من كان ابن رشد؟ «الجسر» بين الفلسفة الإسلامية والغربية

حافظ العلّامة الأندلسي ابن رشد على الفلسفة الأرسطية وترك إرثًا متعدد الثقافات كان له الأثر على عصر النهضة.

كان ابن رشد عالمًا مسلمًا أندلسيّ الأصل واسع المعرفة، تجلت أبرز إسهاماته بالفلسفة في شروحاته لأفكار الفيلسوف اليوناني أرسطو، والتي كان من شأنها إلهام علماء أوروبا المستقبليين.

يشار إليه أيضًا باسم Averroes، وهو النسخة اللاتينية من اسمه، ولد أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد سنة 1126 في مدينة قرطبة الإسبانية، التي كانت قسمًا من إمبراطورية المرابطين في ذلك الوقت.

كان لهذا الفيلسوف والمفكر الديني دورًا تكوينيًّا في نشوء العقلانية الأوروبية، وتمت الإشادة بمجموعة أعماله باعتبارها مقدمة للتنوير الأوروبي، في قرون لاحقة.

أصدر ابن رشد أيضًا إلى جانب الفلسفة أعمالًا علمية حول مواضيع شتى مثل الطب وعلم النفس والفلك.

على الرغم من شهرة ابن رشد في أوروبا العصور الوسطى، فإن شهرته الأكبر كانت في العالم الإسلامي، بسبب عمله الديني، ولاسيما في مجال الفقه وهو الجانب النظري من التشريع الإسلامي، إلا أن أفكاره الفلسفية لم تحصد الشهرة الواسعة في العالم الإسلامي إلا مع بروز الحركات الإسلامية الإصلاحية في القرن التاسع عشر.

وفي هذا المقال نحاول استكشاف حياة وعمل أحد أهم مفكري الأندلس.

من كان ابن رشد؟

ولد ابن رشد سنة 1126 في أسرة من العلماء المسلمين المرموقين والناجحين، حيث شغل جده أبو الوليد محمد منصب كبير قضاة قرطبة وكان إمام مسجد قرطبة الكبير.

تدرب العالم الشاب على أصول الدين الإسلامي، فدرس القرآن والحديث (أقوال منسوبة إلى النبي محمد ص) والفقه الإسلامي وفقًا للمذهب المالكي.

وكما كان شائعًا بين عائلات العلماء، فقد درس ابن رشد أيضًا موادًا غير دينية مثل علوم اللغة والفيزياء والطب والرياضيات.

ولأنه لم يدوّن سيرته الذاتية، فمن الصعب الحصول على تفاصيل محددة لحياته الشخصية.

ما هو معروف أنه بلغ مكانته البارزة سنة 1169 بعد أن لفت انتباه خليفة إمبراطورية الموحدين أبو يعقوب يوسف الذي حكم إقليمًا يشمل إسبانيا الجنوبية وشمال غرب أفريقيا.

كان يوسف ملكًا ذو فضول ثقافي، وقد قدّر تمكّن ابن رشد على تفسير أعمال الفلاسفة الإغريق مثل أرسطو.

وتحت رعاية يوسف، تولى هذا العالم الأندلسي منصب قاضٍ في المدن الإسبانية التابعة لإشبيليا ومدينته قرطبة لاحقًا، وأصبح في نهاية المطاف رئيسًا للقضاة مثل جده من قبله.

بم اشتهر ابن رشد؟

ترجع شهرة ابن رشد في أوروبا إلى شروحاته لأعمال أرسطو، التي أدت إلى تجدد الاهتمام بالفيلسوف الإغريقي القديم في أوروبا.

ألهم ابن رشد فلاسفة المستقبل، مثل كاهن وفيلسوف القرن الثالث عشر الإيطالي (توماس الإكويني)، الذي كرّس وقتًا كبيرًا لنقد أعمال ابن رشد، وأدرج رغم ذلك بعضاً من أفكاره في نهجه الدراسي الخاص.

كان دور الطرائق الفلسفية وإحلال العقل في دراسة الأديان جدليًا في العالمين المسيحي والاسلامي خلال بدايات العصور الوسطى، نظرًا لإيمان الكنيسة الكاثوليكية والعديد من العلماء المسلمين بأن هكذا مقاربات تهدم حرمة الوحي السماوي.

طوال القرن الثالث عشر، كان أتباع ابن رشد الذين عرفوا باسم (Averroist)، موضع الإدانات الرسمية من قبل الكنيسة، التي اعترضت على أفكارهم حول الطبيعة الأزلية للكون وأن جميع البشر يتشاركون نفس القدرات الفكرية.

على الرغم من توبيخ الكنيسة، فقد كسب منهج ابن رشد الذي أصبح متاحًا بفضل الترجمات اللاتينية لأعماله، العديد من الأتباع الكاثوليكيين واليهود في القرون التي تلت وفاته، وشكلت جهودهم فيما بعد جزءاً من حالة الازدهار الفكري في أوروبا والتي عرفت باسم عصر النهضة.

اشتهر ابن رشد في العالم الإسلامي بدفاعه عن مكانة البحث الفلسفي في الخطاب الديني ضد الهجمات الميدانية للعلماء المسلمين مثل الغزالي.

ماذا كانت فلسفة ابن رشد؟

آمن ابن رشد بأن دراسة الفلسفة هو واجب قرآني وبالتالي واجب على جميع المسلمين أتباعه.

لقد آمن بأن الفلسفة هي نتاج العقل البشري، بينما الدين متمخض عن الوحي الإلهي، موضحًا بأن الاثنين منبثقان في نهاية المطاف من نفس المصدر.

كان الهدف من التركيز الرئيسي على أعماله الأصلية تبيان توافق الوحي الإلهي مع الوسائل الفلسفية لإثبات الحقيقة.

عند وجود تعارض بين الكتاب المقدس والحقائق التي تم الوصول إليها من خلال المنطق الاستنتاجي على سبيل المثال، فإن القضية لم تكن لتكمن في النص نفسه نفسه وإنما في تأويله.

آمن ابن رشد أن الله قد ملأ النصوص الدينية بالمعاني الظاهرية والمجازية، وحينما لا يوجد توافق مطلق حول تفسير ما للنص المقدس، فإن للقارئ حرية تأويله وفقًا لإدراكه واستيعابه الخاص.

كان من شبه المستحيل التوصل إلى إجماع كلي، إذ يتطلب معرفة جميع التفسيرات الممكنة للنص منذ بدء الوحي به، وبالتالي أتاحت الحجة المجال لجميع القراءات المجازية للقرآن بطريقة لم تكن لتسمح بها المنهجيات الأكثر “حرفية”.

كانت إحدى الحجج الرئيسية لابن رشد، أنه إن لم يكن اقتراب الناس من الدين من منظور نقدي وفلسفي، فقد يكون المعنى الحقيقي والمنشود مفقوداً، مما يؤدي إلى اختلال تأويل الوحي الإلهي. بذل ابن رشد جهودًا كبيرة في دراسة العقائد الدينية، وسلط الضوء على ما رآه أخطاءً مرتكبة من قبل مدارس دينية تنافسية مثل الأشعرية والمعتزلة والصوفية و”الحرفيين”.

وفي ما يتعلق بوجود الله، كان ابن رشد مؤيدًا لحجة الإحكام الدقيق التي تنص على أن الكون مهيأ بشكل محكم لوجود الحياة الذي لم يكن ممكناً لها أن توجد إلا بمشيئة خالق رباني.

أكد أن الله خلق العالم الطبيعي وكل ما فيه، لكن العالم الطبيعي هو مصدر كل ما يحدث حولنا، وبأنه لا يمكن تحميل الخالق وحده المسؤولية المباشرة عن كل ما يحدث حولنا.

مساهمات ابن رشد في العلوم والطب:

تتضمن إسهامات ابن رشد في الطب وصفاً لأعراض داء باركنسون، وشرحاً حول أسباب السكتة الدماغية، واكتشاف وظيفة مستقبلات الضوء في شبكة العين.

كما أصدر موسوعة طبية تدعى الكليات في طب (العموميات في الطب) قام بتدوينها ما بين سنة 1153 وسنة 1169.

تألف النص من 9 كتب ترجمت في ذلك الحين إلى اللاتينية والعبرية، وتم تدريسها في جميع أنحاء أوروبا حتى القرن الثامن عشر.

كما اهتم بالأسباب الدماغية والوعائية للأمراض، وكان بين الأوائل الذي قاموا بصرف علاجات للأمراض في طب المسالك البولية.

على الرغم من انتقاده الفلسفي للعالم الفارسي ابن سينا، فقد استندت أعماله الطبية على دراسات ابن سينا إضافة إلى دراسات زميله العالم الفارسي الرازي.

إرث ابن رشد:

اهتم أيضًا ابن رشد بالموسيقا واللغة، إلى جانب إرثه الكبير في العلوم والدين والفلسفة.

في علم النفس، قسّم كتابه: تلخيص كتاب النفس (أرسطو: عن الروح) الروح إلى خمس ملَكات: التغذوية، الحساسة، التخيلية، والمشهّية (للتعامل مع الشهوات)، والعقلانية.

مهدت أعماله السبيل لفلاسفة أوروبيين آخرين، مما ألهم الإحياء الفكري بين العلماء الذين يكتبون باللغة اللاتينية. حتى أن أفكاره حول أرسطو والعلاقة بين الفلسفة والدين قد خلقت اهتمامًا متجددًا في تفسير النصوص المقدسة، ولا سيما في الديانة اليهودية. مما كان له التأثير القوي على أعمال الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون.

إلا أن كتاباته نالت شعبية أكبر في العالم الغربي منها في العالم الإسلامي، حيث أدان وانتقد البعض اعتماده على الطرائق الفلسفية.

توفي ابن رشد في مراكش في المغرب سنة 1198 عن عمر ناهز 72 عامًا، ودُفن فيها، نقل جثمانه فيما بعد إلى مسقط رأسه قرطبة.

  • ترجمة: نور مهنا
  • تدقيق علمي ولغوي: بلال سلامة
  • المصادر: 1