صيحة مواقع التواصل الاجتماعي التي تجعل الأطفال يميلون إلى قطع علاقتهم مع والديهم

يُشخّص عدد كبير من الشباب والديهم بأنهم “نرجسيون” وذلك عن طريق تحريضهم بواسطة مجموعات دعم غير مُطّلعة.

لقد عانت شارلوت في مرحلة نضجها من استيعاب سلوك والدها، فإذا حصلت على علامة جيدة في واجبها المدرسي وعادت إلى منزلها سعيدة وفخورة بنفسها حيال ذلك، يجعلها والدها تشعر بالسوء.

قالت شارلوت: «كان يحدثني بغضب ويدمّر ثقتي بنفسي. وكان يقول لي كلامًا مثل: قد تعتقدين بأنكِ مذهلة، لكن دعيني أقول لكِ رأي الناس الحقيقي فيك».

بدا وكأنهُ في منافسة معها، لدرجة كبيرة جعلتها تتوقف عن مشاركة الأخبار الجيدة معه خوفًا من العواقب.

لقد كان متقلب المزاج بشكل جنوني، ومرت عليهِ مراحل تصرّف فيها على نحو “همجي” وكأنهُ محط الاهتمام. بدأ بشرب الكحول وتعاطي المخدرات. كما أنه عانى من الاكتئاب خلال فترات انسحب فيها من حياة عائلته لأسابيع متواصلة. في بعض الأوقات، كان مليئًا بالغضب ومرعوبًا، وكان في أوقات أخرى متواضعًا ومكسورًا. شعرت شارلوت أنه ينبغي عليها التصرف بحذر شديد جدًا عندما تتعامل معه.

قالت شارلوت وقد بلغت الآن الأربعين من عمرها: «كان متقلب المزاج. تستطيع أن تفعل شيئًا في أحد الأيام، مثلًا ألا تُرتب المكان ولن يلاحظ ذلك، ولكن في يوم آخر قد يشكّل الأمر فوضى عارمة خارجة عن السيطرة».

كانت روايته للواقع غالبًا مختلفة تمامًا عن روايتها، وقد يقول كلامًا من الواضح أنه غير صحيح. وقد علّقت على ذلك قائلةً: «من المخيف أن تتربى على يد شخص يمكنهُ الكذب ويصدق كذبته، فهذا الأمر مربك جدًا بالنسبة للطفل».

لقد شاهدت والدها وهو يتنمّر على والدتها ويعزلها عن العالم، مدمرًا ثقتها بنفسها، تمامًا كما أقنع ابنته أنها كانت “بلا قيمة” وأن أي دليل يثبت كونها ماهرة في شيء ما لم يكن حقيقيًا. لم يستطع تحمل فكرة كونهِ يواجه تحديًا.

«لا يمكن للناس استيعاب ما يعنيهِ ذلك بالفعل»

عندما كانت شارلوت في ال 20 من عمرها، دخل والدها، الذي كان يشغل عملًا بسيطًا في جنوب لندن، إلى المستشفى بعد محاولتهِ الانتحار. وفي ذلك الحين، شُخّص بمرض اضطراب الشخصية النرجسية (NPD)، وهي حالة يوصف مريضها أنه يملك شعور العظمة أو التفوق على الآخرين، والحاجة إلى تلقي الإعجاب، وفقر العاطفة والإحساس بالأفضلية.

انهارت علاقة شارلوت بوالدها في السنين اللاحقة وأصبحا متباعدين عن بعضهما. لقد توفي منذ بضعة أعوام ولكن سلوكه لا يزال يؤثر بها، إذ تقول: «لقد أثّر بي بشكل خطير جعلني أتلقى العلاج النفسي لسنوات».

والآن بعد أن أصبحت أمًا، يراودها الشك حيال الأعداد الضخمة للبالغين الذين يتكلمون بحرج حيال طفولتهم أو علاقتهم مع والديهم، ويتوصلون الى استنتاج أنهم نرجسيين.

قالت شارلوت: «أعتقد أن الناس لا تفهم ما يعنيهِ ذلك بالفعل، فَهُم يربطون أي نوع من السلوك السام تحت ذلك المسمى».

في الحقيقة، يُقدّر أن اضطراب الشخصية النرجسية يصيب بين 1% و5% من السكان، على الرغم من صعوبة الحصول على البيانات الدقيقة، كما يبحث القلة من النرجسيون الحقيقيون عن التشخيص. وقيل من قبل: إذا كنت تشك في كونك مصابًا بهِ، إذن أنت سليم منه.

ومع ذلك، يبدو أن عددًا كبيرًا من الشباب البالغين يُشخّصون والديهم بهذا المرض على ما يبدو بصورة ذاتية غير طبية. ويلجأ الكثير منهم إلى وسائل التواصل الاجتماعي متحدثين عن والدهم أو والدتهم، ويصفونهم بالنرجسية.

يضم منتدى ريديت “تربية النرجسيين”، وهو مجموعة دعم لأطفال الآباء المسيئين، ما يقرب من مليون عضو. يمكن لمستخدمي تيك توك تصفح كم هائل من محتوى الفيديو حول الآباء “النرجسيين”، موضحين أساليبهم وعلاماتهم وسلوكياتهم، غالبًا على شكل قوائم.

تناقش أحد مستخدمي تطبيق التيك توك الأذى الحاصل نتيجةً لاستخدام والدتها “النرجسية” عبارات مثل: «انتظري حتى أخبر والدكِ بهذا»، «كيف تعتقدين أنني أشعر؟» و«لماذا تشعرين بالحزن؟» كما فسرت مستخدمة أخرى للتطبيق كيف أن أباها النرجسي «يطلب ويتوقع الكثير منكِ». فيملي عليّ ما يجب فعله «بدلًا من أن يطلب منكِ ما يريد». وقالت مستخدمة ثالثة: «يخبرونك مرارًا وتكرارًا عن كم الأشياء التي فعلوها من أجلك».

لقد أوضحت أحد المعنيات، التي عرّفت عن نفسها بأنها ابنة ل “أم نرجسية بالخفاء” قائلةً للمشاهدين: «أنتم لستم بمجانين، ومن المرجح أن والدتكم تلاعبت بكم عاطفيًا معظم حياتكم». وأكملت أن الأم النرجسية بالخفاء تشعر بالغيرة من ابنتها.

وكلما تصفّحت أكثر، يبدو لك أن الوالدين النرجسيين في كل مكان.

لقد انتشرت كتب التنمية الذاتية التي تتكلم عن هذا الموضوع، وأبرز عناوين هذهِ الكتب: نَشَأْتُ لوالدين نرجسيين (نُشر في عام 2024)، أنت لست مجنونًا – بل والدتك المجنونة (نُشر عام 2021)، الأمهات النرجسيات (نُشر عام 2019)، وهل سأكون جيدة بما فيه الكفاية؟ (نُشر عام 2023). وإذا كنت تتساءل سواءً كان والديك نرجسيين أم لا، فإن هناك عددًا لا حصر له من الاختبارات التي تخصّ ذلك على الإنترنت ويمكنك البحث عنها عبر محرك الجوجل.

ولكن حذّر بعض المعالجين النفسيين من أن انفجار المعلومات هذا قد يأتي بمشاكله أيضًا.

تقول أليسون روي، وهي مستشارة للأطفال ومعالجة نفسية للمراهقين ومسجلة كطبيب ممارس لدى المؤسسة البريطانية للإرشاد والعلاج النفسي (BACP): «نحن نميل الآن، وعلى الأرجح عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إلى تبسيط الأشياء بشكل مبالغ فيه. نود أن يكون لدينا تفسيرًا بسيطًا حول الأسئلة التالية: ما خطبي؟ على من ألقي اللوم؟ هل يمكن لأحد أن يخبرني عن أداة تشخيصية واضحة تساعدني على استيعاب شعوري بالأسى وعدم الراحة؟ سوف يرد عليك البعض منا ممن خضعوا لساعات تدريبية طويلة وذو خبرة في مجال الصحة النفسية، أن المشاكل أكثر تعقيدًا من أن تُفسّر من خلال مسار طبي واحد».

تقول أليسون قد يكون الوالدين السبب في الأذى العاطفي لأبنائهم، وقد قابلت زبائن نسبوا هذا الأذى إلى والديهم لكونهم نرجسيين. ولكن نادرًا ما يكون الأمر مباشرًا مثل قول “فقط ألقِ اللوم على الوالدين” وإطلاق تسمية “النرجسي”، الذي سرعان ما يفعله جيل الهواتف الذكية.

تقول روي: «لأننا نستخدم هذهِ الأجهزة المحمولة بكثرة، فإن ما نفعله هو تمضية وقت أقل بكثير في الجلوس مع من يزعجنا، أي الوالدين، ونحاول جعل وضعنا منطقيًا ونبحث عن الأجوبة، وهذا ما يثير قلقي. فأنا أرى الوالدين الذين يكونون منشغلين جدًا ومهملين من الناحية العاطفية لأنهم منشغلون بمشاكلهم الخاصة، لكن في الواقع هذا نادر جدًا».

قد يتسبب الوالدين بالضرر لأبنائهم حتى عند الاهتمام بهم، إنهم بحاجة إلى المساعدة ودعم أنفسهم، «لذا تبدو الصورة أكثر تعقيدًا، وإذا بدأنا بتسمية الأشياء بأدوات التشخيص الذاتي هذه، عندها سوف نخاطر بقطع العلاقات الحقيقية في حياتنا».

إنه أمر مهين لضحايا الوالدين النرجسيين

يُعدّ قطع العلاقات مع الوالدين، أو عدم التواصل معهما، كما يُسمى، موضوعًا شائعًا للنقاش عبر الإنترنت، إذ ينشر مجتمعات الأطفال الذين عرّفوا أنفسهم عن امتلاكهم لوالدين نرجسيين، المصطلحات الخاصة بهم: ع. ت. ويرمز إلى “عدم التواصل”، وت. ق.ج. أي “تواصل قليل جدًا”، وعلى ذلك النحو. كما يتكرر ذكر بعض الكلمات مثل: سام، الأذى النفسي، الصدمة.

يؤمن المعالجون النفسيون أن جزءًا من الاهتمام المتزايد في تشخيص الفرد لوالديهِ باضطراب جدي بالشخصية ينشأ من الوعي المتزايد لمثل هذهِ الحالات.

تقول رونيا فريزر، وهي مدربة في التعافي من الصدمات النفسية، وخبيرة في التعافي من الأذى النرجسي: «لا شك أن زيادة الوعي ساهمت في خلق تغيّر كبير، لأنه يسمح للناس بالكشف عن السلوكيات غير الصحية والمرفوضة. كما حصل تغيّر في العلاقات بين الأبناء ووالديهم، إذ لم يتجرّأ الأطفال في السابق على انتقاد والديهم، أما الآن، فقد أصبح انتقادهم مقبولًا أكثر».

ولكن هل نحن في خطر الإفراط بتشخيص الآباء على أنهم نرجسيين؟

تجيب فريزر قائلة: «بالطبع». فبحسب قولها، بينما تُعدّ المناشدة بالسلوكيات غير المقبولة أمرًا جيدًا، «إلا أنه أصبح رائجًا وتُطلَق الألقاب بحرية وسهولة، وغالبًا ما تكون خارجة عن سياقها. إذ لا يعتبر أداء الوالدين لدورهما كأب وأم، وطفلهما المراهق لا يعجبهُ الأمر، سوء معاملة نرجسية. فحين يتخالف أحدهم معك بالرأي، لا يُعدّ ذلك سوء معاملة، وفي الزمن الذي ينتشر فيهِ علم النفس الشعبي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فإن الكثير من المصطلحات النفسية واسعة الاستخدام وبشكل مبالغ فيه، وهذا لسوء الحظ يتنافى مع جدية سوء المعاملة النرجسية».

يحدد الكُتيّب التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية، النسخة الخامسة (DSM-5)، المعايير الواضحة لاضطراب الشخصية النرجسية، والذي تُشخّص بنمط سابق للسلوك الذي يبدأ من مرحلة البلوغ المبكرة.

فقد صرّحت ريبيكا فيفاش، المعالجة النفسية المعتمدة من الجمعية البريطانية للاستشارات والعلاج النفسي (BACP): «يمكننا الاستفادة من هذه السمات ونقول يُعتبر والداي نرجسيان. قد يكونا في الطرف الأدنى من التشخيص، ولكن يمكن استخدام المصطلح واستغلاله قليلًا».

يمكن أن يُحدِث الوالد الذي يعاني من مرض اضطراب الشخصية النرجسية، مثل شارلوت، تأثيرًا بالغًا على الطفل، مسببًا له الشعور بالقلق الشديد، وقلة تقدير للذات، والاكتئاب، وميول تبعية (تعلّق غير صحي أو مفرط بشخص آخر، مثل شريك الحياة). ولكن تجربة هذه الأشياء قد لا يعني بالضرورة أنك تربيت على يد فرد نرجسي. إذ من السهل إلقاء اللوم على الوالدين اللذين من المفترض أن يكونا نرجسيين في مشاكلك الخاصة، دون تحمل مسؤولية نفسك.

إن المعالج النفسي الجيد يعلم أن هناك وسائل مفيدة وأخرى أقل فائدة تساعد على مواجهة المصاعب. فبالنسبة لفيفاش، يُعدّ حل سبب نشوء المشاكل مثل القلق وقلة تقدير الذات، وكيفية المضي قدمًا، أكثر أهميةً من إطلاق الألقاب.

وتتفق روي مع هذا الرأي، قائلةً: «إن فهم السبب الذي يجعلهم يشعرون بالضيق وما يمكنهم فعله حيال ذلك يكون مفيدًا أكثر من التشخيص».

وتؤكد شارلوت أن مصطلحًا مثل “اضطراب الشخصية النرجسية” ليس للتداول باستخفاف. إنه بعيد كل البعد عن أن يكون لديك أحد الوالدين “سام أو مزعج نوعًا ما”. كما تقول: «إن الأفراد الذين يستخدمون كلمة نرجسي بصورة خاطئة لا يدركون مدى شدة وخطورة المعنى الحقيقي الذي تحمله، ويُعدّ ذلك مهينًا بالنسبة لأولئك الذين يعانون من أثره بالفعل».

  • ترجمة: أبرار سعد
  • تدقيق علمي ولغوي: عبير ياسين
  • المصادر: 1