كل البشر مؤمنون الإيمان ليس فقط بالله أو الأشباح
نقاط أساسية
- الاعتقاد حاجة ضرورية لكل البشر. ليس فقط بالله أو الأشباح.
- يوسع العلم مداه لكل جوانب الحياة، لكن انتشاره محدود. علينا اختيار كيفية تعاملنا مع ما لا نعلم.
- هنا يأتي المعتقد، إذ يملأ الفراغ المجهول حتى نستطيع الحفاظ على شعورنا بالهدف.
يتفرّد البشر بمشاركة سمة واحدة غير مألوفة: نحن نؤمن. تختلف طبيعة هذا الإيمان كثيراً هذه الأيام، إذ إنَّ العلمانية باتت بارزة جدًا. الاعتقاد ليس فقط بالإيمان بإله خارق للطبيعة، أو الأرواح والأشباح. الإيمان حاجة أساسية لكل البشر. أنت تؤمن بقدرتك على النجاح عندما تبدأ مشروعًا جديدًا. تؤمن أن فريقك سيفوز هذه المرة. تؤمن أن فكرتك هي الصحيحة، بالرغم من أنها لا تزال مجرد فكرة وخطة غير محققة. أنت شغوف بمعتقداتك، وهذا الشغف يدفعك للسير قدماً. دون إيمان، يصيبنا الركود.
معنى «خارق للطبيعة»
حتى لو كنت ملحدًا، فإنَّك لا زلت تؤمن بعقيدتك بعدم وجود إله. باعتبار أن غياب الدليل ليس دليلاً على الغياب، فإنَّ قولك بأن ندرة الدلائل على وجود كائن خارق للطبيعة كافية لاستبعاد وجوده، هذا بحد ذاته نوع من الإيمان. إيمان بعدم الإيمان.
لاحظ أن النقد التاريخي لشرور الدين، كالحروب والمجازر والاضطهادات، ليس له علاقة بطبيعة الإيمان أو الحاجة له. يمكن أن يؤدي الإيمان للتعصب الديني، لكن الاثنين ليسا نفس الشيء. يمكن أن تعتقد أنك أفضل من الآخرين، لكن ذلك لا يعني أنَّك يجب أن تتصرف على هذا الأساس وتحاول سحق أولئك الأقل شأنًا منك.
عند مناقشة العلاقة بين العلم والدين، يتخذ معظم الناس موقفاً مستقطباً. يروّن موقفين فقط؛ الإيمان أو عدم الإيمان. يحدث الكثير من الأسى بسبب الإصرار أن أحدهما أو الآخر خاطئ أو بلا معنى.
لكن عمليًا، يوجد طيف كامل وسطي بين الموقفين، حيث يتسرب الشك ونصل لحدود معرفتنا. يستطيع عدة علماء التوفيق بين ممارستهم للعلم وإيمانهم بالله. يدّعون أن العلم وصف غير كامل للواقع، وأنه لا يزال هناك الكثير من الأسئلة بعيدة عن متناوله. ويدّعون كذلك أنهم كلما فهموا العالم من خلال علومهم، كلما أُعجبوا بالله. بالنسبة لهم، العلم شكل من أشكال التدين.
تشارك عدّة مفكرين عظماء هذا الموقف، والعديد منهم لا يزالون يتخذونه. ما يزعج بعض المفكرين العلمانيين الأكثر عدائية أنهم يعتبرون هذه المقاربة الوسطية تتناقض مع المعتقدات العلمية. بالنسبة لهؤلاء المفكرين، الطبيعة مادة، والمادة منظمة وفقاً لقوانين كمية. يهدف العلم لكشف هذه القوانين، لا شيء آخر. يدّعون أن الموقف الميتافيزيقي بأن تكون مؤمناً وعالماً سوية – بالرغم من أنه يبدو جذابًا ومرضياً لكُثر – مملوءٌ بصعوبات معرفية: إنه يضع الطبيعي والخارق للطبيعة في تواجد مشترك مضطرب. كيف يمكن للطبيعة أن تكون طبيعية وخارقة للطبيعة في نفس الوقت؟ ماذا يعني «خارق للطبيعة» أصلاً؟ إذا رأيت شبحًا في المرآة وأنا أحلق، ماذا يحدث؟ إحدى المشاكل هي أنّ تعريفك لشيء غير عادي كظاهرة خارقة للطبيعة يبدو متناقضاً. يصدر أي حدث لُوحظ أو سُمع إشعاعات كهرومغنطيسية أو أمواجًا صوتية، وهذه بدورها تؤثر فيزيائيًا على كاشف أو أعضائك الحسية. وهكذا، هذا الحدث الخارق للطبيعة طبيعي جدًا، حتى لو كان غامضًا بشدة.
كيف يتداخل العلم والدين؟
يمكن لأحد أن يتبنى ما سماه ستيفن جاي غولد بمقاربة NOMA، اختصار ل Non-overlapping magisteria المذاهب غير المتداخلة. تقسّم هذه المقاربة العلم والدين إلى مجالات تأثير محدودة، وتعتبر أن الدين يبدأ حيث ينتهي العلم. لكن طبعًا هكذا رؤية عالمية لن تصل بعيدًا. بينما يتقدم العلم، تتغير أيضاً الحدود بين المذهبين، كما سيتغير أي نهج لإله الفجوات god-of-the-gaps. قولك بأنَّ الخارق للطبيعة ذو وجودٍ غامضٍ، وجودٍ غير مقاس وبالتالي غير قابل للكشف، يضع الفكرة خارج النطاق العلمي ويجعل المحادثة جدلية. يمكن للوجود الغامض أن يُبرهن فقط بالإيمان وليس بالدليل.
في الواقع، نعم يتداخل العلم والدين. يتقاطعان في عقول الناس، في خيارات حياتهم، وفي التحديات الأخلاقية الصعبة التي يواجهها المجتمع. نكرانك بشدة لقوة الدين في العالم، حيث يتبع مليارات الأشخاص معتقدات مختلفة وهم يبحثون عن حسّ بهويتهم ومغزى لحياتهم الصعبة، تفكير ساذج وبصراحة قاسٍ.
السؤال الصعب الذي يجب أن يُسأل هو لماذا يحتاج الكثير من الناس في ثقافات مختلفة للإيمان؟ ما الذي يقدمه الدين حتى يحتاج الكثير لاعتناقه؟
يمنح الانتماء لمجموعة دينية للشخص حسًا بالانتماء لمجتمع. تقابل أقرانك في الكنسية، المسجد، أو المعبد، وتشعر أن معتقداتك مبررة حيث ترى الآخرين يتشاركونها. هذا صحيح بالنسبة للمتدينين كما هو صحيح بالنسبة للعلمانيين. البشر حيوانات قبلية، والقبائل تتوحد حول رمز مركزي، أو قاعدة محكية أو أخلاقية. كان هناك فائدة تطورية لوجودك في قبيلة، لأن قوة الأعداد حسنت فرصك بالنجاة. وكان هناك فائدة مجتمعية كذلك، لأن الشخص يجد حسًا بالأهلية وهدفًا داخل قبيلته. بالنسبة لكثير من الناس، قد يفسر الإيمان الولاء للمجموعة، لكن ما يقودها هو الشعور المجتمعي والقيم المشتركة.
حدود العلم
على أي حال، يوجد جانب آخر للإيمان، جانب شخصي تمامًا، كما وصف وليام جيمس ببراعة في كتابه تنويعات التجربة الدينية The Varieties of Religious Experience، يوجد شيء فريد حول الفرد في خضم تجربة دينية حقيقية. يشارك هذا الشخص حسًا مجتمعيًا مع المجهول، مع ما يتجاوز حدود إنسانيتنا. العالم أكثر مما هو مرئي ومقاس، وهذه الملامح المخفية مهمة بالنسبة لنا أيضًا، إذ كتب جيمس: «عقلك الباطن، حوافزك، عقائدك، احتياجاتك، تكهناتك، جهزوا الأساس الذي يشعر وعيك بثقل نتيجته، ويدرك شيء ما داخلك أنَّه لا بد أنَّ النتيجة أصح من أي حديث عقلاني يمكن أن يناقضها مهما كان ذكياً».
حتى لو انتقد الفيلسوف جورج سانتايانا وآخرون جيمس من أجل «تشجيع الخرافات»، لا يمكن لأحد أن ينكر الحقيقة الواضحة أن للمنطق حدود. يوسع العلم مداه إلى كل جوانب العالم، ولكن هنالك حدود لا يمكن أن يتخطاها. نملك الخيار بأن نقرر كيفية تعاملنا مع ما لا نستطيع معرفته.
عندما ذكر اينشتاين «شعوره الديني الكوني» ليصف اتصاله الروحي الغير تقليدي بالطبيعة، كان يحاول التعبير عن شعوره المحير بالغموض، بانجذابنا البشري للمجهول. ربما يكون مفاجأة للبعض- خاصة أولئك الذين لا يفهمون ما يقود الناس إلى العلم – لكن التعامل بالعلم مع الجوانب المجهولة الطبيعة روحي بشدة.
العلم يتلاعب بالمجهول، كما الدين. يكون الاختلاف بينهما بأن العلم يستخدم أدوات لكي يوسع مدى المعلوم، بينما الدين محفوظ بالإيمان. وهنا حيث يأتي الاعتقاد، إذ يملأ فراغات المجهول حتى نستطيع الحفاظ على هدفنا. حتى العالم العلماني يمارس هذه العقيدة، مستخدماً البحث للاستطلاع ما وراء المعلوم، محققاً حاجتنا الدفينة لفهم أصولنا وفهم العالم، ولتوسيع إدراكنا للواقع الذي لا نستطيع أبدًا فهمه بالكامل.
- ترجمة: لبنى عبيد
- تدقيق علمي ولغوي: شادي الصعوب
- المصادر: 1