هل يمكن أن تكون المادة المظلمة هي ذاتها الطاقة المظلمة؟

جزءان من كوننا يبدو أنه لا مفر منهما هما المادة المظلمة والطاقة المظلمة. فهل هما وجهان لعملة واحدة؟
عندما يتعلق الأمر بالكون، فإن ما تراه لا يعكس دومًا كل ما هو كائن. لهذا السبب، تمضي النظريات والأرصاد والقياسات جنبًا إلى جنب؛ إذ تخبرك الأرصاد عمّا هو موجود بحسب أقصى قدراتنا، فيما تتيح النظرية مقارنة التوقّعات بالواقع. وعندما يتطابق الاثنان، يكون ذلك مؤشرًا على صحة الفهم. أما حين لا يتطابقان، فثمّة احتمالان: إمّا أن تكون القواعد النظرية المطبَّقة غير ملائمة، وإما أن هناك مكونات لم تُرصَد بعد رصدًا مباشرًا.

تشير أكبر الفجوات الملحوظة في فهمنا للكون —بين ما نرصده وما كنا نتوقعه استنادًا إلى ما نراه وحده— إلى مكونين إضافيين: المادة المظلمة والطاقة المظلمة. ومع أنّ هذين المكوّنين لا يظهران ارتباطًا مباشرًا، فإنّ ثمة ما يثير القلق: لم يُكتشف أيٌّ منهما مباشرة، بل نعرفهما من تأثيراتهما في البنية الكونية، ولم يُرصدا حتى اليوم في بيئة مختبرية.
وهذا يدفعك للتساؤل: هل هذان الجانبان المظلمان من كوننا، المادة المظلمة والطاقة المظلمة، مرتبطان ببعضهما؟ هل يمكن أن يدمجان، بحيث يكونان وجهين لعملة واحدة؟ على الرغم من أن علماء الكونيات لا يدمجون عادة بينهما، فإنه ليس بمستحيل. إليك ما تشير إليه العلوم (وما لا تشير إليه).

الكون مليء بالألغاز، ولكن على النطاقات الكونية الكبرى، كل واحدة منها تتعلق بالجاذبية بطبيعتها. المشكلة هي كالتالي: نعتقد أننا نعرف ما هي نظريتنا عن الجاذبية، إذ إن نظرية النسبية العامة لأينشتاين تستمر في اجتياز اختبار تلو الآخر. بغض النظر عن الظاهرة التي نواجهها، فإن ما تتنبأ به هذه النظرية غير البديهية يتطابق بشكل رائع مع ما نلاحظه.
نرى الكتلة تحني الضوء بالقدر الدقيق الذي تتنبأ به نظرية أينشتاين: من ضوء النجوم المنحني بواسطة الشمس في نظامنا الشمسي إلى المجرات الضخمة، والنجوم وأشباه النجوم، وعناقيد المجرات التي تستخدم الجاذبية لتكبير الضوء الخلفي. نرى الموجات الجاذبية مع التردد والسعة الدقيقة التي تتنبأ بها نظرية أينشتاين لثقبين أسودين يلتحمان ونجوم نيوترونية تدور حول بعضها.
قائمة نجاحات أينشتاين طويلة، من الانزياحات الحمراء الجاذبية إلى تأثير لينس-ثيرينغ إلى تقدّم الثقوب السوداء في المدارات الثنائية إلى تمدد الوقت بسبب الجاذبية والعديد من الأشياء الأخرى. كل اختبار توصلنا إلى إجرائه على النسبية العامة، بدءًا من التجارب هنا على الأرض إلى الملاحظات داخل نظامنا الشمسي إلى وصول الإشارات من مليارات السنين الضوئية بعيدًا، كلها تشير إلى أنها صحيحة تحت كل الظروف المعروفة.

عندما نأخذ نظريتنا عن الجاذبية ونطبقها على الكون بأسره، نحصل على مجموعة من المعادلات التي تكشف عن علاقة مهمة جدًا. إنها تخبرنا أنه إذا كنت تعرف مم يتكون كونك، فإن نظرية النسبية العامة يمكن أن تتنبأ لك بكيفية تصرف كونك وتطوره. يمكنك حرفيا إنشاء كونك من أي شيء يمكنك تخيله، بما في ذلك المكونات العادية مثل المادة العادية، والإشعاع، والنيوترونات، التي تتكون من الجسيمات الموجودة في النموذج القياسي، بالإضافة إلى أي شيء آخر مثل الثقوب السوداء، والموجات الجاذبية، وحتى الكيانات الافتراضية مثل المادة المظلمة والطاقة المظلمة.
تؤثر هذه المكونات المختلفة في الكون بطرائق شتى، ومن السهل إدراك السبب. كل ما عليك فعله هو أن تتخيل الكون كما كان في سالف العهد، حين كان أصغر حجمًا، وأشد حرارة، وأعظم كثافة، وأشد تجانسًا، ثم تتصور كيف سيتطور مع مرور الزمن. فمع تقدّم الزمن يتمدد الكون، غير أن الأنماط المختلفة من الطاقة لا تسلك السلوك ذاته عند حدوث هذا التمدد.

المادة العادية، على سبيل المثال، ستصبح أقل كثافة مع توسع الكون: تبقى عدد الجسيمات المتكونة من المادة كما هي، لكن الحجم الذي تشغله يزيد، مما يؤدي إلى انخفاض كثافتها. ولكنها ستجذب أيضًا، مما يعني أن المناطق في الفضاء التي لديها كثافات أعلى قليلاً من المتوسط ستجذب بشكل تفضيلي المزيد من المادة المحيطة بها مقارنةً بالمناطق الأخرى، والمناطق ذات الكثافة الأقل قليلاً من المتوسط ستميل إلى التخلي عن مادتها للمناطق المحيطة. مع مرور الوقت، لا يصبح الكون أقل كثافة فحسب، بل يبدأ أيضًا في بناء هياكل كثيفة أولاً على مقاييس صغيرة، ثم على مقاييس أكبر مع تقدم الزمن.
الإشعاع، من ناحية أخرى، لا يصبح أكثر تخفيفًا فحسب، بل أيضًا يفقد الطاقة مع توسع الكون. يعود ذلك إلى أن عدد الفوتونات، مثل عدد البروتونات، والنيوترونات، أو الإلكترونات، ثابت أيضًا، لذا مع زيادة الحجم، تنخفض كثافة العدد. لكن طاقة كل فوتون فردي، كما تعرفها طوله الموجي، ستنخفض أيضًا مع توسع الكون؛ فبما أن المسافة بين أي نقطتين تمتد، فإن طول موجة الفوتون الذي يسافر عبر الكون يزداد، مما يتسبب في فقدانه للطاقة.

عندما ننظر إلى المجرات في الكون، ومجموعات وعناقيد المجرات، وحتى الشبكة الكونية الضخمة والهائلة التي تشكلت على مدى مليارات السنين، يمكننا فحص:
خصائصها الداخلية، مثل مدى سرعة النجوم والغاز والمكونات الأخرى بداخلها تتحرك كدالة للمسافة من المركز، وخصائصها الخارجية، مثل مدى احتمالية أن تجد مجرة أخرى على مسافة معينة من أي مجرة معينة، ومدى ضخامتها، كما يُستنتج من التأثيرات الجاذبية التي تسببها، مثل العدسة الثقالية، وأين (ومقدار) المادة العادية التي تتكون منها هذه الأجسام تقع، بما في ذلك الغاز، والغبار، والنجوم، والبلازما، وأكثر من ذلك.

عندما نفعل ذلك، نجد أن المادة التي نلاحظها -كل المادة العادية، والإشعاع، وكل جسيمات النموذج القياسي الأخرى التي ينبغي أن توجد في الكون- ببساطة ليست كافية لتفسير ما نلاحظ. في كل اعتبار، بدءًا من سرعات دوران المجرات الفردية إلى حركات المجرات الفردية ضمن تجمعات إلى التجميع الكبير للمجرات في الكون إلى الكثافة الكلية للكتلة في الكون، هناك ببساطة الكثير من الكتلة التي يجب أن تكون موجودة، بنحو عامل مقداره 600%، لا يمكن تفسيرها بالمادة العادية وحدها.
جميع هذه الظواهر الملاحظة هي حقيقية جدًا، إذ لدينا أمثلة شائعة على حدوث هذا في مجموعة لا حصر لها من الأجسام، وقليل جدًا من الأجسام لا تظهر هذا التباين بين المادة العادية الموجودة وتأثيرات الجاذبية. ومع ذلك، نحن محظوظون بعض الشيء، إذ توجد مكون واحد، إذا أضفناه إلى الكون، يمكنه إعادة كل ذلك إلى المسار الصحيح: المادة المظلمة.
إذا، بالإضافة إلى المادة العادية، أضفت هذا المكون الإضافي الذي هو:

بارد، بمعنى أنه كان يتحرك بسرعة دون سرعة الضوء بكثير عندما كان الكون في مراحل شبابه. وعديم التصادم، بمعنى أنه لا يتصادم ويتبادل الزخم مع أي مادة عادية، أو إشعاع، أو جسيمات مادة مظلمة أخرى. ومظلم، بمعنى أنه غير مرئي وشفاف للإشعاع والمادة العادية. ومادة، بمعنى أنه ضخم ويجذب. فإن كل هذه الظواهر، والعديد من الظواهر الأخرى، تتوافق فجأة مع تنبؤات النسبية العامة. هناك العديد من الحجج من الأشخاص في “فريق” الأقلية الذين يعدلون الجاذبية والتي تفسر بعض هذه الظواهر – MOND، وهو اختصار للديناميات النيوتونية المعدلة، على وجه الخصوص، يفسر العديد من الظواهر التي تحدث على مقاييس كونية صغيرة (بضعة ملايين من السنين الضوئية أو أقل) بنفس جودة أو حتى أفضل من المادة المظلمة. لكن أي تعديل تقوم به يتطلب أيضًا تضمين إما مادة مظلمة أو شيء يبدو مثلها. وهذا يجعل المادة المظلمة مرشحًا جذابًا للغاية لشيء جديد موجود في كوننا.

لكن ثمّة دليلًا آخر مهمًا لم نتطرّق إليه بعد، ألا وهو الخلفية الكونية الميكروية. فإن بدأت بمحاكاة الكون منذ اللحظات الأولى للانفجار العظيم الحار، وأدخلت المكونات التي يُتوقّع وجودها حينذاك، فستجد أنه حين يكون الكون قد تمدد وتبرد بما يكفي لتتشكل الذرّات المتعادلة، يظهر نمط من التفاوت الحراري وفقًا لمقياس معيّن في توهج الانفجار العظيم المتبقّي: ذلك الحوض الحراري من الإشعاع الذي انزاح طيفه إلى أطوال موجية ميكروية حتى يومنا هذا.
الإشعاع نفسه اكتشف أول مرة في منتصف الستينيات، لكن قياس العيوب في تلك الخلفية شبه المنتظمة هو مهمة ضخمة، لأن أكثر المناطق حرارة في السماء تكون فقط نحو 0.01% أكثر حرارة من أبرد المناطق. لم نبدأ حقًا في قياس هذه العيوب الكونية الأولية حتى التسعينيات مع قمر COBE الصناعي، والذي قامت نتائجه بعد ذلك على أساسها BOOMERanG و WMAP و Planck (وغيرها). اليوم، قمنا بقياس درجة حرارة السماء الميكروية بالكامل في تسعة نطاقات طول موجي مختلفة، بدقة تقارب الميكروكلفن، حتى مقاييس زاوية صغيرة تصل إلى 0.05 درجة. والبيانات التي لدينا يمكن وصفها فقط أنها استثنائية.

ذلك النمط من التقلّبات الظاهر في الرسم البياني أعلاه حساسٌ للغاية لما يحتويه الكون. فمقدار القمم والمنخفضات ومواضعها المختلفة يكشف لنا ما يوجد في الكون، كما يستبعد النماذج الكونية التي لا تتوافق مع البيانات. فعلى سبيل المثال، إذا حاكيت كونًا يحتوي فقط على المادة العادية والإشعاع، فلن تحصل إلا على نحو نصف القمم والمنخفضات التي نراها، كما أن القمّة ستقع القمة عند زاوية أصغر مما ينبغي، فضلًا عن أن تقلّبات الحرارة ستكون أكبر بكثير من حيث المقدار. ومن ثم، فإن المادة المظلمة ضرورية لتفسير هذه المجموعة من الرصديات.
غير أن ثمة أمرًا آخر، إلى جانب المادة المظلمة، لا بدّ من وجوده أيضًا. فإذا جمعت كل ما نعرفه من المادة العادية، والمادة المظلمة، والإشعاع، والنيوترينوهات، وما إلى ذلك، فستجد أن ذلك لا يشكّل سوى نحو ثلث كمية الطاقة الكلية اللازمة لنيل هذه المجموعة من البيانات الواردة من الكون. فلا بدّ من وجود شكلٍ آخر إضافي من الطاقة، يختلف عن المادة العادية والمظلمة في أنه لا يستطيع أن يتكتّل أو يتجمّع. ومهما يكن هذا الشكل من الطاقة — وهو ضروري لتطابق الخلفية الكونية الميكروية مع الرصد — فلا بدّ من وجوده إلى جانب المادة المظلمة.

المادة المظلمة والطاقة المظلمة تتصرفان بشكل مختلف جداً عن بعضهما البعض، لكنهما “مظلمتان” بمعنى أنهما غير مرئيين لأي طريقة كشف مباشرة معروفة. يمكننا رؤية آثارهما غير المباشرة —بالنسبة للمادة المظلمة، على البنية التي تتشكل في الكون؛ وبالنسبة للطاقة المظلمة، على كيفية توسع الكون وتطور الإشعاع بداخله— لكنهما تصرفان بشكل مختلف جداً عن بعضهما البعض. الاختلافات الأكبر هي:
المادة المظلمة تتجمع، في حين أن الطاقة المظلمة تبدو منتشرة تجانسيًا في جميع أنحاء الفضاء. مع توسع الكون، تصبح كثافة المادة المظلمة أقل، لكن كثافة الطاقة المظلمة تظل ثابتة. كما أن المادة المظلمة تعمل على إبطاء توسع الكون، في حين تعمل الطاقة المظلمة بنشاط على جعل المجرات البعيدة تبدو وكأنها تتسابق بعيدًا عنا. يمكنك دائمًا إنشاء “نموذج موحد” للمادة المظلمة والطاقة المظلمة، وقد قام العديد من الفيزيائيين بذلك، ولكن لا يوجد أي دافع قوي لفعل ذلك. إذا كنت تعتقد أن هناك، فسيتعين عليك تقديم إجابة مقنعة للسؤال التالي:
لماذا يُعتبر أكثر إغراءً تقديم مكون موحد جديد له معلمتان حرتان —واحدة لتفسير تأثيرات “المادة المظلمة” وأخرى لتفسير تأثيرات “الطاقة المظلمة”— أكثر من تقديم مكونين مستقلين يتطوران بشكل مستقل عن بعضهما البعض؟

هذا السؤال يبدو خاصة مؤثرًا عندما ننظر إلى كيفية تطور المادة المظلمة والطاقة المظلمة من حيث الأهمية النسبية (من حيث ما النسبة المئوية من كثافة الطاقة التي تشكلها) كدالة للزمن. عندما كان عمر الكون بضع عشرات الآلاف من السنين، كانت المادة المظلمة تشكل نحو 80% من كثافة الطاقة في الكون. على مدار الستة مليارات سنة الماضية، أصبحت الطاقة المظلمة هي المسيطرة على توسع الكون، حيث تشكل الآن نحو 70% من إجمالي كمية الطاقة في الكون. وكأن الكون يقول للمادة المظلمة: “شكرًا لك على الحماية، سأستبدلك بعد قليل بشيء أكثر إثارة!”
مع مرور الوقت، ستصبح الطاقة المظلمة أكثر أهمية، وستصبح جميع أشكال الطاقة الأخرى، بما في ذلك المادة المظلمة، غير ذات أهمية. إذا كانت المادة المظلمة والطاقة المظلمة مرتبطة بطريقة ما ببعضهما البعض، فإن هذه العلاقة دقيقة وليست واضحة للفيزيائيين نظرًا لفهمنا الحالي للطبيعة. بالنسبة للمادة المظلمة، يجب أن تضيف مكونًا إضافيًا ينجذب إلى التجمعات، ولكنه لا يتصادم أو يمارس ضغطًا. أما بالنسبة للطاقة المظلمة، فذلك المكون لا يتجمع ولا يتصادم، لكنه يمارس ضغطًا.

هل هما مرتبطتان؟ لا يمكننا أن نقول ذلك بثقة. حتى نحصل على بعض الأدلة التي تثبت فعلاً أن هذين الشيئين مرتبطان بطريقة ما، علينا اتباع النهج المحافظ. تقوم المادة المظلمة بتشكيل والحفاظ على أكبر الهياكل المرتبطة، ولكن الطاقة المظلمة تدفع تلك الهياكل الفردية بعيدًا عن بعضها البعض. يبدو أن الأخيرة ناجحة جدًا لدرجة أنه بعد نحو 100 مليار سنة، سيكون كل ما تبقى من كوننا المرئي هو المجموعة المحلية من المجرات. بخلاف ذلك، سيكون هناك فقط فراغ فارغ من العدم، دون أي مجرات أخرى مرئية على مدى تريليونات وتريليونات السنوات الضوئية. وكأن الكون يفضل الاحتفاظ بأصدقائه القريبين فحسب!

  • ترجمة: ريم الأحمد
  • المصادر: 1