“إذا لم تعانِ من الالتهاب، إذن سوف تموت”: كيف يعيد العلماء برمجة قوى الجسم العظمى الطبيعية

اعتمادًا على السياق، يمكن أن يكون الالتهاب بطلاً خارقًا أو شريرًا، وبدلًا من القضاء عليه تمامًا، تحاول العلاجات الجديدة إعادة توجيهه.

يُعدّ الالتهاب أحد القوى العظمى في الجسم، فهو يساعدنا على مكافحة العدوى وشفاء الجروح، وقال إد رينجر، الأستاذ الذي يدرّس الالتهاب المزمن في جامعة برمنغهام في المملكة المتحدة، لموقع Live Science: “إذا لم تعانِ من الإلتهاب، إذن سوف تموت. إن الأمر بهذه السهولة”.

ولكن إذا تحوّل الالتهاب المزمن من استجابة قصيرة المدى إلى استجابة تستمر لأشهر أو سنوات، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة الأمراض مثل تليف الكبد والتهاب المفاصل الروماتويدي (RA) وأمراض القلب.

وقد حاول الأطباء في الماضي علاج هذه الأمراض عن طريق إيقاف جميع الالتهابات، الأمر الذي يسبّب آثارًا جانبية سيئة ولا ينجح دائمًا، أما الآن، يصمم العلماء علاجات لا تقضي على الالتهاب تمامًا، بل تعيد برمجة الخلايا التي تغذّيه.

ففي أمراض مثل السرطان، حيث تستحوذ الأورام على الجانب العلاجي من الالتهاب لتغذية نموها، تأخذ العلاجات الجديدة الاتجاه المعاكس، حيث تدفع الالتهاب إلى حالة القتال مرة أخرى حتى يتمكن من مهاجمة هذه الخلايا المتحوّرة بشكل أفضل.

واعتمادًا على السياق، يمكن اعتبار الالتهاب مفيدًا أو ضارًا، ولكن بفضل الأبحاث الجديدة، في كلتا الحالتين، يمكن السيطرة عليه مرة أخرى.

وقال رينجر: “إذا تمكّنت من فعل ذلك، إذن يمكنك السماح لجهاز المناعة والاستجابة الالتهابية بمواصلة الأمر بطريقة طبيعية”.

الالتهابات الحادة والمزمنة

الالتهاب هو استجابة الجسم الطبيعية للصدمات الجسدية أو العدوى أو السموم، وقد وصفه الأطباء منذ العصور القديمة، إذ تعني كلمة “Inflammare” في اللاتينية “إشعال النار”، وفي القرن الثاني، وصف جالينوس، طبيب الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس، “العلامات الأساسية” الخمس للالتهاب وهي الحرارة والاحمرار والتورم والألم وفقدان الوظيفة.

وما وصفه الأطباء الأوائل كان السمات المميزة للالتهاب الحاد، إذ يحدث الاحمرار والحرارة بسبب التمدد الموضعي للأوعية الدموية لنقل المزيد من الخلايا إلى الأنسجة التالفة، بينما يسبب إطلاق مركّبات مثل البروستاجلاندين الألم والتورم، ولإحباط العدوى، يقوم الجهاز المناعي أيضًا بإنتاج مواد كيميائية تسمى البيروجينات التي تزيد من إنتاج البروستاجلاندين، مما يسبب الحمى.

قال روبرت أنتوني، الأستاذ المساعد في الطب بجامعة هارفارد، ل Live Science: “إنّ الهدف الأساسي من الالتهاب هو السيطرة على العدوى، ووقف انتشارها، ثم السماح ببدء عملية الشفاء”.

في أثناء الالتهاب الحاد، ترسل الخلايا التالفة إشارات “خطر” تجذب الخلايا المناعية إلى موقع الهجوم، ومن المستجيبين الأوائل كريات الدم البيضاء الشبيهة بالأميبا المسماة Microphages التي تلتهم الغزاة الضارّين، وNeutrophils التي تحبس هؤلاء الأعداء وتقتلهم، وبمجرّد تنشيطها، تنتج هذه الخلايا مواد كيميائية تسمى السيتوكينات، تعمل على تضخيم الالتهاب في حلقة من ردود الفعل الإيجابية، ومع احتدام هذا الالتهاب الحاد، يتعلم الجهاز المناعي استهداف العدو بشكل انتقائي أكثر.

وقال أنتوني إنه عادةً ما يبلغ الالتهاب الحاد ذروته بعد سبعة أيام تقريبًا من الهجوم الأوّلي، ويبدأ في الشفاء بعد ثلاثة أيام تقريبًا، وفي الوقت نفسه تعمل خلايا معينة على شفاء الجروح، وإفراز إشارات مضادة للالتهابات وتعزيز تكوين أوعية دموية جديدة وأنسجة ضامة.

لا يفهم العلماء تمامًا كيف يقوم الجسم بإيقاف الالتهاب الحاد، ولكن في بعض الأحيان، على سبيل المثال، إذا لم يتمكن الجهاز المناعي من السيطرة بشكل كامل على العدوى، فإنه لا يفعل ذلك، ثم يمكن أن يتحوّل الالتهاب من أساسي إلى ضار.

وأضاف أنتوني: “إذا أوقفت هذا التحول في اليوم العاشر تقريبًا، فستنتقل الأمور إلى المرحلة المزمنة”.

في الالتهاب المزمن، تبقى Microphages وNeutrophils وخلايا الدم البيضاء الأخرى في موقع الالتهاب، إذ أنها تنتج السيتوكينات، التي تحافظ على الالتهاب نشِطًا، كما تنتج تلك الخلايا عوامل نمو تغذي انقسام الخلايا والأنزيمات التي تسبب تلف الأنسجة، وترسل بعد ذلك المزيد من إشارات “الخطر” للحفاظ على استمرار الحلقة.

ويسبّب الالتهاب المزمن مجموعة من الأمراض، بما في ذلك التهاب المفاصل الروماتويدي (RA) الذي يؤثّر على المفاصل، وتليّف الكبد، أو تندّب الكبد الشديد، وتصلب الشرايين، أو لويحات في الأوعية الدموية التي يمكن أن تؤدي إلى نوبة قلبية وسكتة دماغية، ويمكن للتكاثر الخليوي والطفرات الناجمة عن الالتهاب المزمن أن يخلق بيئة مثالية لتطور السرطان.

تاريخ العلاج

في الماضي، كانت العلاجات تهدف إلى إسكات الالتهاب تمامًا، فعلى سبيل المثال، في خمسينيات القرن الماضي، اكتشف العلماء التأثيرات المضادة للالتهابات على مجموعة من المركّبات الموجودة بشكل طبيعي والتي تسمى الستيرويدات أو المنشطات، وهي تقلل من توسع الاستجابة المناعية، ومنذ ذلك الحين، أصبحت المنشطات علاجًا أساسيًا للأمراض الالتهابية المزمنة مثل التهاب المفاصل الروماتويدي (RA)، وبالإضافة إلى تثبيط جهاز المناعة على نطاق واسع، يمكن أن تسبب تلك المنشطات آثارًا جانبية أخرى مثل ارتفاع ضغط الدم وقرحة المعدة وتقلب المزاج.

ثم في التسعينيات، بدأت شركات الأدوية في طرح أدوية تسمى الأدوية الحيويّة، ويعمل الكثير منها على إسكات السيتوكينات المختلفة، وهي الإشارات الكيميائية التي تضخم الالتهاب.

ومع ذلك، غالبًا ما تعمل الأدوية الحيويّةعلى قمع مساحات كبيرة من الجهاز المناعي، مثل المنشطات، مما قد يزيد من خطر الإصابة بالعدوى، فعلى سبيل المثال، يستهدف عقار توفاسيتينيب، المخصص لعلاج التهاب المفاصل الروماتويدي (RA)، مسار الإشارات الذي تشترك فيه العديد من السيتوكينات، ونتيجة لذلك يمكن أن يجعل الأشخاص أكثر عرضة للإصابة بفيروس الهربس النطاقي والالتهاب الرئوي والتهابات المسالك البولية، ولأسباب لا نفهمها تمامًا، فإنّ الأدوية الحيويّة لا تناسب كل مريض.

لذلك يبحث العلماء عن طرائق أكثر استهدافًا لإعادة توجيه الالتهاب الضار، وذلك في الغالب عن طريق إعادة برمجة الخلايا المناعية المشاركة في هذه العملية.

إعادة البرمجة الخليوية

يدرس ستيوارت فوربس، مدير مركز الطب التجديدي ومعهد التجديد والإصلاح بجامعة إدنبرة في المملكة المتحدة، دور Microphages في تكوين الأنسجة الندبية في تليف الكبد. حيث وجد هو وآخرون أن هناك في الواقع نوعين من Microphages: نوع التهابي ضار، يُطلق عليه اسم M1، ونوع آخر يسمى M2، كما وجد في تجاربه على الفئران أن هذا النوع الثاني يوقف الالتهاب ويغذي تجديد الأنسجة.

لذلك يقوم فريق فوربس بتصفية خلايا Microphage الأولية التي تسمى Monocytes من دم المرضى الذين يعانون من تليف حاد في الكبد، ويستخدمون في طبق المختبر إشارات كيميائية تدفع هذه الخلايا لتصبح نسخة M2 المتجددة، ثم يعيد الباحثون هذه الخلايا المُعاد برمجتها إلى المرضى.

وقال فوربس لموقع Live Science: “ما نحاول القيام به هو تحفيز تجديد الكبد باستخدام هذه الطريقة، مما يعني تحطيم الأنسجة الندبية، ويؤدي ذلك إلى تغيير الالتهاب من التهاب مُسبب للضرر إلى آخر مسبب للإصلاح”.

وتبيّنَ، كما قال فوربس، أن هذه الطريقة آمنة في تجربة سريرية للمرحلة الأولى لدى تسعة مرضى في عام 2019، مع نتائج “مشجعة” من تجربة فعالية المرحلة الثانية على 50 مريضًا، والتي قدمها في تشرين الأول/نوفمبر في اجتماع للجمعية الأمريكية لدراسة أمراض الكبد، إذ وجد الفريق أنه خلال التجربة التي استمرت لمدة عام، أدى علاج Microphages إلى تقليل عدد المضاعفات المرتبطة بالكبد والتي قد تكون قاتلة، مقارنة مع مجموعة المراقبة التي لم تتلق العلاج.

خلايا متخصصة الأنسجة

قال الدكتور كريس باكلي، أستاذ أمراض الروماتيزم الانتقالية في جامعة أكسفورد، لموقع Live Science، إنّه لعلاج المشكلة الجذرية للأمراض الالتهابية، نحتاج إلى معرفة الخلايا الحرجة في أنسجة معينة.

على سبيل المثال، في التهاب المفاصل الروماتويدي (RA)، تستهدف خلايا الدم البيضاء التي تشكل جزءًا من الجهاز المناعي التكيفي، أنسجة المفاصل عن طريق الخطأ، وتنشّط خلايا الدم البيضاء هذه خلايا ال Microphages والخلايا المكونة للنسيج الضام المسماة الخلايا الليفية، لتغذي هذا الالتهاب، لذا، فإن علاجات التهاب المفاصل الروماتويدي (RA) النموذجية تستهدف خلايا الدم البيضاء الضارة، ومع ذلك فإن 50% فقط من مرضى التهاب المفاصل الروماتويدي (RA) يدخلون مرحلة التعافي.

ولكن في بحث نُشر عام 2019 في مجلة Nature، اكتشف باكلي وزملاؤه أن أحد أنواع الخلايا الليفية في المفصل يسبب التهاب المفاصل الروماتويدي (RA)، بينما يتسبب نوع آخر في تلف العظام والغضاريف في التهاب المفاصل العظمي، وهذا يثير احتمالية علاج هذه الأمراض من خلال استهداف الخلايا الليفية الفريدة لكل حالة: الخلايا الليفية الالتهابية في التهاب المفاصل الروماتويدي (RA)، والخلايا الليفية الضارة بالعظام والغضاريف في التهاب المفاصل العظمي.

وقد قال باكلي إنه إذا تمكنوا من استهداف خلايا الدم البيضاء والخلايا الليفية بالنسبة لالتهاب المفاصل الروماتويدي (RA)، على سبيل المثال، ، فقد يحصلون على شفاء بنسبة 100%.

لا يزال العلاج في مراحله الأولى، ومع ذلك، وُجد في عام 2021 عقارٌ يسمى Seliciclib يمنع انتشار الخلايا الليفية في المفاصل، وقد أتت نتائجه آمنة في تجربة سريرية في المرحلة الأولى على 15 مريضًا مصابًا بالتهاب المفاصل الروماتويدي (RA)، مما يمهّد الطريق للتجارب المستقبلية لتقييم فعالية الدواء.

مفاقمة المرض من أجل الخير

في بعض الأمراض المزمنة، يقوم العلماء بتطوير علاجات تحفز الإلتهاب.

في السرطان، على سبيل المثال، تهاجر ال Microphages إلى الأورام وتهاجمها، لكن الخلايا السرطانية تختطف هذه العملية، وتطلق مواد كيميائية تتسبب في تحول تلك ال Microphages من النوع M1 المسبب للالتهابات، إلى النوع M2 المتجدد، الذي يثبط الإلتهاب ويعزز نمو الورم.

متسلحة بهذه المعرفة، تساءلت الدكتورة يارا عبده، الأستاذة المساعدة في علم الأورام بجامعة نورث كارولينا، وزملاؤها عما إذا كان بإمكانهم استخدام فيروس لجعل ال Microphages في مرضى السرطان أكثر قدرة على التعرف على الخلايا السرطانية ومهاجمتها، والتي تعمل بشكل أساسي مثل M1 Microphages.

في عام 2022، أظهرت النتائج المبكرة من تجربة سريرية مستمرة في مرحلتها الأولى ل 18 مريضًا يعانون من أنواع مختلفة من السرطان الصلب – بما في ذلك سرطان الثدي والمبيض والمريء – أن العلاج بهذه ال Microphages المعاد برمجتها، والتي تسمى CT-0508، كان آمنًا وله نتائج واعدة.

وقالت عبده ل Live Science في رسالة بالبريد الإلكتروني: “لقد تمكنّا أيضًا من رؤية أن CT-0508 قادر على تأجيج البيئة الدقيقة للورم”. كما أضافت أن هذه الخلايا جندت ونشطت خلايا مناعية أخرى مكلفة بتدمير السرطان، كما قالت عبده إنه سيتم الإعلان عن المزيد من بيانات التجربة في عام 2024. وبناءً على هذه النتائج “المشجعة”، يخطط الفريق أيضًا لاختبار نسخة بديلة من هذا العلاج تسمى CT-0525، والتي تستخدم Monocytes مُعاد برمجتها بدلاً من Microphages، في تجربة سريرية من المرحلة الأولى في عام 2024.

الخطوات المستقبلية

مع وجود تجربة سريرية في مرحلتها الثانية تحت سيطرتهم، يرغب فوربس وزملاؤه في اختبار نسخة متقدمة من علاجهم بال Microphagesعلى المرضى الذين تم إدخالهم إلى المستشفى بسبب تليف الكبد، وقال فوربس: “إن زراعة الكبد حاليًا مع رعاية مدى الحياة هي الخيار الوحيد للمرضى الذين يعانون من تليّف الكبد المتقدم”. وبالتالي يمكن أن يوفر علاج ال Microphages “خيارًا علاجيًا جديدًا لهذا العدد الكبير والمتزايد من المرضى”.

أما على المستوى الخليوي، يرغب باكلي في معرفة المزيد حول ما يدفع الخلايا الليفيّة إلى كل من الحالة الالتهابية وحالة تلف الغضاريف، ودراسة ما إذا كان الشكلان يتطوران من خلية سالفة مشتركة، وتحديد العوامل التي قد تنظم هذه العملية.

وكتب باكلي وزملاؤه في مراجعة مقال عام 2021 أن معرفة المزيد عن هذه الخلايا الليفية، سواء في الصحة أو المرض، يمكن أن “يطلق العنان لإمكاناتها العلاجية في إصلاح الأنسجة”.

أما بالنسبة لعلاج السرطان الذي تطوره عبده وفريقها، فلا تزال هناك أسئلة كثيرة، بحسب قولها، فعلى سبيل المثال، يحتاج الفريق إلى ضبط الجرعة الدقيقة التي ستُعطى للمرضى وتقييم نوع السرطان الذي قد يكون أكثر فعالية ضده، ومع ذلك، فهم يأملون في أن يتمكنوا من الانتقال إلى المرحلة التالية من الاختبار، وهي تجربة سريرية من المرحلة الثانية، وإذا نجحت في يوم من الأيام، سيتم تطبيقها على المرضى.

في نهاية المطاف، ما تفعله عبده والآخرون هو إعادة صياغة الطريقة التي نرى بها الالتهاب، ليس فقط كعيب يجب إصلاحه، بل كقوة مذهلة يمكن التحكم فيها وتسخيرها لتحقيق الخير.

  • ترجمة: عبير ياسين
  • تدقيق علمي ولغوي: فريال حنا
  • المصادر: 1