موجز تاريخ الجحيم

موجز تاريخ الجحيم
لا يبدأ تاريخ الجحيم مع العهد القديم، بل تبلور مفهوم الجحيم في القرن الثّاني نتيجةً للتّبادل الثّقافي في منطقة البحر الأبيض المتوسّط، بحيث ذُكر هذا المفهوم بشكل مقتضب في الكتاب المقدّس، إلى جانب العديد من الإشارات الغامضة أو المترجمة بشكلٍ خاطئ. فمنذ ذلك الحين، أعاد كلّ عصر صياغة الجحيم وفق تصوّره الخاصّ في بعده الأمثل والأسوأ.
يُعدّ فصل “الجحيم” في الكوميديا الإلهيّة لدانتي أليغييري أحد أعمدة الأدب الغربيّ، وهو عبارة عن جولة خاطفة في دوائر الجحيم التِّسع، وقد خُصّصت مجلّدات من الدّراسات لسبر أغوارها. وقد ألهمت صورها الحيّة والبشعة في كثير من الأحيان فنّانين مثل ساندرو بوتيتشيلي وأوغست رودان وويليام بليك، فيما تمّ تحويله إلى لعبة فيديو.
تستكشفُ قصيدتا دانتي أليغييري الأخريان من الكوميديا الإلهيّة، وهما قصيدتا برجاتوري “المطهر” والباراديسو “الجنّة”، عوالم المطهر والجنّة على التّوالي. لكنّهما لا تحظيان بالحبّ والاهتمام والعشق الذي حظيت به القصيدة الأصليّة التي تتناول الجحيم “انفرنو”، ذلك لأنّ الجنّة، في حقيقة الأمر، نقطة واحدة وصغيرة، بينما الجحيم هو المكان الذي تحدث فيه الدّراما.
ونظرًا لأهمّيّة الجحيم في الصّور والحكايات، فمن المدهش أنّه لا يظهر كثيرًا في الكتاب المقدّس. في الواقع، إنّ ربط الجحيم الملتهب بالشّيطان تمخض عن اجتهادات المترجمين عبر ترجمة وجهات نظرهم على مقاس مفاهيم قديمة ومختلفة تمامًا عن الحياة الآخرة. وهذا يعني أنّ الجحيم كما نفهمه اليوم، هو الحياة الآخرة التي لم يكن لدى كُتّاب الكتاب المقدّس أيّ تصوّر حقيقيّ لها.
في أيّ مكان من الجحيم؟
ذُكرت كلمة شيول
“Sheol”
66مرّة في الكتاب المقدّس العبريّ، وترجمتها العديد من نسخ العهد القديم على أنّها الجحيم. على سبيل المثال، يترجم كتاب الملك يعقوب الكتاب المقدّس مزامير 16:10 على النّحو التّالي: “لِأَنَّكَ لَا تَتْرُكُ نَفْسِي فِي الْجَحِيمِ، وَلَا تُعَذِّبُ قُدُّوسَكَ أَنْ يَرَى فَسَادًا”.
إنّ المعنى الدّقيق لكلمة شيول وأصلها قابل للنّقاش، إذ يرى بعض علماء الكتاب المقدّس أنّها مرادف للقبر نفسه.
وفقًا لهذا الرّأي، قد تكون التّرجمة الأكثر دقّة لمزامير 16:10 هي: “لِأَنَّكَ لَا تَتْرُكُ نَفْسِي بَيْنَ الْأَمْوَاتِ وَلَا تَدَعَ قُدُّوسَكَ يتعفّن فِي الْقَبْرِ”.
يختلف علماء آخرون ويقولون: إنّ الشيول هو عالم الأموات (انظر أيوب 10: 21). وحتّى مع ذلك، فإنّ شيول بعيد كلّ البعد عن الجحيم. فبدلًا من أن يكون عالمًا مصمّمًا لمعاقبة الخطاة، فإنّ شيول هو مكان تتجمّع فيه جميع الأرواح وتوجد في العدم الجامد، حيث ينعدمُ الألمُ والمُعَاناة، وحيث لا يكون هناك فرحٌ أو احتفالٌ أيضًا.
إذا كان لم يُذكر في الكتاب المقدّس العبريّ، فمن المؤكّد أنّ العهد الجديد قد تطرّق للجحيم بإسهاب، لكن حتّى في العهد الجديد، الإشارات إلى الجحيم شحيحة. لقد بشّر يسوع، الشّخصيّة المحوريّة في المسيحيّة، والقدّيس بولس، المُبشّر المؤسّس للمسيحيّة، بمسألة “القصاص الوجودي”. لكن في كتاباتنا المسيحيّة الأولى -رسائل بولس وأناجيل مرقس ومتى -لم يحذر أيّ منهما من جحيم ينتظر الخطاة.
يقول عالم الكتاب المقدّس بارت إيرمان أنّ القراءة المتأنّية لكلمات يسوع تُظهر ذلك. في إنجيلي مرقس ومتى، يبشّر يسوع عن “ملكوت الله” الوشيك، ولم يقصد بذلك ملكوت السّماء، بل تصوَّرَ يسوع ملكوتًا على الأرض وأنّ أولئك الذين اتّبعوا نواميس الله سيُبعثون جسديًا ليعيشوا في هذا العصر الجديد المجيد. لقد آمن أنّ ذلك سيأتي قريبًا أيضًا -خلال جيل واحد (متى 24: 34).
لن يكون مصير أولئك الذين أداروا ظهورهم لله حكمًا أبديًا، بل سوف يُبادون ببساطة، فالعديد من أمثال يسوع يحذّرون من هذا؛ وسوف يتمّ التّخلّص من السّمك الرّديء (متى 13: 48). والأشجار التي تحمل ثمارًا رديئة تُطرح في النّار (متى 7: 16-20). ونفس الشّيء يحدث للنّعاج الخبيثة التي تنفصل عن الخراف المقدّسة (متى 25). في حين أنّ العديد من هذه الأمثال تستحضر صورة النّار، يُشير إيرمان إلى أنّ هذه النّيران تدمّر غير المؤمنين. حتّى لو كانت النّيران تحترق إلى الأبد، فإنّ أولئك الذين يُلقون فيها لا يُقال عنهم ذلك. عقابهم هو الموت في مواجهة الحياة الأبديّة.
وقال إيرمان في كتاب “الجنّة والنّار”: “يبدو أنّ هذا كان تعاليم كلّ من بولس ويسوع. ولكن تمّ تغييرها في نهاية المطاف من قبل المسيحيّين اللّاحقين، الذين جاءوا ليؤكّدوا ليس فقط على الفرح الأبديّ للقدّيسين ولكن على العذاب الأبديّ للخطاة، ممّا خلق مفارقة أنّ معظم المسيحيّين على مرّ العصور آمنوا بجحيم لم يكن موجودًا عند أيّ من مؤسّسي المسيحيّة”.
طريق سريع إلى الجحيم
إذا لم يكن الكتاب المقدّس قد تحدّث عن الجحيم، فمن أين جاء إذن؟ الجواب البسيط على هذا السّؤال المعقّد -وهذا “تاريخ موجز” في النّهاية -هو أنّ الجحيم هو جهد تعاونيّ للتّبادل الثّقافيّ في منطقة البحر الأبيض المتوسّط القديمة.
لم تنشأ الثّقافة اليهوديّة من فراغ. فقد أثّرت عليها الإمبراطوريّات المجاورة -وفي أكثر من مناسبة، الإمبراطوريّات الغازيّة. في بعض الأحيان، كان المفكّرون اليهود يتبنّون أفكارًا من هذه الثّقافات ويقتبسون منها. وفي أحيان أخرى، كانوا يرفضونها. لكن كلاهما غيّر اللّاهوت اليهوديّ على مدى قرون.
على سبيل المثال، نظرت الرّؤيا اليهوديّة إلى العالم على أنّه ساحة معركة كونيّة بين الخير والشّرّ. وحسب وجهة النّظر هذه، كان أعداء الله يسيطرون على العصر الحالي، ولكن سرعان ما سيقهر الله أعداءه ويدخل عصرًا طوباويًا. وقد تأثّر المفكّرون الرّؤيويّون إلى حدّ كبير بالثّقافة الهلنستيّة بعد فتوحات الإسكندر الأكبر. وهذا واضح في كيفيّة جمعهم بين تقاليدهم الكتابيّة والزّخارف اليونانيّة مثل الرّحلات السّماويّة ودينونة الموتى.
يقول جون كولينز، وهو باحث في العهد القديم إنّ: “هذه التشّابهات الهلنستيّة لا تعني أنّ هذا النّوع من الرّؤى مستمدّ من الثّقافة الهلنستيّة أو أنّ الرّؤى اليهوديّة حول نهاية العالم تفتقر إلى أصالتها وتكاملها. ومع ذلك، يقدّم العالم الهلنستي بعض الرّموز المستخدمة في الرّؤى”.
لقد كانت نظرة يسوع للعالم غارقة في نهاية العالم، وفي تطوّر غريب، أعاد القدّيس بولس أصالة يسوع إلى العالم الهلنستي من خلال خدمته، حيث اختلطت وامتزجت أكثر بالمفاهيم اليونانيّة الرّومانيّة عن الحياة الآخرة.
مع مرور الأجيال وعدم تحقّق ملكوت الله الذي وعدَ به يسوع، بدأ المسيحيّون الجدد في التّفكير وطرح الأسئلة، مثل: ماذا لو كنا قد أسأنا فهم يسوع؟ ماذا لو أنّ انتصار الخير على الشرّ لم يحدث على الأرض؟ ماذا لو أنّ الحياة الأبديّة الموعودة كانت بالمعنى الرّوحي، شيء على غرار الحياة الآخرة المثاليّة الأخرى؟ وإذا كان هناك مكافآت أبديّة، فليس من المستبعد أن يكون العقاب أبديًا أيضًا.
الجحيم مُستقرّ البأس
يَظهرُ هذا التطوّر في رسالة يسوع في الأسفار المكتوبة اللّاحقة من العهد الجديد، إذ يروي بطرس الثّاني كيف ألقى الله بالملائكة الخطاة في “تارتاروس” (مرّة أخرى، غالبًا ما تُترجم خطأ على أنّها الجحيم). في مثل الرّجل لعازر والغنيّ -وهو مثل لم يظهر إلّا في إنجيل لوقا -يقال إنّ الرّجل الغنيّ يعاني في الجحيم بعد الموت، بينما يتمتّع لعازر القدّيس بحياة آخرة في حضن إبراهيم. (يبدو أنّ الجنّة كانت في هذا الوقت أيضًا في طور التّكوين).
بمجرّد تصوّرها، سرعان ما اتّخذ الجحيم بعدًا خاصًا به. واحدة من أقدم الجولات التي تناولت الجحيم هي سفر الرّؤيا لبطرس، التي كُتبت في القرن الثّاني الميلاديّ، وهي تحكي عن رحلات القدّيس بطرس في الحياة الآخرة. إنّ وصف الجنّة قصير وغير حافل بالأحداث، بل في جحيم بطرس نتعرّف على مفاهيمنا الحديثة التي تتشكّل في مشهد الجحيم. هنا حيثُ يُعذَّب الخطاة وفقًا لآثامهم الدّنيويّة. يُعلّق المزدرون من ألسنتهم. والقتلة يُلدغون بلا توقّف من قبل ثعابين سامّة وديدان آكلة للّحم. والبخلاء الأغنياء يلبسون الخرق ويخترقهم عمود من نار. إنّه عرض تلو الآخر في متجر قاسٍ من الرّعب، عرض من شأنه أن يجعل معظم القرّاء المعاصرين يشعرون بالغثيان.
كتبت أليس تيرنر في كتاب “تاريخ الجحيم”: كان لمؤلّف كتاب بطرس نزعة استقرائيّة وساديّة ومقرفة، ممّا حدّد نغمة الرّؤى اللّاحقة، على الرّغم من أنّنا قد ننفر من بطرس ونأسف لتأثيره الواسع، إلّا أنّه قد يكون من المفيد أن نعرف أنّه في الوقت الذي كُتب فيه كان التّهديد بالتّعذيب مصدر قلق جديد للمواطنين المسيحيّين [في روما]”.
ليس مكانًا واحدًا من الجحيم، بل صورًا عديدة منه
قد يبدو هذا وكأنّه نهاية الرّحلة نحو الجحيم، ولكن مثل النيران التي تؤجّج هذا الجحيم، فإنّ الجحيم لن يتوقّف. منذ المسيحيّين الأوائل، أعاد كلّ عصر من عصور الثّقافة الغربيّة صياغة الجحيم بطريقة ما. في كثير من الأحيان، تكون التّغييرات تعبيرًا عن عالمهم أكثر من العالم الذي يليهم.
شهدت العصور الوسطى مجموعة كبيرة من أشكال الجحيم في القصص الشّعبيّة والمسرح. قد يكون الجحيم فظيعًا، ولكن في ذلك الوقت، كان بالتّأكيد أكثر حيويّة من الحياة اليوميّة لمعظم النّاس. كان جحيم دانتي، من بين أمور أخرى، إعلانًا ضدّ ثراء الكنيسة الكاثوليكيّة وتدخلها في السّياسة. خلال العصر الباروكي، قام اليسوعيّون بإلغاء عذاب الجحيم الأكثر نيرانًا وأعادوا تصوّره من حيث القحط الحضريّ المزدحم. وبحلول عصر التّنوير، أضحت فكرة الجحيم محطّ تشكيك. فقد أعلن فولتير أنّه من السّخافة أن يحترق رجل إلى الأبد بسبب سرقتة معزة (مع الإشارة أيضًا إلى العلاقة بين الجحيم والحياة الآخرة الفارسيّة واليونانيّة والمصريّة).
وهكذا، فإنّ الجحيم ليس مفهومًا واحدًا ورثناه من الكتاب المقدّس، بل له العديد من الصُّور، وكلّ صورة منه بمثابة مكان روحي لأفضل وأسوأ ما فينا.
فمن ناحية، يظهر ذلك رغبتنا في العدالة. فإذا كانت الحياة لن تكون عادلة، فيمكننا على الأقل أن نتخيّل حياة آخرة يدفع فيها الأشرار والغادرون ثمن جرائمهم، بينما ينال ضحاياهم الرّاحة من العذاب الدّنيوي. من ناحيةٍ أخرى، يضمّ الجحيم كراهيتنا وتعصّبنا ووحشيّتنا، ويعرض رغبتنا الخفيّة في إثبات تفوّقنا على الآخرين -ومعاقبة أولئك الذين لا يتوافقون مع معتقداتنا.
ترجمة: سليمان العبدلاوي
تدقيق: ريمة جبارة

  • ترجمة: سليمان العبدلاوي
  • تدقيق علمي ولغوي: ريمة جبارة
  • المصادر: 1