
هل العلم يكشف لنا الحقيقة؟
لا يمكن للعلم أن يبلغ الحقائق النهائية، لكن الحقائق العملية تفي بالغرض.
الخلاصة
ما هي الحقيقة؟ سؤالٌ بالغ التعقيد، وأشدُّ تعقيدًا ممّا يود الكثيرون الإقرار به. يتوصّلُ العلمُ إلى ما يُمكن تسميته “الحقيقة العملية” وذلك بالتركيز على وظيفة الشيء لا ماهيته. نحن ندرك كيفية عمل الجاذبية، ولكننا نجهل ماهيتَها، وهي فكرة تطوّرت عبر الزمن، ويُحتمل أن تتطور مستقبلًا. النتيجة هي عدم وجود حقائق مُطلقة نهائية، بل حقائق علميةٍ فحسب، يتّمُ التوافق عليها بالإجماع. يكمن الاختلافُ الأساسيُّ في أنّ الحقائق العلمية تقوم على أدلة واقعية، في حين أنّ مُعظم الحقائق الأخرى مبنيةٌ على الاعتقاد.
هل العلمُ يكشفُ لنا الحقيقة؟
الإجابة على هذا السؤال ليست بالبساطة التي يتصورها البعض، وتطرَّقَ إليه زميلي آدم فرانك في مقالٍ له حول تكامل المعرفة. وتوجد مستويات متنوعة من التعقيد لمفهومِ الحقيقة أو معناه بالنسبةِ للفردِ أو المجتمع. فما هو السبب؟
المسألة مُعقدة
بدايةً، يصعب تعريف “الحقيقة” ذاتها أو حتى تحديدها. كيف لك أن تجزم بأن أحدهم يُطْلِعُك على الحقيقة؟ هل أنت صادقٌ على الدوام؟ في مجموعات، ما يُعدُّ صحيحًا في ثقافة ما ذات قيمٍ أخلاقيةٍ معينة قد لا يكون كذلك في ثقافةٍ أخرى. ومن السهلِ الإتيان بأمثلة: عقوبة الإعدام، حقوق الإجهاض، حقوق الحيوانات، النزعة البيئية، أخلاقيات امتلاك الاسلحة، إلخ.
في نطاق العلاقات بين البشر، تتسم الحقيقة بتعقيدٍ شديد. إنّ مجرد العيش في زمنٍ تحتل فيه الأخبار المُضللة مركز الصدارة يُعزّز هذه الحقيقة الواضحة.
بيد أنّ الجهل بكيفية التمييز بين الحقائق والأكاذيب يُفضي إلى الخوف وانعدام الثقة، ويؤدي في نهاية المطاف إلى ما يمكن تسميته بالاستعباد الإدراكي، أيّ التمسك التابع لرؤية عالمية يطرحها ذو نفوذ. والنتائج، كما يشهد تاريخ القرن العشرين، قد تكون وخيمةً للغاية.
يتمثل هدف العلم، من الناحية النظرية على الأقل، في الوصول إلى الحقيقة دون الاستعانة بأي نظام عقائدي أو أخلاقي، ويهدف إلى تجاوز الفوضى البشرية ليكون محايدًا من حيث القيمة. الفرضية الأساسية هنا هي أن الطبيعة ليس لها بعد أخلاقي، وأن هدف العلم هو وصف الطبيعة بأفضل شكلٍ ممكن، والوصول إلى ما يمكن أن نسميه “الحقيقة المطلقة”. هذا التوجه يُعتبر امتدادًا نموذجيًا لفكرة التنوير الذي يرى أنه من الممكن إزالة التعقيدات البشرية من المعادلة والحصول على رؤية موضوعية مطلقة للعالم. ومع ذلك، فإن هذا الأمر يتطلب جهدًا كبيرًا.
يميلُ المرء إلى الاعتقاد بأن العلم هو السبيل الأمثل للوصول إلى الحقيقة، وذلك لأنه، وبشكل مذهلٍ للغاية، يحقق نجاحات باهرة على مستوياتٍ شتّى. أنت تثق بقيادتك لسيارتك لأن قوانين الميكانيكا والديناميكا الحرارية تعمل على نحوٍ سليم. وتمكن علماء ومهندسو وكالة ناسا لتوهم في جعل مروحية إنجينيتي المريخية، وهي أول جهاز من صنع الإنسان يطير فوق كوكب آخر، تُحلق فوق سطح المريخ من تلقاء نفسها.
يإمكاننا الاستعانة بقوانين الفيزياء لوصف نتائج تجارب لا حصر لها بدقةٍ مذهلة، بدءًا من الخصائص المغناطيسية للمواد وصولًا إلى تحديد موقع سيارتك في حركة المرور باستخدام مُحدِّدات المواقع GPS. بهذا المعنى المُقيَّد، يُقدّم لنا العلمُ الحقيقة. قد لا تكون هذه الحقيقة المُطلقة عن الطبيعة، لكنها قطعًا نوعٌ من الحقيقة البراغماتية والعملية التي يتوصّل إليها المُجتمع العلميّ بالإجماع بناءً على الاختبار المُشترك للفرضيات والنتائج.
ما هي الحقيقة؟
على مستوى أعمق من التدقيق، يصبح معنى الحقيقة غير ملموس، ويتوجب علينا أن نتفق مع الفيلسوف ما قبل سقراط ديموقريطوس الذي أعلن، حوالي 400 عام قبل الميلاد، أن “الحقيقة توجد في الأعماق”. (على سبيل المصادفة، تنبأ ديموقريطس بوجود الذرّة، وهو شيءٌ موجودٌ قطعًا في الأعماق. ).
أنّ إلقاء نظرة على أحد القواميس يُعزّز وجهة النظر هذه.
“الحقيقة: صفةُ كون الشيء صحيحًا.” هذا تعريفٌ يدور في حلقة مُفرغة. كيف لنا أن نُدركَ ما هو صحيح؟
تعريفٌ ثانٍ: “الحقيقة: واقعةٌ أو اعتقادٌ يُقبل على أنه صحيح.” يُمثّلُ القبولُ هنا عاملًا حاسمًا. يمكن قُبول الاعتقاد على أنه صحيح، كما هو الحال مع الإيمان الديني. لا حاجة إلى دليل لتبرير الاعتقاد، لكن لاحظ أنّ قبول حقيقة ما أيضًا على أنها صحيحة، حتى لو كانت المعتقدات والحقائق أشياء مختلفة تمامًا. يوضح هذا كيف يتوصل المجتمع العلمي إلى توافق في الآراء إلى إجماع ما هو صحيح بالقبول، أدلةٌ واقعيةٌ كافية تؤيّد صحة عبارةٍ ما.
(يُلاحَظ أنّ تحديد ماهيةِ الأدلةِ الواقعيةِ الكافيةِ يخضعُ بدوره للإجماع). وذلك إلى حينِ تحصيلنا لمزيدٍ من المعرفة.
لِنأخذ مثال الجاذبية. نحنُ نُدركُ أنّ جسمًا في حالة سقوطٍ حرٍّ سيرتطم بالأرض. وبإمكاننا حسابَ توقيت ذلك باستخدام قانون جاليليو للسقوط الحر (في غياب الاحتكاك). هذا مثالٌ على الحقيقة العملية. إذا أسقطتَ مليون صخرة من نفس الارتفاع، فسيسري القانونُ نفسه في كلّ مرة، مُعزّزًا القبول الفعليَّ لحقيقةٍ عملية، وهي أنّ جميع الأجسام تسقط على الأرض بالمعدل نفسِهِ بصرف النظر عن كتلتها (في غياب الاحتكاك).
لكن ماذا لو طرحنا السؤال التالي، ما هي الجاذبية؟
إنّه سؤال وجودي (أنطولوجي) حول ماهية الجاذبية لا عن وظيفتها. وهنا يكمن التعقيد. فالجاذبية عند جاليليو، تسارع نحو الأسفل؛ وفي نظر نيوتن، قوة بين جسمين أو أكثر ذوي كتل، تتناسب عكسيًا مع مربع المسافة بينهما؛ أمّا أينشتاين فيراها، انحناءً في الزمكان ناتجًا عن وجود الكتلة و/أو الطاقة. فهل يمتلك أينشتاين القول الفصل؟ على الأرجح، لا.
أثَمَّةَ حقيقة علمية قاطعة؟
تُوّهم الحقائق العلمية النهائية أو المطلقة يقوم على افتراض أنّ معرفتنا عن الطبيعة يمكن أنّ تكون نهائية، وأنّ المعرفة البشرية يمكن أن تصدر تصريحات مُطلقة. لكننا نعلم أنّ هذا لا يمكن أن ينجح حقًا، لأن طبيعة المعرفة العلمية بعينها هي أنها غير مكتملة، وتعتمد على دِقَة وعمق قياسنا للطبيعة بأدواتنا. فكلما زادت دقة وعمق قياساتنا، زادت قدرتها على كشف الثغرات في نظريّاتنا الحاليّة، كما أوضحت الأسبوع الماضي من خلال تجارب العزم المغناطيسيّ للميون.
إذن، يجب أن نتفق مع ديموقريطس، على أن الحقيقة مخفية في الأعماق، وأنّ التصريحات المتعلقة بالحقائق النهائية أو المطلقة، حتى في السياق العلمي، لا ينبغي الاعتماد عليها. ومع ذلك، فلحسن الحظ، في جميع التطبيقات الهندسية والعملية من قبيل تصميم الطائرات أو المركبات الفضائية، وتحديد خصائص الجزيئات، ودراسة حركية التفاعلات الكيميائية، وفعالية اللقاحات، أو دراسة تدفق الدم في الدماغ- الحقائق العملية تفي بالغرض.
- ترجمة: سارة ابو جلبان
- تدقيق علمي ولغوي: حسام عبدالله
- المصادر: 1