هل يستطيع التفاعل الرقمي أن يترجم دفء الأحضان الحقيقية؟
للوهلة الأولى، ربما يبدو مصطلح “العناق الرقمي” متناقض ظاهريًا. ولابدّ أن نتساءل ما علاقة العناق الحقيقي بالعالم الرقمي الذي لا يتسم فقط بالتباعد الجسدي بل أيضاً الجغرافي.
وهنا يفاجئنا بحث جديد بعنوان (هل ينجح العناق الرقمي بإعادة تشكيل حياتنا الاجتماعية عبر الإنترنت بواسطة الإحساس الرقمي؟) بزعمه أننا لا يمكننا حصر الأثر الناجم عن العِناق بالخصائص الجسدية فقط.
ووضّح الباحثون من معهد Okinawa للعلوم والتكنولوجيا (OIST) وجامعة Dublin في بحثهم الذي نُشر في التاسع من أغسطس لعام 2023 في مجلة Frontiers in Psychology أنّ جوهر العِناق ومشاعر الراحة والاهتمام والسلوان والدعم المميزة له إنما هي نتيجة تفاعل معقَّد لعدد من العناصر المختلفة وغالبيتها لا تتوفر في الفضاء الرقمي فحسب بل يمكن أيضًا توجيهها.
وساهمت الاضطرابات العالمية التي تسببت بها جائحة كوفيد-19 في دفع فريق من الباحثين الدوليين -ومن بينهم الدكتور جيمس- لإجراء استطلاع عبر الإنترنت شارك فيه البالغون الذين تجاوزت أعمارهم ال 18 عامًا في كل من المملكة المتحدة واليابان والمكسيك وتحدثوا عن تجاربهم في التغلب على القيود الاجتماعية التي فُرضت للحد من انتشار الفيروس. تلك القيود التي باغتتنا وحدَّت من تفاعلاتنا الجسدية على نحو صارمٍ كما أجبرت العديد منا ليلتمسوا الراحة والسَّكينة في العالم الرقمي. ويعتمد البحث بشكل كبير على معطيات هذا الاستطلاع.
وأفاد الدكتور مارك جيمس المؤلف الأول لهذا البحث والطالب في مرحلة ما بعد الدكتوراة في قسم علم الإدراك المجسَّد لدى معهد (OIST): “صادفتنا العديد من القصص أثناء جمعنا للمعلومات. ورأينا كيف نجح بعض الناس في التغلب على الصعاب بطريقة جيدة، فقد أشادوا بقدرة التكنولوجيا على تهيئة بيئة صحيَّة للعلاقات الاجتماعية خلال الأوقات الحرجة. وبالمقابل، تسبب هذا الوضع بإزعاج واضح لدى الكثيرين. ومن هنا كانت الانطلاقة الأولى لبحثنا. عندما لاحظنا أنّ التكنولوجيا وحدها لا تحدد التفاعل. فما تقوم به قبل وأثناء وبعد التفاعل يصبح جزءًا من تجربتك الاجتماعية عبر الانترنت”.
ومن أجل فهم أسباب اختلاف التجربة من شخص لآخر، ونظرًا لتكرار ورودها في بياناتهم وفي العديد من أجهزة الإعلام خلال المراحل الأولى للجائحة، استخدم الباحثون العناق كمثال على ذلك ودرسوا مكوناته.
وأوضح مارك جيمس: “يمكن تحليل أيّة تجربة من خلال النظر إلى العناصر المكونة لها. إنّ ما يميز التجربة ويجعلها فريدة من نوعها هو مدى التداخل بين عناصرها”.
واستخدم الباحثون نظامًا يُدعى (مصفوفة تفاعل الواقع المدمج/MRIM)؛ وهي شبكة ثلاثية تستخدم كأداة لدراسة تجربة العناق وغيرها، وذلك بتحليلها إلى عناصرها الثلاثة الجسدية والافتراضية والخيالية.
ووفقًا لما قاله الدكتور جيمس: “هذا لا يعني أن تأثير هذه العناصر متساوٍ. بل إنّ وجود خريطة كهذه يدفعك للتساؤل أيّ من هذه العناصر أكثر ارتباطًا وتأثيرًا على التجربة. هي مجرد خطوة نحو إدراك العناصر المكونة للتجربة الشخصية”.
وقال جيمس أنّهم عندما استخدموا MRIM لدراسة العناق الجسدي: “لاحظنا أنّ جميع العناصر باستثناء (عنصر التفاعل الجسدي) تُرجمت في الفضاء الرقمي. ليس ذلك فحسب, بل تعاظم تأثيرها في بعض الحالات. مما يعني أن التركيز بقوة على باقي العناصر الداخلة في التفاعل سيُعوِّض نوعًا ما غياب العناصر غير المتوفرة كالتلامس الجسدي على سبيل المثال”.
وعلى العموم، يستغرق صقل المهارات التفاعلية أثناء التواصل الاجتماعي وقتًا طويلًا، ويجب مراعاة أدائها بطرق تتناسب تمامًا مع اختلاف البيئة، كالقدرة على الاستمرار في المحادثة، وفهم التقاليد الاجتماعية التي تختلف باختلاف المكان.
وصرّح جيمس: “إنّ استخدام الناس مهاراتهم المناسبة في الوقت والزمان المناسبين هو ما يميز التواصل الاجتماعي الرقمي أيضًا، وبدوره يولّد الشعور بالتواصل والاهتمام في هذه الأماكن”.
وأضاف: “العناق الرقمي ما هو إلا مهارة في النهاية، ومجموع هذه المهارات هو ما اتفق الباحثون على تسميته باللباقة الرقمية”.
وبملاحظة الذين برعوا في التواصل الاجتماعي الرقمي، حددنا مجموعة مهارات سميّناها اللباقة الرقمية. ينسجم هؤلاء الأشخاص مع حقيقة أنّ الفضاء الرقمي أيضًا تحكمه القوانين والأعراف لضمان الاستخدام الأفضل له، وإدراك أنْ هناك أشخاص آخرون يتشاركون الفضاء الرقمي ولديهم مشاعر واحتياجات قد تختلف عن مشاعرنا واحتياجاتنا. ربما من السهل أن نفهم هذا الأمر إذا عكسنا السيناريو، على سبيل المثال، ستشعر فورًا بانعدام اللباقة عندما تتحدث مع شخص وهو منهمك بغسيل الأطباق أو أيّ عمل آخر.
وهو أمر يزعجك ولا يراعي أنّك قد لا ترغب بسماع صوت الأطباق أثناء الحديث.
إن مفهوم اللباقة الذي ندركه أثناء التواصل وجهًا لوجه مع الآخرين والذي يتضمن التلامس، غايته أن يذكرنا أنّ الصور الرمزية التي نتفاعل معها عبر الفضاء الرقمي تعكس في حقيقتها الأشخاص الذين يجلسون بكامل احتياجاتهم خلف الشاشات.
فنحن اليوم نقضي جزءًا كبيرًا من حياتنا الاجتماعية على الإنترنت. وفي ظل هذا الوجود الرقمي المتنامي، يأتي هذا البحث ليُذكرّنا أنّنا نستمد المعنى الأكبر لحياتنا من خلال هذا التواصل، كما أنّه يزودنا بالأدوات التي تعزز تواصلنا الاجتماعي المحسوس رغم البعد الجغرافي.
وفي الختام، لعل هذا البحث يقدم مجموعة من الوسائل التصورية والعملية للمصممين والمدربين والمعالجين والمفكرين، بل وحتى للمجتمع ككل ليعيدوا تصوراتهم حول طريقة تفاعلنا مع بعضنا البعض في الفضاءات الاجتماعية عبر الإنترنت، علَّنا نصل لدرجة أكبر من الاهتمام بمن يشاركوننا فيه. ويخطط الباحثون في خطوتهم التالية للبحث أكثر عن اللباقة الرقمية ضمن السياق التجريبي.
ويُستبعد حاليًا أن تكون اللباقة الرقمية قادرة على معالجة الأمراض الاجتماعية التي ساهمت العديد من المنصات الرقمية في تفاقمها، إلا أنها حتمًا ستكون خطوة أولية ضمن هذا المسار. ولنبرهن حسن استقبالنا لها فلن نفتح لها كلتا ذراعينا فحسب، بل قد نعانقها!
- ترجمة: آلاء نوفلي
- تدقيق علمي ولغوي: عهد محروقة
- المصادر: 1