ما موجات التيراهرتز؟ وكيف لها أن تنفعك؟

يشمل الطيف كل الأشعة الكهرومغناطيسية الموجودة من الموجات الراديوية والميكروية، والضوئية التي تراها أعيننا، حتى الأشعة السينية وأشعة غاما. وقد أتقن البشر تلقي وإرسال معظمها. لكن هناك استثناء. فبين أشعة الضوء المرئي وإشارات الراديو تقع منطقة ميتة ليس للتكنولوجيا فاعلية فيها، تسمى «فجوة التيراهرتز». لم ينجح أحد في صنع جهاز استهلاكي ينقل موجات التيراهرتز هذه حتى اليوم، رغم أن المحاولات تجري منذ عقود.

Electromagnetic spectrum with rainbow colors and labels for wavelengths
تقع حزمة التيراهرتز في منطقة صغيرة من الطيف الكهرومغناطيسي بين الأشعية الميكروية والأشعة تحت الحمراء.

قال كينغ هو، وهو المهندس الكهربائي في معهد ماساتشوستس: هناك لائحة طويلة من التطبيقات المحتملة.

ولكن بعض الباحثين يحققون تقدمًا بطيئًا. وإن أثمرت جهودهم فسيفتحون أفقًا جديدة للتقنيات، مثل خلفٍ للواي فاي أو نظام كشف أفضل لسرطان الجلد.

لغز التيراهرتز

انظر إلى فجوة التيراهرتز في الصورة أعلاه. سترى إلى يسارها الموجات الميكروية فالراديوية الأطول. وإلى يمينها طيف الأشعة تحت الحمراء (يسمي بعض العلماء فجوة التيراهرتز بالأشعة تحت الحمراء القصية) ورغم أن أعيننا لا ترى هذه الموجات لكنها والضوء المرئي سواء في عين التكنولوجيا.

إن موجات الراديو ضرورية للتواصل، خاصة بين الأجهزة الإلكترونية، وهذا جعلها شائعة جدًا في تقنيات اليوم. أما الموجات الضوئية فهي ضرورية في الألياف الضوئية التي تغذي الإنترنت. هذان العالمان التقنيان يغذيان عادة بأطوال موجية مختلفة، ولا يتعايشان بسهولة في العالم الحديث. ولكن كلا العالمين يجد صعوبة في التوغل في منطقة التيراهرتز الحيادية.

لا يمكن للمكونات الإلكترونية الاعتيادية -مثل رقاقات السيليكون- العمل بسرعة كافية لصنع موجات التيراهرتز. وكذلك لا تعمل التقنيات المنتجة للضوء كالليزر -المتوفر منزليًا بالأشعة تحت الحمراء- بموجات التيراهرتز. والأسوأ من ذلك أن موجات التيراهرتز لا تدوم طويلًا في الغلاف الجوي للأرض، لأن بخار الماء الموجود في الهواء يميل لامتصاصها بعد عدة عشرات الأمتار.

هناك القليل من أطوال أمواج التيراهرتز التي بإمكانها الإفلات من بخار الماء. وقد صنع علماء الفلك مناظير قادرة على رصد هذه الأطوال، وهي تفيد في رؤية الغبار النجمي خصوصًا. لكن يجب وضعها في أعلى مناطق الكوكب وأشدها جفافًا لتعمل بفعالية، كصحراء أتاكاما في تشيلي، أو خارج طبقات الجو في الفضاء.

ما تبقى من فجوة التيراهرتز غير مفهوم، ويحاول الباحثون أمثال «هو» فهمه لكن الأمر ليس هينًا.

هندسة موجات التيراهرتز

كلما حاولنا استغلال موجات التيراهرتز في عالم الإلكترونيات، واجهنا مشكلة أساسية في أجهزتنا. إذ يجب على رقاقات السيليكون الموجودة في الإلكترونيات التذبذب بسرعة ترليونات الدورات في الثانية لتشكل موجات التيراهرتز، لكن الرقائق في الحاسوب والهاتف تعجز عن التذبذب بهذه السرعة، رغم أنها تعمل بنحو مثالي بسرعة ملايين ومليارات الدورات في الثانية. أما المكونات التجريبية عالية المستوى القادرة على ذلك فتكلف أكثر من ثمن سيارة فارهة. ولكن لا بأس فالمهندسون يعملون على تخفيض الأسعار.

أما في العالم الآخر، عالم الضوء، فطالما حاول العلماء صنع أجهزة مثل الليزر تستطيع إنتاج موجات التيراهرتز بترددات محددة وكلفة منخفضة. ناقش الباحثون أمر صنع هكذا ليزر منذ ثمانينيات القرن الماضي، وظن بعضهم الأمر مستحيلًا. لكن «هو»، خريج معهد ماساتشوستس، ظن غير ذلك فجعل صنع هكذا ليزر هدفه، وأعلن قبل ذلك: لا أعرف شيئًا عن صناعة الليزر.

ثم في عام 1994، اخترع العلماء ليزر الشلال الكمي، والذي كان يصلح لإنتاج ضوء الأشعة تحت الحمراء. كل ما احتاج إليه «هو» وزملاؤه تطوير ذلك الليزر لينتج الأشعة تحت الحمراء القصية (التيراهرتز).

وقد نجحوا فعلًا، فأنتجوا ليزر الشلال الكمي التيراهرتزي في العام 2002. ولكن كانت هناك مشكلة تتمثل في أن النظام احتاج إلى أن تكون درجة حرارته نحو -208 مئوية ليعمل، بالإضافة إلى النيتروجين السائل، مما جعله صعب الاستخدام خارج المختبر والأماكن القارسة.

ارتفعت درجة تلك الحرارة في العقدين المنصرمين. فصار أحدث ليزر في مختبر «هو» يعمل في درجة حرارة -13 مئوية تقريبًا، ورغم أنها ليست حرارة الغرفة فهي دافئة كفاية لوضع الليزر في براد محمول والعمل به خارج المختبر. وحديثًا في عام 2019، اخترع فريق من هارفارد وماساتشوستس والجيش الأمريكي ليزر تيراهرتز بحجم صندوق حذاء بإمكانه تعديل الغازات الجزيئية.

في الوقت الذي احتاج إليه «هو» لضبط ليزره، أحرزت الإلكترونيات تقدما أيضًا. فقد جعلت التقدمات المنجزة في صنع الرقاقات والمواد الداخلة في صناعتها الإلكترونيات تعمل بسرعة أكبر. حتى إن رقاقة نانوبلازما صنعتها مجموعة في سويسرا عام ٢٠٢٠ كانت قادرة على نقل 600 ميلي واط من موجات التيراهرتز، ولكن -مجددًا- ضمن المختبر وحسب. بينما يريد مهندسو الكهرباء لمس بعض التقدم، تأمين مكونات التيراهرتز ليس بحلم بعيد كما كان من قبل.

قال رونان هان، المهندس الكهربائي في معهد ماساتشوستس: «يمكننا الآن صنع أنظمة معقدة جدًا على الرقاقة. لذا أظن المعالم ستتغير».

وقال مارك شيروين، الفيزيائي في جامعة كاليفورنيا، منشأة التيراهرتز في سانت باربارا: إن ما حصل في الثلاثين سنة الماضية لتقدم من كلا الجانبين. لا يزال نادرًا نسبيا، ولكني سأقول أشيع جدًا جدًا… وأسهل جدًا.

مقاييس زمنية طولها عقود كتلك شائعة في عالم حيث تدور التقنيات الجديدة في دورات من الحماس والخيبة. والتيراهرتز ليس استثناءً عند المهندسين.

مستقبل تقنية التيراهرتز

حاليًا، محاولة كلا العالمين الدخول إلى منطقة التيراهرتز السوداء من أي جهة ما زالت منفصلة بنحو شديد. لكنها تهب لعالم العلوم مقدرات جديدة في مدى تخصصات واسع.

يمكن لبعض هذه المقدرات تسريع التواصل. دعني أوضح أكثر: يعمل الواي فاي الحالي عبر الموجات الميكروية، لكن ترددات التيراهرتز أعلى منها، وبإمكانها تأمين اتصال أفضل وأسرع. وإن استخدمت سلكيًا فلها أن توفر اتصالًا سريعًا جدًا بين الـUSB والألياف الضوئية .

أيضًا فإن موجات التيراهرتز مثالية لفحص المواد. فكما قال شيروين «تقريبًا لكل جزيء [بصمة] طيفية في نطاق ترددات التيراهرتز». هذا يجعل موجات التيراهرتز أفضل في رصد مواد كيميائية كالمتفجرات والجزيئات الدوائية. وعلماء الفلك يستخدمون هذه المقدرة سلفًا لدراسة المركبات الكيميائية في الغبار الكوني والأجسام النجمية. في المدى الأقرب، يتصور هان تقنية التيراهرتز كـ«أنف إلكتروني» بوسعه تمييز الروائح في الهواء.

هذه البصمات التيراهرتزية أيضًا تجعل الأشعة تحت الحمراء القصية مثالية لتفتيش الناس والأشياء. إذ يمكن لموجات التيراهرتز النفاد في خلال الأشياء التي لا ينفد الضوء فيها -كالملابس- وتجنب الضرر المحتمل من التأيين الإشعاعي كما تفعل الأشعة السينية. وقد أظهر مراقبون أمنيون اهتمامًا بهذه التقنية سلفًا.

السمة الوحيدة للماسح التي تفتقر إليها موجات التيراهرتز أنها تعجز عن النفاد في الماء سواء كان في الهواء أو جسد الإنسان. لكن هذا ليس للطب معيقًا، إذ يمكن للطبيب استخدام جهاز تيراهرتز للكشف عن علامات لسرطان الجلد التي قد تغفل عنها الأشعة السينية، أو يمكن لعالم الأعصاب استخدامها لمسح دماغ فأر.

لكن هان يظن البحث لا يزال في سنواته الأولى، فهو القائل: إن كان بإمكاننا فعلا تطوير أدوات باستطاعتها رؤية شيء ولا تتطلب الكثير من الوقت لمسح منطقة، فهذا حقًا بإمكانه جذب ناشطين للاستفادة منها. وهذا تساؤل مفتوح.

ما زالت معظم فجوة التيراهرتز منطقة فارغة في خرائط الباحثين، ما يعني أن الأدوات التي تستخدمُ الأشعة تحت الحمراء القصية ليست شائعة بعد.

قال هان «ليس لدى العلماء الكثير من الفرص لاكتشاف منفعة موجات التيراهرتز، لذا سيظل العالم الأسرع الأشد حساسية في الفجوة في مخيلتهم حاليًا».

  • ترجمة: ريما اسمندر
  • تدقيق علمي ولغوي: موسى جعفر
  • المصادر: 1