
هل (متلازمة الابنة الكبرى) هي قدرها المحتوم أم قوتها الخفية؟ اكتشف الحقيقة!
الأخت الكبرى نِعمة أم نَقمة؟
أولى المولودات أصلبهن عودًا وفقًا لآخر الأبحاث.
في الثمانينيات، لم يتسنَّ ل (ليزا دوسيه ألبرت) الاستمتاع بسنوات مراهقة مثالية، فبينما تسكع أقرانها في مراكز التسوق وقاعات الترفيه لضاحيتهم (رود آيلاند)، انهمكت بطبخ الطعام لعائلتها والتبضع وأداء جميع الواجبات في أثناء عمل والدتها. وبصفتها الأخت الكبرى، تحمَّلت مسؤولية رعاية أخيها الأصغر، فأدركت أن العناية بالآخرين باتت من أولوياتها.
وبوصفها المديرة العامة لشركة علاقات عامة في بروفيدنس، تعتقد (دوسيه ألبرت) أن المسؤولية الهائلة التي تحملتها خلال نشأتها تغلغلت في جوانب شخصيتها الحالية. وقالت: «لم أعتد طلب المساعدة على الإطلاق، بل أبادر بتقديمها على الدوام. ويدفعني الشعور بالواجب إلى إرضاء الآخرين، وبذل قصارى جهدي لمساعدتهم. فضلًا عن استصعابي لوضع الحدود والتلفظ بكلمة (لا)، وهذا ما أعمل على تغييره في الوقت الراهن».
تصنف (دوسيه ألبرت) نفسها مع النساء اللائي تعرّفن على أنفسهنّ عبر موجة المقالات الفكرية التي ركزت على مأساة النوع، أو ما يُعرف ب (متلازمة الابنة الكبرى)؛ وهو مصطلح جامعٌ للنمطية في ترتيب المواليد وعلم النفس الشعبي، وشامل لعُقد الكمال والتضحية بالذات والشعور بالذنب والاستياء من الإخوة نتيجة تضاعف المأساة على الفتاة بكونها فتاةً وابنةً كبرى معًا. وفي منشور حصد (4.5) مليون مشاهدة على منصة تيك توك، وصَّفَت قصيدة بعنوان “ذنب الابنة الكبرى” هذه المأساة المريرة في هذه الأبيات:
غابت عن عيني شمس السعادة
وتاقت نفسي للقيادة والريادة
أنا إن لم أضمد جراح البقية
سُلبت مني كل معالم الهوية
وترتكز فرضية متلازمة الابنة الكبرى على افتراضين جوهريين: أولًا، يُتوقع من المولدة الأولى أو الوحيدة أن تكون قدوة في الإنجاز والسلوك الحسن لإخوتها الأصغر، وثانيًا، يُعتمد عليها بتحمل الأعمال المنزلية أكثر من إخوتها الذكور. لم تحسم الأبحاث بعد ما إذا كان لترتيب المواليد أثر عميق للتنبؤ بشخصية الطفل. غير أن حدود العلم -فيما يتعلق بالبنت الكبرى- تتجاوز قِصَر مداركنا. وفي حين تركز الحديث في الأوساط الثقافية على السلبيات أو الأعباء التي تتعرض لها الابنة الكبرى، تسلط الدراسات في فروع المعرفة قاطبة الضوء على مكاسب ملموسة يجنيها الآباء والإخوة من الابنة الكبرى، لا سيما في الأوقات العصيبة. بالمقابل، فإن التساؤل عن المكاسب التي ستنالها البنت الكبرى، يبقى رهنًا بقدرتها على الصمود والتحمل.
بمعنى آخر، الفرحة بوجود أخت كبرى شيء، والقدرة على تحمل تبعات وأعباء هذا الدور شيء آخر.
ورغم رفض علماء الاجتماع نزوع العامة إلى تخصيص سمات الشخصية وفقًا لمجموعات ديموغرافية عشوائية -كالتصنيف حسب الجيل وترتيب الأشقاء- إلا أن نظرية الابنة الكبرى مُدعَّمة بأبحاث لا يستهان بها، تبين أن الفتيات يقضين جُلَّ أوقاتهن في الأعمال المنزلية مقارنةً بالفتيان؛ وغالبًا ما يُعوَّل على الأطفال الأكبر سنًا كقدوة يحتذي بها إخوتهم الأصغر.
فضلًا عن ذلك، تُوكل مهمة حضانة الأطفال لأكبر إخوتهم، وبالأخص حال عجز الآباء والأولياء عن توفير الرعاية البديلة. ووفقًا لاستطلاع رأي جرى خلال ذروة إغلاق كوفيد (19) -وتحديدًا بين شهري شباط و كانون الأول عام (2020)- وشارك فيه ما يقارب (2000) من أولياء الأمور الأمريكيين، استعان نصفهم تقريبًا بأطفالهم الأكبر سنًا لمساعدتهم جزئيًا أو كليًا في الرعاية.
ومع أن الاستطلاع لم يحدد جنس الإخوة المعنيين برعاية أشقائهم، يُلقى الحِملُ الأكبر على عاتق الفتيات وفقًا لفرضية مُدَعَّمة بدراسات سابقة. وقالت مولي فوكس أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس: «من المعتقدات المتجذرة في أبحاث الأنثروبولوجيا -عبر مختلف المجتمعات البشرية- أن الأخوات، لا الإخوة الأكبر سنًا يتولَّين الرعاية المباشرة لأشقائهن».
ترأست (فوكس) فريقًا بحثيًا حلَّ مؤخرًا لغز التصاق الرعاية عمومًا بالنساء، والذي يعد أحد أشد الألغاز التطورية إدهاشًا. فقد أكدت الدراسة المطوَّلة التي أجراها الفريق على مدار (15) عامًا، على العلاقة بين تعرض الأمهات لآلام نفسية في أثناء الحمل وتسارع البلوغ الكظري عند أكبر بناتهن. ويحدث البلوغ الكظري عندما يتزايد إنتاج الجسم لأحد الهرمونات القابلة للتحور إلى مواد كيميائية قوية، كالهرمونات الجنسية مثل الإستروجين والتستوستيرون. والأهم من ذلك، يمهد البلوغ الكظري لبدء مرحلة تطور معرفي تقترن بنضج للعاطفة والسلوك، وغالبًا ما تسبق البلوغ الطبيعي بعامين. ويغدو الطفل الذي يمر بمرحلة البلوغ الكظري مؤهلًا لتحمل مسؤوليات أكبر مثل رعاية الأطفال والطبخ وإدارة المهمات المنزلية. المثير للدهشة أن آلام الأمومة لم تتسبب بتسريع البلوغ الكظري عند الأبناء أو البنات الأصغر سنًا. وبالتالي، مدت البيولوجيا يد العون للأمهات حين خصَّت أكبر بناتهن بفرصة تعجيل البلوغ دونًا عن بقية الأبناء.
أيدفعنا هذا لا لإثبات حقيقة متلازمة الابنة الكبرى فحسب، بل لنذهب في يقيننا أبعد من ذلك ونؤكد بدء تكونها في أرحام الأمهات؟ أجابت فوكس: نعم، دون أدنى شك هذا غالبًا ما يحدث. تعد البنت البكر التي مرت بنضوج مبكِّر أكسبها القدرة على رعاية من دونها من الأشقاء من أجلِّ النِّعم لكل أمّ تمر بظروف عصيبة، وقالت: «تتسق هذه الفكرة مع ظاهرة الابنة الكبرى».
علاوة على ذلك، تعد الأخت الكبرى في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط بوابة عبور لأشقائها الأصغر نحو النجاح والازدهار المستقبلي. ووفقًا لدراسة أُجريت عام (2020)، وعنيت بأنماط نمو الطفولة المبكرة في ريف كينيا، تبين أن الأطفال الذين يحظون بأخت كبرى أحرزوا نتائج أعلى من ناحية المفردات وتطور المهارات الحركية الدقيقة، وهي صفات مميزة مقترنة بأعلى درجات الانتباه والتفاعل مقارنة بمن لديهم أخٌ أكبر. وكتب الباحثون في منشور على مدونة لمركز (Global Development): «ولدى المقارنة، تبين أن تأثير الأخت الكبرى يُعادل تقريبًا فرق النمو بين الأطفال الذين أتمت أمهاتهم المرحلة الثانوية وأولئك الذين لم تكمل أمهاتهم إلا المرحلة الابتدائية فقط».
وأشارت باميلا جاكيلا أستاذة الاقتصاد في كلية (Williams) والباحثة المشاركة في الدراسة إلى صعوبة الجزم بوجود أثر مماثل لكبرى الأخوات في الولايات المتحدة على النمو المبكر لإخوتهن الأصغر. فعادةً ما تنجب الأمهات القاطنات في ريف كينيا عددًا أكبر من الأطفال مقارنةً بالأمهات في الولايات المتحدة، وبالتالي فعدد الأطفال المحتاجين لرعاية فورية يكون أكبر. كما أن رعاية الرضع والأطفال ستلقى على عاتق أفراد الأسرة نظرًا لقلة فرص حصول الأطفال على الرعاية في مراكز متخصصة، مثل دور الحضانة ومراكز الرعاية النهارية. ولهذا تتسم الأدوار والمسؤوليات بين الجنسين بصرامة أكبر مما هي عليه في الولايات المتحدة، حيث توقف الأعمال المنزلية والرعاية على الفتيات والنساء.
وتنطبق نتائج هذه الدراسة على الأُسر الأمريكية التي يعوِّل الآباء فيها بقوة على أكبر أبنائهم للمساعدة المنزلية. ومع أن الأدوار والمسؤوليات الأُسرية لم تعد تُقسَّم حسب الجنس كما كانت سابقًا، لا تزال غالبية الأعمال المنزلية تترأس مهام النساء الأمريكيات.
ويندرج البحث في “محنة الابنة الكبرى” ضمن النقاشات الموسعة حول نوعية التوقعات الملائمة للأطفال، لا سيما في ظل القلق المتزايد بشأن الأضرار المحتملة ل “التربية الأبوية”. وأفاد جمع من مستخدمي التيك توك والمختصيين في المعالجة أن مطالبة الأطفال بتحمل مسؤوليات كبيرة قبل أوانها قد تُحدث اضطرابات مستقبلية في علاقاتهم وصحتهم النفسية.
ورغم التضحيات، فإن مكانة الابنة الكبرى زاخرةٌ بالامتيازات؛ فقد خلصت دراسة أجراها باحثون من جامعة (Essex) عام (2014)، أن الفتيات البكر هنّ الأكثر طموحًا ونجاحًا في عائلاتهنّ. وفي دراسة نُشرت عام (2018) في مجلة (Child Development) تبين أن رعاية الأخ الأكبر لأخيه الأصغر -بغض النظر عن جنسه- تعزز التعاطف بينهما.
وفي ظلال الرعاية تتوثق عُرى الأُخوة؛ فهذا (جوناثان ويستوفر) سادس أشقائه الثمانية الذين ترعرعوا في ولاية يوتا في ثمانينيات القرن الماضي، يحدثنا عن أخته الكبرى التي لعبت دور والده الثالث في طفولته: «كان قضاء أغلب الأوقات بصحبتها أمرًا استثنائيًا في تلك الفترة، نظرًا لفرق العمر بيننا بما يناهز العقد من الزمان». وأضاف: «لا تزال علاقتي بها إلى الآن أوثق من علاقتي ببقية إخوتي الأكبر».
تحاكي قصة (ويستوفر) تجربتي الشخصية فأنا البنت الوحيدة البكر لعائلة تضم ثلاثة أطفال. لا أستطيع الجزم بانقطاعي لفترات زمنية مخصصة لإخوتي الأصغر -باعتبار فارق السن بيننا لأربع وست سنوات- لو لم يكلفني والديَّ رعايتهم بعد المدرسة وأثناء اضطرارهم للخروج ليلًا في بعض الأحيان. ورغم أنني لم أكن مثل (ماري بوبينز) -كما يحلو لإخوتي أن يشبهوني بها- إلا أن لعب دور الأم البديلة مكنني من نسج علاقة دافئة ودودة وثقت عُرى الأخوة بيننا فيما بعد.
ولم أشعر بتبعات سلبية لقاء التزامي بمهام عائلية كحال الكثيرين، والفرق الجوهري يكمن في أن والديّ لم يتوقعا مني على الإطلاق أن أُقدِّم احتياجهما لرعاية أخوتي على تجارب طفولتي. فإذا كانت لدي التزامات بعد المدرسة في تدريب مسرحي أو تمرين لكرة المضرب، كانا يتكفلان بإحضار شخص آخر يعتني بإخوتي حتى يعود أحدنا للمنزل -مع الأخذ بعين الاعتبار أن تواجد كلا جدّيَّ بقربنا، سهَّل المهمة نسبيًا.
وفي المقابل، أشار (ويستوفر) إلى اعتماد والديه على أخته الكبرى لتوفير الرعاية لبقية أطفالهما في أثناء غيابهما، وذلك على حساب حياتها الاجتماعية وأنشطتها الخارجية. وأضاف ويستوفر: «هذا ما جعل ردود أفعالها دفاعية وراحت تسيء التصرف مع والديّ لأنهما أثقلا كاهلها بمسؤوليات مجحفة فاقت قدرتها على الاحتمال، واستمرت على هذا المنوال حتى البلوغ». ونشأت زوجته وأختها الكبرى أيضًا في جو عائلي وتجربة مماثلة. كلتا العائلتين قسمت جزءًا من الأعباء للإخوة الأكبر.
وبصفته أستاذ القيادة التنظيمية في جامعة (Utah Valley) وأبًا لستة أطفال، أخبرنا ويستوفر عن مدى حرصته وزوجته على عدم تكرار أخطاء والديهما. وقال: «نسعى أن لا نحمل أطفالنا ما لا طاقة لهم به من مسؤولياتنا. وفي حال احتجنا للمساعدة، فإننا نراعي تقسيم المهام بينهم بالعدل، ودون تمييز بين ذكر وأنثى». وتبلغ ابنتهما البكر الآن (20) عامًا.
ووضحت لينيت أزي ليسين أستاذة العمل الاجتماعي في جامعة (Boston) وأبرز أعضاء منظمة رعاية الطفل الأمريكية أن لا ضير في تأهيل الأطفال ليتحملوا مسؤوليات أكبر طالما أنهم قادرون على إنجاز المهام الموكلة إليهم، فمشاعر الكفاءة المصاحبة للأطفال الأكبر سنًا عند أدائهم لمهام البالغين تولّد الثقة بالنفس. لكن عندما تحد المسؤوليات الأسرية من قدرة الأخ الأكبر على الانخراط في تجارب تنموية هامة كالواجبات المدرسية والهوايات والأنشطة الخارجية والاجتماعية، هنا يمكننا القول بأن السلبيات طغت على أي فوائد مرجوة. وقالت جاكيلا أستاذة الاقتصاد: «إذا حُرمت البنات من استكمال طموحاتهن الدراسية نتيجة مطالبتهن بالمساهمة في رعاية الأطفال دونًا عن البنين، فهنا تكمن الطامة الكبرى».
واليوم، تتجلى هذه المخاطر على نحو خاص في الوسط الدراسي المحموم بالتنافسية. وقالت جاكيلا: «مقارنة بأيام طفولتي، فإن التغيير الملحوظ اليوم لا ينحصر بعزوف الأطفال عن واجباتهم المنزلية فحسب، بل يعمَّ أيضًا آمالنا المعلقة على إنجازاتهم الأكاديمية والرياضية وأنشطتهم الخارجية. ولا أظن أن الأطفال اليوم مخولون لمساندة آبائهم في مهام الرعاية».
السرُ كامنٌ في التوازن. فمن ناحية علينا أن نعترف بالقيمة التي تضفيها البنت البكر أو الوحيدة في حياة أبويها وإخوتها الأصغر، ومن ناحية أخرى لا ننكر أن تفادي تبعات المسؤوليات المتنامية يستلزم توفير الدعم الإضافي للآباء والأمهات المنهكين. بعبارة أخرى، علاج متلازمة الابنة الكبرى لا علاقة له بتغيير الثقافات، بل في إعادة هيكلة المجتمعات.
- ترجمة: آلاء نوفلي
- تدقيق علمي ولغوي: فريال حنا
- المصادر: 1