كتابة أبجدية الحياة

حين يدرس العلماء نشوء الحياة على كوكب الأرض، فإن عليهم الاعتماد على القوانين الفيزيائية، والبيانات السابقة، والنماذج بدل الملاحظات المباشرة. لأننا لا نستطيع الجزم بحال العالم قبل أربعة مليارات سنة؛ حين تشكلت الحياة المجهرية الأولى من امتزاج جزيئات غير حية. ولكن معرفة المزيد عن الحياة الفتية مهم لفهم الحياة الحالية، ولدراسة احتمالية وجود حياة في مكان آخر في الكون.

تعاون مؤخرًا علماء من شتى أنحاء العالم، مستخدمين النماذج الحاسوبية لدراسة جزيئات مهمة تسمى الأحماض الأمينية. وهي جزيئات صغيرة تستخدمها كل أشكال الحياة على الأرض لأداء مهمات دقيقة جدًا. وعلى الرغم من أن الدنا DNA، وهو جزيئة أساسية أخرى تستخدمها كل أشكال الحياة، يسمى «اللبنات الأساسية للحياة»، فإن الأحماض الأمينية أولى بهذه التسمية. لأن الدنا سلسلة طويلة من الجزيئات التي تعمل كمخطط، إذ تسجل الترتيب الذي توضع به لبنات البناء من الأحماض الأمينية.

لا تستخدم أشكال الحياة غير عشرين حمضًا أمينيًا، يمكن تخيلها حروفًا في أبجدية، ولكنها توظفها في عدد كبير جدًا من التراكيب، تمامًا كما تتراكب الحروف لتكون الكلمات. تسمى تلك «الكلمات» التي تشكلها الأحماضُ الأمينية بروتينات؛ وهي جزيئات كبيرة جدًا مسؤولة عن معظم ما هو ضروري لإبقائنا على قيد الحياة، بدءًا من هضم أكلنا إلى تحريك عضلاتنا.

ولكن في ظل وجود آلاف الأحماض الأمينية المحتملة، لماذا تستخدم كل الكائنات الحية المعروفة ذات العشرين حمضًا أمينيًا؟

استخدم الباحثون برامج حاسوبية لإنشاء قاعدة بيانات للأحماض الأمينية المحتملة، والتي بلغ عددها 1913. ثم جعلوا الحاسوب يصنفها عشوائيًا إلى مجموعات من عشرين. ووضعوا ثلاثة معايير لقياس «جودة» تلك المجموعات للكائنات الحية، هي حجم الأحماض الأمينية وشحنتها الكهربائية وقدرتها على التفاعل مع الماء. وهي تؤثر في نوع البروتين الذي سينتج من سلسلة أحماض أمينية، وما يستطيع فعله. حسب هذا فإن مجموعة الأحماض الأمينية «الجيدة» هي ذات المدى الواسع من الخصائص، والتي تتيح لها صنع بروتينات تؤدي العديد من الوظائف الحيوية المختلفة. بعبارة أخرى فإن ما فعلوه هو إنشاء «أبجدية» جديدة تكون الأنسب لتوليف أكبر عدد ممكن من «الكلمات» المختلفة المفيدة. وكما الحال في اللغة، وجود العديد من الكلمات يضاعف التعقيد الذي يمكنك فعله بها.

صنع العلماء مئة مليون مجموعة جديدة من الأحماض الأمينية باستخدام النماذج الحاسوبية. وحسب المعايير التي وضعوها سلفًا، تبين أن ست مجموعات فقط تعد «أفضل» من المجموعات التي تستخدمها الحياة. ولكن هذه المجموعات الستة كلها تتطلب طاقة إضافية من الكائن الحي ليصنعها ويستخدمها، لذا قد لا تكون «أفضل» فعلًا.

هذا يعني أن الحياة الأولى استطاعت صنع مجموعة أحماض أمينية هي الأفضل، أو قريبة من المجموعة الأفضل، على الرغم من ملايين الاحتمالات. وهذا مؤشر قوي إلى أن هذه الأحماض الأمينية لم تختر عشوائيًا. ومن المرجح أن العديد منها لم يكن متوفرًا في بيئة الأرض الفتية، بل «اخترعته» الحياة لاحقًا. ما يعني أن الحياة صنعت أبجديتها الخاصة عبر عملية التطور البطيئة جدًا. وقد حدثت العديد من التجارب، كما في المحاكاة الحاسوبية، حتى وجد التشكيل الأمثل الذي أتاح ازدهار الحياة.

توفر لنا هذه الدراسة رؤية عن الأحماض الأمينية والحياة الفتية، وهي -علاة على ذلك- مثال لكيف تستمر الحواسيب والتقنية في توسيع العلم، وتعبيد طرق جديدة للإجابة عن الأسئلة. نعم قد لا نتمكن من العودة 4 مليارات سنة إلى الماضي لنشهد بداية الحياة على الأرض، ولكننا نستطيع -بفضل التطورات التقنية- البدء في فهم المزيد عن الكيفية التي جمعت بها أبسط جوانب الحياة. وإن اختارت الحياة على الأرض أفضل مجموعة أحماض أمينية [ممكنة] تعمل بها، فربما تستخدم الحياة في الفضاء -إن وجدت- مجموعة مشابهة. إن مثل هذه الدراسات تزيد فهمنا لنشوء الحياة على الأرض، وكيف قد توجد في مكان آخر من الكون.

  • ترجمة: إلهام مخلوف
  • تدقيق علمي ولغوي: موسى جعفر
  • المصادر: 1