ما هي الجاذبية الكمومية؟
تسعى الجاذبية الكمومية إلى وصف الجاذبية وفقًا لمبادئ ميكانيكا الكم، ولكن هل يمكن القيام بذلك؟
يستند فهمنا للجسيمات الأولية وتفاعلاتها على النموذج القياسي وهو النظرية الأكثر دقة التي وضعت حتى الآن لوصف الخصائص والسلوك الفيزيائي لجميع الجسيمات (باستثناء المادة المظلمة) وكذلك تلك التي تتوسط التفاعلات بينها.
التفاعل الأساسي الوحيد المعروف الذي لم يصفه النموذج القياسي هو الجاذبية. قدمت نظرية أينشتاين للنسبية العامة وصفًا كلاسيكيًا للجاذبية، والتي تعامل مجال الجاذبية كهندسة الزمكان. واُستخدمت هذه النظرية لوصف تأثيرات الأجسام الضخمة بدقة، مثل الكواكب والنجوم والمجرات، على الزمكان من حولهم، وكذلك لمساعدتنا على فهم تطور الكون ككل.
ولكن يفرض تحقيق التوافق بين نظرية الجاذبية في النسبية العامة ومبادئ ميكانيكا الكم (فرع من فروع الفيزياء يتعامل مع خصائص وسلوك الأجسام على المقياس دون الذري) قدرًا من التحدي. عندما نحاول تحديد كمية النسبية العامة، نحصل على نظرية صالحة لمجموعة من الطاقات التي تصف التفاعلات بين الجسيمات والأجسام المختلفة، ولكن تحتاج النظرية الأساسية أن تكون صالحة لجميع الطاقات من أجل أن تكون صحيحة.
على الرغم من أن التأثيرات الكمية في الجاذبية لا تلعب دورًا هامًا في معظم العمليات الفيزيائية، إلا أن هناك حالات يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. أي عندما تكون حقول الجاذبية قوية بشكل استثنائي، كما هو الحال في اللحظات الأولى التي تلي الانفجار العظيم أو بالقرب من مراكز الثقوب السوداء.
لدراسة الفيزياء في مثل هذه الظروف القاسية واستكمال فهمنا للتفاعلات الأساسية، من الضروري صياغة نظرية كمومية للجاذبية. ومع ذلك، فإن ذلك يشكّل مشكلة صغيرة.
لماذا تصعب دراسة الجاذبية الكمومية لدرجة كبيرة؟
التحدي الرئيسي الذي يواجه المرء عند البحث عن أدلة للجاذبية الكمومية هو نقص البيانات التجريبية. يدرس الفيزيائيون التفاعلات الأساسية للجسيمات الأولية مع مسرّعات الجسيمات، والتي تحطم معًا حزم الجسيمات التي تتحرك بسرعة قريبة من سرعة الضوء. ويمكن استخدام أنواع الجسيمات التي تنشأ في حادث التصادم وعددها والزوايا والسرعات التي تحلق بها بعيدًا لاستخراج معلومات قيمة عن خصائصها وتفاعلاتها.
القضية الرئيسية هنا هي أن تأثيرات الجاذبية في تفاعلات الجسيمات الأولية ضعيفة لدرجة أنه من المستحيل قياسها مع المسرعات الحالية. على سبيل المثال، الجاذبية بين إلكترونين أضعف بأكثر من 42 درجة من حيث الحجم من التنافر الكهرومغناطيسي بينهما. نظرًا لصعوبة قياس التأثيرات الكمومية، كانت دراسات الجاذبية الكمومية حتى الآن نظرية فقط، إلا أن الفيزيائيين تمكنوا من التوصل إلى عدد من المرشحين القادرين.
هل يمكن وصف الجاذبية الكمومية بنظرية الأوتار؟
أُجريت محاولات لصياغة نظرية صحيحة للجاذبية الكمومية منذ أربعينيات القرن العشرين، ولكن التقدم كان محدودًا حتى الثمانينيات عندما اُقترح مرشح جديد: نظرية الأوتار.
الفرضية الأساسية لنظرية الأوتار هي أن الجسيمات الأولية ليست نقطية الشكل، كما هو الحال في النموذج القياسي، ولكنها بدلاً من ذلك سلاسل صغيرة أحادية البعد. كل اهتزاز أو تذبذب في هذه الأوتار يتوافق مع نوع معين من الجسيمات الأولية، وهذا يعني أن الإلكترونات لديها اهتزازات فريدة من الكواركات والفوتونات.
على وجه الخصوص، تمتلك أحد أنماط اهتزاز الأوتار المعروفة خصائص متوافقة مع ما يتوقعه العديد من الفيزيائيين من الجاذبية الافتراضية -الجسيمات أو الأوتار التي يُفترض أن تتوسط تفاعل الجاذبية.
ومع ذلك، تختلف ديناميكيتها إلى حد ما عن الجسيمات الموجودة في النسبية العامة الكمية، حيث تتعارض مع المبادئ الأساسية للفيزياء والرياضيات. في نظرية الأوتار، تتفق تفاعلات الجاذبية مع الجسيمات الأخرى تمامًا مع هذه المبادئ، مما يعطي قابلية لهذه النظرية كإمكانية للجاذبية الكمومية.
واحدة من الخصائص المثيرة للاهتمام والأكثر أهمية لهذه النظرية هي أنها تتنبأ بوجود عشرة أبعاد للزمكان. للوهلة الأولى، يبدو هذا التوقع غير متوافق مع تجربتنا اليومية التي يمكننا فيها ملاحظة أربعة أبعاد فقط: ثلاثة أبعاد وزمن واحد. والحل الأكثر قبولًا على نطاق واسع لهذا التناقض الواضح هو أن الأبعاد الستة الإضافية صغيرة جدًا ولا يمكن ملاحظتها بالأدوات التجريبية المتاحة لنا حاليًا.
من المهم أن نضع في اعتبارنا أن هذه مجرد فرضية واحدة للعديد. اقترح الفيزيائيون أيضًا نماذج أخرى ذات أبعاد إضافية تشبه الفضاء، وأكثرها شعبية هي نماذجArkani-Hamed-Dimopoulos-Dvali (AHDD) وراندال -ساندرم (RS). في هذه النظريات، توجد أبعاد إضافية أيضًا ولكن يمكن أن تكون بحجم ملليمتر أو كبيرة بشكل لا متناهي.
المنظور الهولوغرافي للجاذبية الكمومية:
فهمنا الحالي لنظرية الأوتار غير مكتمل للأسف. وبشكلٍ خاص، لا نعرف كيف نستمد هندسة الأبعاد الستة الإضافية من المبادئ الأساسية. وهذه مشكلة خطيرة جدًا لأن شكل هذه الأبعاد يؤثر على تفاصيل تفاعلات الجاذبية عند الطاقات ودرجات الحرارة العالية جدًا، ويمنعنا هذا الحدّ من دراسة العديد من آثار الجاذبية الكمومية كميًا. على الرغم من أن نظرية الأوتار لم تصبح مقبولة بشكلٍ عام بعد، إلا أن الأبحاث في هذا المجال أدت إلى تطوير العديد من الأدوات النظرية، والتي يعرف أكثرها قوة وأهمية (على الرغم من أنها لا تزال افتراضية) باسم الثنائية المجسمة أو المراسلات المجسمة.
الفكرة هنا هي أن الكون ذي الأبعاد العشرة مع الجاذبية هو إسقاط لكون أقل بعدًا (مثل صورة مجسمة)، الذي لا يحتوي على حقول جاذبية داخله. إن التفكير في كوننا في سياق هذه المساحة المنخفضة الأبعاد يساعد على تبسيط بعض الألغاز المعقدة في الفيزياء، وخاصة تلك التي تنشأ عند الجمع بين ميكانيكا الكم والنسبية العامة. ويرجع هذا إلى أن وصف هذا العالم الأكثر بساطة والخالي من الجاذبية أسهل كثيرًا، فالفيزيائيون لديهم الكثير من الخبرة في العمل مع مثل هذه النظريات الخالية من الجاذبية عند دراسة التفاعلات الكهرومغناطيسية والضعيفة والقوية التي وصفها النموذج القياسي.
لم تسمح المراسلات المجسمة بدراسة المشاكل النظرية المعقدة للجاذبية الكمومية فحسب، بل اُستخدمت أيضًا لوصف التطور الملحوظ لكوننا. ويأمل العلماء أن يُمكّنهم المزيد من التطور من دراسة المزيد من الظواهر.
النظريات الأخرى للجاذبية الكمومية:
تُعد نظرية الأوتار والمراسلات المجسمة النهج الأكثر شيوعًا لتوحيد ميكانيكا الكم مع الجاذبية، ولكن هناك غيرها. ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك نظرية تسمى الديناميكا الهندسية الكمومية (لا تدع الاسم يخيفك!). تتعامل هذه النظرية، التي جذبت انتباه الباحثين في وقت مبكر من الستينات، مع الزمكان الثلاثي الأبعاد بطرق مختلفة قليلًا على النقيض من النسبية العامة، التي تعامل جميع الأبعاد الأربعة بالتساوي في مفهوم الزمكان. هذه النظرية هي تكميم للنسبية العامة وليس من المتوقع أن تكون صحيحة في الطاقات ودرجات الحرارة العالية للغاية (مثل تلك التي وجدت في وقت مبكر جدًا من الكون) ولكنها لا تقدم تنبؤات مثيرة للاهتمام حول التصحيحات الكمية للنتائج النسبية العامة الكلاسيكية، وخاصة في علم الكون، الذي يدرس تطور الكون بأكمله.
وهناك نظرية أخرى تُعرف باسم الجاذبية الكمومية الحلقية، حيث يتخلى الفيزيائيون عن مفهوم الزمكان المستمر (كما هو محدد في النسبية العامة) ويعتبرونه بدلاً من ذلك مكونًا من وحدات بناء صغيرة ومتقطعة، والتي تكون أحادية البعد وعندما تتشابك، تشكل نوعًا من النسيج العملاق رباعي الأبعاد.
في نظرية أخرى مماثلة تعرف باسم التثليث الديناميكي السببي، فإن قطعة أولية من الزمكان هي نظير رباعي الأبعاد لمثلث مسطح. وعندما تلتصق معًا على وجوههم، تشكل هذه الكتل الكون وتوفر وسيلة أبسط لقياس الجاذبية. حجم هذه الكتل (أو قطع الزمكان) في كلتا النظريتين هو حسب طول بلانك، الذي يعتبر المقياس النموذجي لأي نظرية للجاذبية الكمومية. هذا الطول هو حوالي 10−35 متر، وهو أصغر بحوالي 23 درجة من حجم الذرة.
تشير نظريات أخرى، مثل نظرية المصفوفة، إلى وجهة نظر راديكالية للزمكان، حيث يتوقع الفيزيائيون أنه قد لا يوجد على الإطلاق وصفًا للواقع وقد يكون فقط وصفًا تقريبيًا. في حين أن هذا النهج يبدو غير بديهي ويستحيل العمل به، إلا أن الباحثين لا يزالون قادرين على استخلاص رؤى قيمة منه لتقديم تنبؤات يمكن اختبارها. ومع ذلك، من أجل أن تكون هذه التوقعات أكثر دقة من تلك التي تقدمها المناهج الأخرى الأكثر تحفظًا، من الضروري إجراء مزيد من التحسين في الفهم النظري لهذه النظرية أو تحسين الطرق العددية التي يستخدمها العلماء في هذا المجال.
كل هذه النظريات لها مزاياها وعيوبها ولا واحدة منها تقدم حاليًا وصفًا شاملًا للجاذبية الكمومية. يتطلب اكتشاف أي نظرية صحيحة (إن وجدت!) اختراقًا نظريًا أو أفضل من ذلك، بعض الأدلة التجريبية.
كيف ستساعدنا التجارب المستقبلية على دراسة الجاذبية الكمومية؟
يكاد يكون من المستحيل دراسة تأثيرات الجاذبية الكمومية مع مسرعات الجسيمات الأولية لأن مساهمتها في تفاعلات الجسيمات ضئيلة للغاية. ومع ذلك، اُقترحت طرق بديلة في الآونة الأخيرة، وتعتمد الطرق الأكثر شعبية على كاشفات موجات الجاذبية. وأكثر هذه القياسات حساسية هي مقاييس التداخل بالليزر، والتي تقيس المسافات بين المرايا المنفصلة باستخدام شعاع ليزر ينتقل بينهما. ومن الممكن أن تسجل هذه الكواشف موجات الجاذبية المنبعثة من اندماج الثقوب السوداء (وهي الأجسام التي من المرجح أن يتأثر سلوكها إلى حد كبير بتأثيرات الجاذبية الكمومية).
عندما تمر موجة الجاذبية (تموج في الزمكان) عبر الجهاز، فإنها تغير المسافة التي يجب أن يقطعها شعاع الليزر من أجل الوصول إلى المرآة المجاورة، مما يسبب تغييرات في شعاع الليزر التي يمكن الكشف عنها وقياسها.
يمكن للعلماء حساب طيف هذه الموجات الجاذبية، على افتراض أنها وصفت بشكل صحيح عن طريق النسبية العامة، والتباين بين الملاحظات وهذه الحسابات فأنها يمكن أن تشكل مساهمة في التأثيرات الكمية في الجاذبية. ويأمل علماء الفيزياء في أن يوفر الجيل القادم من مقاييس التداخل معلومات قيمة مثل منظار آينشتاين الأرضي أو الهوائي الفضائي لقياس التداخل بالليزر المقرر تقديمه في ثلاثينيات القرن الحالي. ويستند نهج آخر على تحليل خلفية المَوْجة الميكْرُويّة الكونية، وهو الإشعاع الكهرومغناطيسي في الفضاء الذي كان موجودًا منذ الانفجار العظيم. كان يجب أن تتأثر خصائص هذا الإشعاع، التي يمكننا قياسها، بالعمليات التي حدثت في الكون في اللحظات الأولى من وجوده، عندما كانت التأثيرات الكمية في الجاذبية مهمة للغاية.
يجادل بعض الفيزيائيون بأن الخصائص المقاسة في هذه الخلفية الإشعاعية تؤكد وجود الجاذبية في الكون في وقتٍ مبكر، مما يؤكد فرضية أن الجسيمات تتوسط التفاعلات الجاذبية على المستوى الأساسي، مثل التفاعلات الأساسية الأخرى.
ونأمل في المستقبل أن تزودنا هذه التجارب، وربما غيرها من التجارب التي لم يتم التفكير فيها بعد، بالمعلومات التي نحتاجها لإكمال فهمنا لهذه التفاعلات الأساسية وكشف طبيعة الكون.
- ترجمة: حنان الميهوب
- تدقيق علمي ولغوي: حسام عبدالله
- المصادر: 1