المحادثات المصغّرة

المحادثة المُصغّرة هي الخبز والزبدة للتفاعل الاجتماعي، بدونها لن نقوم بتكوين صداقات، وبناء ثقة في معارف جديدة، وتخفيف المحادثات العميقة، أو التنقل براحة وثقة في المحيط الاجتماعي غير المألوف.

على أي حال، في نمط حياتنا المزدحمة، يمكن أن تبدو المحادثات الطويلة التي لا تدور حول شيء خاص وكأنها رفاهية، وبسبب تغير روتين الحياة الحديثة، غالبًا ما تُستبدَل هذه الحوارات المطولة بما يمكن أن يُسمّى حديثًا صغيرًا.

الحديث المُصغّر هو الإيماءة عندما تصادف زميلًا، وكلمة «مرحبًا» إلى أحد الجيران، وتفاعل إيموجي القلب لحالة صديق على الأنستغرام، و«شكرًا» إلى النادل في المقهى، أو «جيد» ردًّا على السؤال الاعتيادي حول يومك.

يُعدّ الإبحار في هذه اللغة الموجزة للآداب الاجتماعية الحديثة أمرًا ضروريًّا، وإتقان كيفية البدء بمحادثة صغيرة، والتوجه تدريجيًّا نحو محادثات أعمق هو المرحلة المتقدمة المرغوبة، وإليك هنا فكرتين حول المحادثة المُصغّرة يمكنهما مساعدتك:

1. الناس دقيقو الملاحظة للإشارات غير اللفظية، لذلك أتقنْ إشاراتك.

تتراوح الإشارات غير اللفظية من التعابير الوجهية إلى لغة الجسد، إذ بإمكانها أن توصل رسائل قد تضلّل أحيانًا الكلام المنطوق، فقد أكّدت دراسة في عام 2017 أهمية هذه الإشارات غير اللفظية في مجال التعليم.

وجدت الدراسة أنّه عندما يستخدم المعلمون وسيلة التواصل غير اللفظي بشكل فعّال، فذلك يرفع من الحالة المزاجية للطلاب بشكل كبير، وإذا وجد المتلقّي نفسه عالقًا بين كمية من الرسائل اللفظية وغير اللفظية المتضاربة، فإنه يلجأ بشكل طبيعي إلى الوثوق بالأخيرة، وهذا ينبع من حقيقة أنّ الإشارات غير اللفظية غالباً ما تكشف المشاعر والنوايا الحقيقية للمتواصِل.

تحديد أوجه التشابه بين تفاعلات الفصول الدراسية والعالم الحقيقي، تمامًا كما يتم تشجيع المعلمين على تحسين مهاراتهم في التواصل من أجل التأثير في الطلاب بشكل إيجابي، كما يمكن للأفراد في بيئات متنوعة الاستفادة من إتقان الإشارات غير اللفظية.

يمكن لتصرّف بسيط، مثل ترتيب كأسك وصحونك المُستعمَلة بعناية في المقهى، مصحوبًا بإيماءة التقدير إلى النادل، أن ينقل موقف الامتنان، ربما أفضل من التعبير عن ذلك ب كلمة «شكرًا» سريعة، وبالمثل، في متجر مزدحم، فإن إجراء تواصلٍ عينيّ قصير مع الابتسام عندما يسمح لك شخص ما بالمرور، يمكن أن يُضفي شعورًا بالاحترام المتبادل، مما يخلق رابطة سريعة في صخب الحياة، وفي مترو الأنفاق أو الباص، فإنّ تقديم مقعدك لشخص آخر بحاجته مترافقًا بإيماءة وابتسامة دافئة، يمكن أن يصنع فرقًا كبيرًا.

هذه ليست إلا لحظات عابرة، لكن قد يكون أثرها عميقًا، فمثل هذه التصرفات قد تجعل يوم شخص ما سعيدًا، مما يؤدي إلى إنشاء تواصل تعجز الكلمات عن فعله، ومن خلال إتقان فن الإشارات غير اللفظية، نخلق جوًّا من الإيجابية في العالم حولنا.

2. يمكن أن يكون الحديث المُصغّر الحقيقي، هو التأسيس لاتصالات أعمق.

لقد عانى الكثير منا في البدء بمحادثة مع شخص مألوف الوجه، فغالباً مانكون غير متأكدين من مسار مثل هذه المحادثة، وقد وجدت دراسة نُشرت عام 2022 في دورية (الشخصية وعلم النفس الاجتماعي)، والتي تسلّط الضوء على هذه الظاهرة، أن الناس غالبًا ما يقلّلون من شأن متعة المحادثات الطويلة مع المعارف.

توقع المشاركون انخفاض المتعة في المحادثات المطولة، لكن في الواقع، اختبروا متعة ثابتة أو حتى متزايدة، ومن المثير للاهتمام الأخذ بعين الاعتبار أن الأساس للمتعة غير المتوقعة من هذه المحادثات المطولة ربما تبدأ من تفاعلات صغيرة متكررة (الحديث القصير).

كيف تُسهّل المحادثة المُصغرة المحادثات والاتصالات الأعمق؟

ضع في اعتبارك هذا: قد يبدو تبادل «مرحبًا» قصيرة مع أحد الجيران في رواق مجمّع شقتك غير مهم في البداية، ومع ذلك، عندما تتكرر هذه التحية عمدًا على مدار أيام أو أسابيع أو شهور، فإنها تؤسّس نمطًا من التقدير والألفة.

الآن، تخيل أنك تصادف الجار نفسه في مقهى أو حديقة محلية، هل ستكون أكثر ميلًا إلى بدء محادثة مع شخص تبادلت معه التحيات بشكل روتيني، أم مع شخص غريب لم تتعرف إليه من قبل؟

من المرجح أن يكون السيناريو السابق أكثر جاذبية لأن هناك معرفة راسخة، ويمكن أن يتطور الطريق المُمهّد من قبل ذلك الترحيب اليومي بسهولة إلى محادثة أكثر جاذبية، وإثراء العلاقة وتوفير لحظات صادقة لكليهما، إنها التفاعلات الصغيرة المتراكمة التي تمهد الطريق لمحادثات أطول وعفوية وممتعة.

كما يلاحظ مايكل كارداس، المؤلف المشارك في الدراسة، ما يقترحه بحثنا هو أن التجارب المألوفة، أي التفاعل مع الشخص نفسه الذي قابلته بالفعل، هي تجربة أكثر إمتاعاً مما يتوقعه الناس.

هذا يؤكّد على القوة التي قُلّل شأنُها من الألفة والعمق المحتمل الذي يمكن أن ينشأ من التبادلات الصغيرة المتكررة.

في عصر يسود فيه الإيجاز غالبًا، فإنّ التفاصيل الدقيقة لتفاعلاتنا هي التي يمكن أن تترك التأثير الأكثر عمقاً، فالحديث المُصغّر، على الرغم من إيجازه، يحمل القدرة على بناء الجسور بين النفوس، من خلال شحذ إشاراتنا غير اللفظية وتقييم كل تبادل صغير كنقطة انطلاق محتملة لعلاقة أعمق، فإننا نفتح سبلًا لإثراء الاتصالات وسط الزحام الحديث.

  • ترجمة: فاطمة عاصي
  • تدقيق علمي ولغوي: فريال حنا
  • المصادر: 1