز الطبقي نوعين بشريين متميزين. تطورت الطبقة العليا إلى الإيلوي، كائنات جميلة ولكن ضامرة، بينما انحدرت الطبقة العاملة إلى المورلوكس، كائنات قبيحة تعيش تحت الأرض، لتثور في النهاية وتستعبد الإيلوي.
في الماضي، أدى الدين ونمط الحياة في بعض الأحيان إلى ظهور مجموعات بشرية متميزة وراثيًا، كما يتضح من السكان اليهود والغجر. واليوم، تلعب السياسة دورًا مشابهًا في الفصل بين الناس – فهل يمكن أن يؤدي ذلك أيضًا إلى تمايز وراثي؟ يميل الليبراليون إلى التمركز بالقرب من ليبراليين آخرين، والمحافظون بالقرب من محافظين؛ فالعديد من اليساريين يرفضون الارتباط بمؤيدي ترامب، والعكس صحيح.
هل من الممكن أن يؤدي هذا إلى ظهور نوعين مختلفين من البشر، يتمتع كل منهما بطريقة تفكير مختلفة؟ ربما لا. لكن، لا شك أن التمايز الثقافي يمكن أن يؤثر على مسار التطور بطرق مختلفة بين الأفراد والمجموعات. فكلما ازداد التنوع الثقافي، زادت فرص الحفاظ على التنوع الجيني البشري وتعزيزه.
احتمالات جديدة وغريبة
وحتى هذه اللحظة، كان تركيزي منصبًا بشكل أساسي على الماضي، من خلال منظور تاريخي. لكن المستقبل قد يحمل تغيرات جذرية مقارنةً بالماضي في بعض الجوانب. فعملية التطور نفسها قد تطورت.
ومن بين الاحتمالات المثيرة للاهتمام، يأتي مفهوم التطور الموجه، حيث نتدخل بشكل فعال في تحديد مسار تطورنا كبشر. فنحن بالفعل نمارس نوعًا من الانتقاء الطبيعي عندما نختار شركاء حياتنا بناءً على معايير معينة. لآلاف السنين، كان الآباء في مجتمعات الصيد وجمع الثمار يحرصون على تزويج بناتهم من صيادين يتمتعون بالمهارة والقوة. وحتى في الحالات التي كان فيها الأبناء يتمتعون بحرية اختيار شركائهم، كان الحصول على موافقة الأهل أمرًا ضروريًا. ولا تزال هذه الأعراف والتقاليد سائدة في العديد من الثقافات حول العالم. وهذا يعني، بطريقة ما، أننا نساهم بشكل فعال في تشكيل مستقبل تطورنا.
وفي المستقبل، سنمتلك معرفة أعمق بكثير حول كيفية تأثيرنا في تطورنا، وسيكون لدينا سيطرة أكبر على التركيب الجيني لأبنائنا. نحن بالفعل قادرون على إجراء فحوصات جينية لأنفسنا وللأجنة للكشف عن أي أمراض وراثية. ومن المتوقع أن نتمكن في المستقبل من اختيار الأجنة بناءً على الجينات التي نعتقد أنها مرغوبة، على غرار ما نقوم به في الزراعة مع المحاصيل. لقد أظهرت الأبحاث أن التعديل الجيني المباشر للأجنة البشرية أمر ممكن من الناحية التقنية، إلا أنه يثير مخاوف أخلاقية كبيرة، حيث يحول الأطفال إلى موضوع للتجارب الطبية. ومع ذلك، إذا تم تجاوز هذه المخاوف وأثبتت هذه التقنيات نجاعتها وسلامتها، فمن الممكن أن نتخيل مستقبلًا يُنظر فيه إلى الأب الذي لا يسعى لمنح أطفاله أفضل الجينات المتاحة على أنه أب مُقصِّر.
لا شك أن أجهزة الكمبيوتر تلعب دورًا متزايد الأهمية في حياتنا، حتى في مجال التطور البشري. فمع انتشار تطبيقات المواعدة على الهواتف الذكية، أصبحنا نعتمد بشكل كبير على خوارزميات الكمبيوتر في اختيار شركائنا المحتملين. هذه الخوارزميات، التي تعتمد على معايير مختلفة للتوافق، تؤثر بشكل مباشر على الجينات التي ستنتقل إلى الأجيال القادمة. بعبارة أخرى، أصبحت التقنيات الرقمية، شئنا أم أبينا، جزءًا من عملية الانتقاء الطبيعي. قد يبدو هذا الأمر غريبًا، لكنه واقع نعيشه اليوم. فكما يتم تنسيق قوائم تشغيل الموسيقى الخاصة بنا بواسطة الكمبيوتر، يتم أيضًا تحديد بعض جوانب تركيبتنا الجينية بواسطة هذه التقنيات. من الصعب التنبؤ بمستقبل تطورنا في ظل هذه الظروف، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل من الحكمة أن نترك مصير جنسنا البشري في أيدي شركات التكنولوجيا التي تتحكم في هذه التطبيقات والمنصات الرقمية؟
وفي الأخير، غالبًا ما ننظر إلى التطور البشري من منظور تاريخي، كما لو أن أهم المراحل والتحديات قد ولت وانتهت. لكن مع تسارع وتيرة التغير التكنولوجي والثقافي، ستشهد جيناتنا أيضًا تحولات كبيرة. ولعلّ أكثر جوانب التطور إثارةً للاهتمام ليست أصول الحياة أو الديناصورات أو الإنسان البدائي، بل ما نشهده اليوم، وما سيحدث في المستقبل.
- ترجمة: سليمان العبدلاوي
- المصادر: 1