
الشعور بالوحدة؛ ذاك القدر المحتوم
نتيجة استطلاع للرأي أجرته الجمعية الأمريكية للطب النفسي في شباط/فبراير 2024، تبين أن مشاعر الوحدة راودت 30% من البالغين مرة في الأسبوع على الأقل و10% يوميًا خلال العام الماضي. وقد صنَّفت منظمة الصحة العالمية الوحدة ضمن مخاطر الصحة العالمية، إذ وفقًا لتقديراتها يعاني ربع البالغين وواحدًا من كل 15 مراهق من الوحدة.
تُعرّف الوحدة بأنها مشاعر معقّدة ناجمة عن الانفراد أو افتقار الفرد للرفقة، ولو كان محاطًا بأناس حوله. وفي الآونة الأخيرة، هيَّجت جائحة (COVID-19) الشعور بالوحدة نظرًا للعزلة الاجتماعية المطولة وضعف تفاعل الأفراد.
وقد تفضي العزلة وقلة العلاقات الاجتماعية إلى الشعور بالوحدة. ومع ذلك، فربما يغيب الشعور بالوحدة عند ذوي العلاقات الاجتماعية القليلة؛ ويتجلى بوضوح لدى الأفراد الاجتماعيين.
وفقًا لتقرير صادر عن (National Academies of Sciences, Engineering and Medicine), يشعر أكثر من ثلث البالغين الذين تبدأ أعمارهم من 45 عامًا فما فوق بالوحدة، كما يعاني نحو ربع البالغين الذين تتجاوز أعمارهم 65 عامًا من العزلة الاجتماعية. وتُعدّ شريحة كبار السن الأكثر عرضةً لمخاطر الوحدة أو العزلة الاجتماعية كون غالبيتهم يعيش بمفرده أو فقد عائلته أو أصدقاءه أو يعاني من أمراض مزمنة.
من ناحية أخرى، لا بد لنا أن نفرّق بين الوحدة والعزلة؛ فالعزلة هي اختيار طوعي للانفراد والتأمل والتفكر أو الاسترخاء، وغالبًا ما ينجم عنها استعادة النشاط والنمو الشخصي. أما الوحدة، من جهة أخرى، فهي في الغالب إلزامية وترتبط بمشاكل خطيرة في الصحة العقلية.
آلية التعامل مع الوحدة
بعد دفع أثمان باهظة للوقاية من الوحدة بوصفها مشكلة اجتماعية، كان لا بد من تدخّل مدروس يلائم مختلف الفئات العمرية. ويقتضي هذا التدخّل اتباع أساليب ذات طابع شخصي تضع بحسبانها جميع الفئات الاجتماعية واحتياجاتها. وتمدّ تقنيات اليقظة الذهنية، والتدريب على المعرفة الاجتماعية، والدعم الاجتماعي يد العون لكبار السن.
قاسى مارك وعائلته ويلات انسلاخ جغرافي نتيجة الاضطرابات السياسية في وطنهم. وفي حين واجه مارك وشقيقته الكبرى تحديات في مدرستهما الجديدة، عانى والديه أشد العناء في رحلة تكيفهما مع بيئة جديدة وثقافة مغايرة. في البداية، رفض مارك الذهاب إلى المدرسة وتشاجر مع شقيقته، ووجّه لوالدته كلامًا عدائيًا. ثم انعزل في غرفته، واستسلم لنوم مزمن، وألحَّ على العودة إلى وطنه لينضم ثانيةً إلى أصدقائه وعائلته المتجذرة هناك. لذا، كان لا بد من متابعة حالته في العيادة لمساعدته في ضبط نوبات غضبه.
قدّمت عيادة الصحة النفسية حلًا يساعد عائلة مارك على التكيف مع الثقافة الجديدة، وذلك بالاستعانة بمترجمين خلال الرعاية السريرية، والتعاون مع المدارس والخدمات المجتمعية. فانخرط مارك وعائلته تدريجيًا مع مجتمعهم الجديد، ومكّنهم أسلوب العلاج الشامل من التغلب على مشاعر العزلة وبناء علاقات اجتماعية جديدة.
باستطاعة اليافعين التغلب على الشعور بالوحدة وذلك من خلال: صقل المهارات الاجتماعية الذي يشمل الدراية بتكوين الصداقات والحفاظ عليها، وتسوية الخلافات، وحُسْن ترجمة الأفكار والمشاعر إلى الكلمات؛ برامج دعم الأقران التي تحدث عندما يدلي أقرانهم في المدرسة بنصائحهم، والمشاركة في الأنشطة الخارجية كالفنون والرياضة؛ وتخصيص أوقات محددة للأنشطة العائلية.
شُخّصت جيسيكا، البالغة من العمر 27 عامًا، بالقلق والاكتئاب واضطراب نقص الانتباه. وبدأت بتلقي الرعاية النفسية منذ المرحلة المدرسية المتوسطة، وكانت حالتها مستقرة وخالية من الأعراض مذ تخرجت من الجامعة قبل خمس سنوات. غير أنها لاحظت عودة الاكتئاب والقلق بعد عزلة (COVID)، فضلًا عن الاغتراب عن عائلتها، والتحاقها بوظيفة جديدة.
سعت جيسيكا لتجربة أنشطة جديدة؛ فتسلقت الجبال مع زملائها الجدد في العمل، وتبنّت قطة، وانتسبت لمدونة محبي الحيوانات الأليفة، كما التزمت بالذهاب إلى كنيسة مجاورة. وقد وفّرت هذه الأنشطة لها نوعًا من الانتماء المجتمعي وانحسرت الأعراض تباعًا.
لذا، باستطاعة البالغين أيضًا الوقاية من الوحدة وذلك من خلال: فعاليات التواصل عبر المشاركة في الهوايات وورش العمل والفعاليات الاجتماعية التي توثّق العلاقات، والانتساب إلى نوادي القراءة لبناء علاقات اجتماعية؛ الأنشطة المجتمعية كالانخراط في أعمال تطوعية الأمر الذي يعزّز الشعور بالانتماء ويوسّع شبكة العلاقات الاجتماعية؛ أنشطة مكان العمل كالمشاركة في فعاليات تأسيس الفرق والبرامج الطبية التي تُنمّي الصداقات وتُقلّل العزلة؛ التكنولوجيا التي تتيح التواصل عبر مختلف المنصات والأدوات الرقمية؛ وموارد الصحة النفسية كالاستفادة من دعم الأقران والمستشارين للتغلب على الوحدة والتحديات المختلفة.
يُعدّ بول من المحاربين القدماء، لكن خفَّت حركته إثر إصابته بمرض باركنسون في أواخر الستينيات من عمره. وقد ضاعفت استقلاليته طيلة حياته من وحدته وعزلته، وبالأخص بعد وفاة زوجته في الجائحة. ونتيجةً لدعم أبنائه، قرّر بول الالتحاق بمُجمّع المتقاعدين الذي أعاد ربطه بالمجتمع ثانيةً. كما ساعدته اللقاءات الافتراضية المنتظمة مع أحفاده على إنشاء علاقات جديدة.
تلعب التدخلات العلاجية كالعلاج السلوكي المعرفي دورًا هامًا في بناء عادات اجتماعية صحية عند الأفراد؛ فصقل المهارات الاجتماعية يرفع الكفاءة الشخصية، كما يوفر العلاج الجماعي بيئات داعمة تعجّ بالتجارب وتنمّي المهارات الاجتماعية، وتساهم تقنيات خفض التوتر المبنية على اليقظة الذهنية في رفع مستويات الوعي باللحظة الحالية والرِّفق بالنفس عند الأفراد.
وكما المراهقين والبالغين، يمكن لكبار السن تجنب الوحدة وذلك من خلال: الأنشطة الاجتماعية كالمشاركة في الأنشطة الترفيهية والفعاليات الاجتماعية ومجموعات الدعم في مراكز الإقامة التي تحدّ من العزلة الاجتماعية؛ التواصل بين الأجيال وذلك من أجل تمتين العلاقات بين الشباب وكبار السن وتوليد علاقات هادفة؛ والتأهيل التقني، إذ تفتح التقانة نوافذ تواصل مستمر بين كبار السن وعائلاتهم وأصدقائهم.
الخاتمة
تستلزم معالجة الشعور بالوحدة اتباع نهج متعدد الأبعاد يشمل كافة العوامل الفردية والشخصية والعائلية والبيئية. ولا بد أن تُطبّق هذه العلاجات بمنتهى العطف والتقبل للثقافات المغايرة، فضلًا عن الفهم المعمّق للسياقات الاجتماعية وللاحتياجات، بالإضافة إلى دمج الخبرة السريرية مع الموارد المجتمعية والتقييم المستمر لضمان فعاليتها واستدامتها.
- ترجمة: آلاء نوفلي
- تدقيق علمي ولغوي: عبير ياسين
- المصادر: 1