نهاية 25 سنة من البحث عن مصدر الوعي، وعلم الأعصاب خسر رهانه هذه المرّة

إنها سنة 2023 ومن الواجب أنهُ بحلول هذا العام، أنَ كُلًّا منّا يلبس حقيبة نفاثة. نعيش على القمر ونخوض أحاديث عميقة مع كلابِنَا باستخدام أجهزة تترجم لنا أصوات الحيوانات الأليفة.

كذلك، وجب أن نكون على دراية بكيفية عمل الوعي، وبالطبع لم يحصل شيء من ذلك.

لكن حدثًا مُستجدًا تزامن مع اللقاء السنوي لجمعية “الدراسة العلمية للوعي ASSC” في نيويورك، يعد مثالًا صارخًا على مدى ما بلغناه من جهودٍ في نمذجة الآليات الأساسية للتفكير البَشّري.

وقد حسم المُحَكّمون في لقاء عدائي بين العقول، أنَ سلسلة من التجارب المبنية على “نظرية المعلومات المتكاملة للوعيIIT” كانت ذات مزايا أكثر من إجراء الاختبارات المبنية على نظرية “مساحة العمل العصبية العالميةGNWT” والتي تُعَدّ من أقرب منافسي النظرية السابقة.

على الرغم من هذا الانتصار، إلّا أن اللقاء أظهر بأننا ما نزال بعيدين عن اكتشاف مصدر الوعي في الدماغ البَشّري.

ونتيجة لذلك، فإن الرهان ذا ال25 عام قد شارف على نهايته مع اعتراف عالم الأعصاب الحوسبي الأمريكي-الألماني كريستوف كوخ Christof Koch بالهزيمة.

ففي عام 1988 كان كوخ واثقًا للغاية أن الأُسس العصبية لتجربة الدماغ عن العالم، ستكون مفهومة بغضون 25 سنة.

حيث اقترح رهانًا ودّيًا والذي أخذه الفيلسوف الأسترالي وعالِم الإدراك ديفيد تشالمز David Chalmers على محملِ الجد.

حسنًا، لربما أُقحِم بعض الكحول في هذا الأمر – فصندوق من النبيذ الفاخر كان على المحك، ويبدو أنهُ كان رهانًا معقولًا لكِلا الطرفين.

كان كوخ وتشالمرز جزءًا من مشروع تديره “مؤسسة تمبلتون الخيرية العالمية TWCF” والتي مهمتها إيجاد طرق لجمع الباحثي.

معًا; لاختبار نماذج الوعي بشكلٍ أفضل.

منذ ربع قرن، كان علم الأعصاب يزدهر مع التقدم في التصوير والسبر Probing واعدًا بطرقٍ جديدة لتخطيط ومراقبة النشاط على مستوى تفصيلي.

“لقد كنتُ مفتونًا للغاية بكل هذه التقنيات” هذا ما قاله كوخ لمارينا لينهارو Mariana Lenharo من مجلة Nature.

“وفكرتُ: 25 سنة من الآن؟! لا مشكلة”.

بالمقابل، فالوعي لم يكن لغزًا سهل الحل.

يشتهر تشالمرز لتقسيمه البحث عن الأجوبة حول الوعي إلى “مشاكل سهلة” و”مشاكل صعبة”.

حيث ينضوي تحت المشاكل السهلة: اندماج المعلومات ضمن أنظمة الإدراك، أو اكتشاف كيف نركز انتباهنا، والألغاز الفيزيائية والكيميائية والجوهرية التي تعتبر عسيرة الحل لكن على الأقل واضحة التعريف.

بينما المشاكل الصعبة فهي ذات طبيعة فلسفية أكثر، مثل: كيف يمكن لشبكة من العصبونات أن تولّد تجربة شم رائحة عشب مجذوذ في يوم صيف دافئ؟

كيف يحوّل دماغنا الموجات الكهرومغناطيسية التي تحفّز ردود فعل في العينين، إلى قوس قزح ذي ألق؟

وكيف يُنتَج حس الوعي بالذات/النفس؟

يكمن التحدي باستخدام أدوات العلم مثل: التجربة والتكرار والاستدلال Reasoning وذلك لربط المقاييس الموضوعية objective measures للخلايا والكيمياء بالوصف الذاتي subjective accounts لحس السيطرة Agency³ والوعي.

كل ذلك مع مراعاة أخلاقيات التجربة على الدماغ البَشّري.

ولتحقيق تقدم في الإجابة على بعض أسهل الأسئلة، يسرت TWFC شيئًا من المنافسة بين الطرق المتنافسة للبحث عن الوعي واختبار النظريات المهيمنة; من خلال دعوة الباحثين ذوي الآراء المختلفة للعمل معًا على التصاميم التجريبية.

ويذهب أحد هذه الآراء -والذي أيّده كوخ- إلى أنَّ الوعي ينبثق من “المنطقة الساخنة القشرية الخلفية posterior cortical hot zone” الهياكل الحسية عبر القشرة، بالمقام الأول في الفصوص على جانبي ومؤخرة الدماغ.

ويشار إلى هذا الرأي باعتباره “نظرية المعلومات المتكاملة IIT” حيث تَعطي هذه النظرية الأولوية “لترميز الأشياء التي ندركها” بأنها سمة أساسية لنشاط الوعي.

في حين أنَّ نظرية “مساحة العمل العصبية العالمية GNWT” تقترح اشتراك مناطق اضافية مثل الفص الجبهي، الذي يدمج المعلومات الحسّية ويشرف على تحويلها إلى تجربة.

تضمنت التجارب على GNWT تصوير مناطق من الدماغ والتي تكون نشطة عندما يبلغ المشاركون بنشاطها.

وهي طريقة تعقدت بسبب الأسئلة عن: أين ينتهي الوعي، والسلوك العصبي للإبلاغ عن أنهُ يبدأ.

لربما منح المحكّمون في الجولة الأخيرة من الاختبارات نقاطًا أكثر ل IIT بالاعتماد على نتائج الدراسة الأخيرة. لكن كوخ لم يتعامل مع ذلك بأنهُ نصر صريح لمجاله.

لذلك دفع ثمن رهانه مع تشالمرز أثناء هذا الحدث، مُعترفًا أنهُ ما يزال هنالك متسع للنقاش حول كيفية بناء الدماغ لكون داخل عقولنا.

هوامش:

  1. جرى هذا الحدث على مسرح قرية غرينوتش في نيويورك، ليضم معسكرين متنازعين على تفسير كيفية نشوء الوعي في الدماغ. فكل منهما يمثل نظرية رائدة في هذا الشأن، حيث كانا بانتظار معرفة من سيكون النصر حليفه.
    مسترجعين رهانًا دار قبل 25 سنة -وبلغ نهايته مع هذا الحدث- بين قائدي هذين المعكسرين.
  2. يُعزى هذا العداء بين العقول إلى التنافر بين رؤية كل نظرية من النظريتين المتنافستين حول مصدر الوعي في الدماغ وكيف يفسّر كل منهما ذلك.
  3. الشعور بالقوة (Sense of Agency (SA أو حس السيطرة Sense of Control يشير إلى الإدراك الذاتي/الشخصي للمرء بقدرته على البدء والتنفيذ والتحكم بالأفعال الإرادية الاختيارية في العالم.
  4. في عام 1998 اجتمع كل من كوخ وتشالمرز في حانة شمال ألمانيا بعد أن أمضيا يومهما بإلقاء محاضرات عن الوعي، لكن ما إن جرع كوخ عدّة كؤوس حتى راهن تشالمرز بأن هذا اللغز المستعصي والذي يدعى بالوعي ستنكشف حقيقته ويُعَرّى من هذا الغموض الذي يلفه في غضون 25 سنة. وقَبَلَ تشالمرز هذا الرهان قائلًا باستحالة ذلك.
  5. في ختام هذا اللقاء ظهر كوخ وفي يده صندوق من النبيذ الفاخر ليقدمه ثمن رهانه المتهوّر أمام تشالمرز.
  • ترجمة: عدي اسماعيل
  • تدقيق علمي ولغوي: فاطمة قائد
  • المصادر: 1