لماذا يجب أن نسخر من أنفسنا وفقًا لسينيكا ونيتشه

لم يكن لدى سينيكا وفريدريك نيتشه الكثير من القواسم المشتركة فيما يتعلق بمعتقداتهم الفلسفية، ومع ذلك يتفق كلاهما على وجود حكمة في تعلم السخرية من النفس ومن المشكلات التي تلقيها الحياة في طريقنا. حيث أدرك نيتشه، كما أدرك سينيكا من قبله، أنك إذا شغلت نفسك بما لا يمكنك تغييره، فإنك ستفشل في التعامل والتصرف مع الأشياء التي بإمكانك تغييرها. النظر للأمور ببساطة وخفة قد يكون هو الحل للتعامل مع القدر.

لا شك أننا نستشعر قوة القدر المزعجة في كل يوم من حياتنا؛ كمظلة لا تفتح قبل هطول المطر، أو باب مصعد يغلق في وجهك، أو زحام تعلق فيه، أو رحلة تلغى. وشعورنا بالضيق ومحاولة محاربة هذه الأمور هو جزء من طبيعتنا البشرية.

ومع ذلك، بالنسبة للفلاسفة الرواقيين، فإن استنزاف الإنسان نتيجة ردود الفعل السلبية لا يساعده في حل مشكلاته أو إيجاد سلامه النفسي. بالتأكيد، الكثير مما يجري في الحياة خارج عن سيطرتنا، لكننا نتحكم في كيفية استجابتنا للإزعاج والمآسي التي يلقي بها القدر في طريقنا.

ناقش سينيكا، الفيلسوف ورجل الدولة الروماني الرواقي في القرن الأول، الفكرة القائلة إن إحدى أفضل الطرائق للتعامل مع مشكلاتنا هي الضحك عليها والسخرية منها:

“يجب أن ننظر إلى الأشياء بخفة ونتحملها بروح مرنة، لأن السخرية من الحياة أكثر إنسانية من النواح عليها… فالأول يضفي عليها بصيصًا من الأمل، في حين يندب الآخر بغباء أشياء لا يأمل في تصحيحها”.

لتوضيح وجهة نظره، تخيل نفسك تمر بيوم سيئ في العمل. أنت تعمل بمكان بعيد، وتبذل قصارى جهدك، ولكن لا يبدو أن شيئًا يسير في صالحك. تشعر بمزيد من الإرهاق والإحباط مع مرور الوقت، وتنتظر انتهاء اليوم بفارغ الصبر. ثم، بينما تمشي إلى المنزل ساخطًا، يطير فوقك طائر عشوائي، ومن حيث لا تحتسب يتخلص من فضلاته على رأسك. فتتجمد في مكانك. إنه أمر غير متوقع تمامًا لدرجة أنك، في البداية، تصدم. لكن بعد ذلك، ستبدأ تضحك غير مصدق لما حدث. ولا يسعك إلا أن تنفجر في ضحكة المغلوب على أمره:

“الضحك يعبر عن ألطف مشاعرنا، ويؤكد على أنه لا يوجد شيء عظيم أو جاد أو حتى بائس في كل مظاهر وجودنا”.

يعبر هذا الضحك أو السخرية، من نفسك أو من موقف ما، عن فهم عميق ومفاجئ. فتدرك أخيرًا -بكل ذرة في كيانك- أنه لا يوجد شيء كان بإمكانه منع ما حدث بالفعل. ومع ذلك، ما زلت بخير، وانفجارك الصادق في الضحك أخرج مشاعر التوتر التي كانت تتراكم داخلك ببطء على مدار اليوم: صراعك مع القدر وتقبله.

كما قال الطبيب النفسي النمساوي والناجي من الهولوكوست فيكتور فرانكل في كتاب (بحث الإنسان عن المعنى): “رؤية الأمور في ضوء روح الدعابة والسخرية حيلة من نوع ما يتم تعملها في أثناء إتقان فن الحياة”.

السكينة في مواجهة الشك

تبدأ مقالة كتبها سينيكا بعنوان “سكينة العقل” ب: ما تتوق إليه عظيم وسامي وشبه مقدس، لا شك في ذلك “. لاحظ سينيكا أن إيجاد السلام الداخلي هو هدف إنساني متأصل، هدف يتجاوز التاريخ والثقافات والطبقات الاجتماعية.

اعتقد سينيكا أن قلة من الناس فقط على الطريق المطواع للسعادة والسلام. فمعظم الناس منشغلون بمطاردة الملذات التي لا معنى لها، أو الانزعاج من الرغبات المتواصلة، أو القلق بشأن ممتلكاتهم. لماذا؟

أحد أسباب ذلك هو الفشل في تبني مبدأ رئيسي ومركزي لمدرسة الفلسفة الرواقية: ألا وهو الوعي أن الكثير من جوانب الحياة يحكمها القدر والاحتمالات. يعتقد الرواقيون أننا يجب أن نتعلم قبول هذه الحقيقة واحتضانها، بدلًا من محاربة ما لا يمكن تغييره. فالجميع، بصرف النظر عن ثرواتهم أو سمعتهم أو قدراتهم، تحت رحمة القدر، وتكمن حالة عدم اليقين هذه، سواء بشأن الحياة والموت، أو الحظ وسوء الحظ، في صميم شعور الإنسان.

ومع ذلك، يعاني معظم الناس عندما لا تسير الأمور كما يريدون. إنهم محبطون وغاضبون لكونهم لا يستطيعون قبول قوة الصدفة، ومن الواضح جدًا أنه أمر ليس لديهم أي سيطرة عليه. ومحاربة ما لا يمكن تغييره كالماضي، أو مرض عضال، أو طقس سيئ، أو حتى قرارات الآخرين، ليست أمرًا عديم الجدوى فحسب، بل مرهق أيضًا.

يخرج هذا النقاش من رحم تجربة سينيكا الشخصية، فعندما كان محاميًا شابًا يستعد للحياة العامة في روما، خرجت خطة حياته عن مسارها لعقد من الزمان بسبب المرض. لاحقًا، بعدما ازداد نفوذ وثروة الإمبراطورية، بدأت مسرحيات وألاعيب السلطة ضده: إذ نفي مرتين قبل أن يضطهده تلميذه الإمبراطور الروماني سيئ السعة نيرون ويأمره بالانتحار.

على الرغم من سوء حظه، يبدو أن سينيكا وجد ساحة كبيرة لمناورة القدر المتعجرف. كان فيلسوفًا ذكيًا، ولكن أيضًا شخصية عامة نشطة سياسيًا. لقد تكيف مع عدم يقين حياته ووجد السكينة في المكان الوحيد الذي ادعى أنه يمكن لأي إنسان أن يعثر عليها فيه: داخل أنفسنا. فقال لكي نكون سعداء نحتاج إلى التركيز فقط على ما في وسعنا: كيف نفهم العالم ونختار أن نتصرف. باختصار، يجب أن نتعلم كيف نضحك في مواجهة المحن.

نيتشه يتفق مع سينيكا الرواقي

ما يصفه سينيكا في مقالته “سكينة العقل” هو حب غير مجزأ لحياة المرء، في السراء والضراء على حد سواء، لدرجة أنه حتى الأشياء المأساوية لا يمكن أن تهددها. هذا هو التفسير الأكثر رواقية لمصطلح “amor fati” أو حب القدر- وهو مصطلح ينسب إلى فيلسوف القرن التاسع عشر الألماني فريدريك نيتشه، الذي كتب بإسهاب عن قيمة الضحك.

على الرغم من عدم إعجابه بسينيكا ومعظم الرواقيين الآخرين، لوجهة نظرهم الزاهدة والمستسلمة تجاه الحياة، يبدو أن الاثنين يتفقان على قوة الضحك حيال التعامل مع المحن والمصاعب. في أعظم مؤلفاته، “هكذا تكلم زرادشت” يلمح نيتشه إلى السلطة الجسيمة التي يمتلكها الشيطان لزرع الصعوبات في حياة الناس. ويؤكد على أنه بالضحك، وليس بالكراهية، يمكن إخماد قوة الشيطان: “لا يقتُل المرء بالغضب بل بالضحك، تعالوا نقتل روح الثقل!” [توضيح المراجع: في كتاب هكذا تكلم زرادشت، قال نيتشه بلسان شخصية زرادشت إن روح الثقل هي شيطانه. وهي الكآبة والجدية والعمق وكل ما يتعلق بمفهوم مشقة الحياة. وقال أيضًا إن “كل الأشياء تسقط” بفعل روح الثقل، ونقيضها البهجة والرقة والضحك].

وينطبق الشيء نفسه على سيطرة الإنسان على حياته. حيث تحدث نيتشه عن الهدف العظيم المتمثل في العيش بإخلاص وشجاعة وحيوية، وكأن الحياة مهمة حقًا. يجب أن يحاول الناس توجيه قوتهم المتأصلة ليخاطروا ويحاولوا، لأن حتى الفشل أفضل من عدم المحاولة. ولا يجب أن تمنع الإخفاقات الناس من المحاولة مرة أخرى وبنفس بهجة الحياة، وكما ذكر نيتشه:

“أنتم يا علية القوم، ألم تفشلوا جميعًا؟ كن سعيدًا، ماذا يهم! إلى أي حد ما زال الأمر ممكنًا! تعلم كيف تسخر وتضحك على نفسك لأنه يتعين على المرء أن يضحك!”.

أدرك نيتشه، كما أدرك سينيكا من قبله، أنك إذا شغلت نفسك بما لا يمكنك تغييره، ستفشل في التعامل مع الأشياء التي يمكنك تغييرها؛ كالعيش بالطريقة التي تريدها. بالفعل يسيطر القدر علينا جميعًا بإحكام، والحياة ليست دائمًا عادلة أو سهلة، لكن العيش فيها يمكن أن يظل رائعًا، بدلًا من الشعور بالهزيمة في مواجهة الشدائد، بإمكانك الترحيب بها بثقة والابتسام وحتى الضحك، وتستمر بالسعي في أعقابه.

فالقدر والفشل يؤذيان فقط أولئك الذين لا يستطيعون التصالح معهما.

  • ترجمة: رنا عبد الرحمن
  • تدقيق علمي ولغوي: موسى جعفر
  • المصادر: 1