لماذا لا يتعلّم كثيرٌ من الطّلّاب؟

يمكن للتعلم الاجتماعي أن يساعد الطلاب على التغلب على مشاكل الصحة العقلية بعد الوباء.

على مدى أكثر من عقدين من الزّمن، كنتُ كأستاذ جامعيّ، معروفًا بالصّرامة الأكاديميّة، وكنتُ أعتزّ بذلك. وكان طلّابي يتلقّون تعليمًا غنيًّا بالمعرفة والمهارات، يفوق بكثير ما دفعوه من رسوم دراسيّة. لكن كلّ شيء تغيّر عندما استؤنِفَت الدّروس الحضوريّة عام 2022 بعد عامين من التّعلُّم في المنزل عبر منصّة «زووم -Zoom».

لقد شعرتُ بالذّهول في البداية، إذ أصبحت فصولي الدّراسيّة الّتي كانت تعجّ بالحركة فارغةً جزئيًّا الآن أو نصفها تقريبًا غير موجود.

كان الطّلّاب يتغيّبون كثيرًا، غالبًا بحجّة المرض، وأحيانًا دون عناء إرسال عذر عبر البريد الإلكترونيّ. أمّا مَن حضروا، فقد كانوا غالبًا ملتصقين بهواتفهم المحمولة. لم تعد الطّرق الّتي اعتمدت عليها لتقييم أداء الطّلّاب، كالاختبارات، والامتحانات، والواجبات المنزليّة، والمشاريع المُستقلّة، تبدو فعّالة. ونتيجةً لذلك، حصل عدد غير مسبوق من طلّابي على درجات منخفضة. لقد انخفضت تقييماتي التّعليميّة إلى أدنى مستوى في مسيرتي، كما كانت قراءة تعليقات الطّلّاب مؤلمة، إذ وصفني أحدهم ب “الفظّ” لطلبي شهادة طبّيّة من أجل التّغيُّب، وكأنّ سياسات المدرسة حول النّزاهة الأكاديميّة أصبحت بالية!

كان هناك خطأ ما، خطأ فادح.

لم أستطع لوم طُلّابي لأنّ ذلك لن يحلّ المشكلة. بدلًا من ذلك، شرعتُ في مهمّة بحث عن الذّات: كيف يمكنني تحويل درجاتي المتدنّية في التّدريس إلى علامة الامتياز A؟

أمضيتُ صيف عام 2023 في التّشاور مع زملائي المعلّمين والغوص في الصّحف والمجلّات ومواقع الإنترنت والأوراق الأكاديميّة. وما وجدته كان مفاجئًا؛ فبعيدًا عن كونه قضيّة معزولة، كان هذا النّمط عالميًّا، إذ يؤثّر على المعلّمين في الدّاخل والخارج.

كان لدى العديد من أعضاء هيئة التّدريس تجارب أسوأ بكثير من تجربتي، ومن أبرزهم الأستاذ في جامعة نيويورك مايتلاند جونز، مؤلّف كتاب دراسي رائد في الكيمياء العضويّة. لقد درّس فصله في ربيع 2022 المكوّن من 350 طالبًا بالطّريقة الصّارمة نفسها الّتي كان يُدرِّس بها منذ عام 2007، قبل الحظر الوبائيّ. لكن هذه المرّة، فشل العديد من الطّلّاب أو انسحبوا من الفصل، وقدّم 82 منهم عريضةً يشكون فيها من أنّ فصل الدكتور جونز كان صعبًا للغاية وأنّهم لم يعجبهم أسلوبه في التّدريس. ونظرًا لكونه غير متهاون في التزامه بالصّرامة الأكاديميّة، فُصِل الدّكتور جونز!

بينما أدّى هذا الحادث إلى انتقادات جامعة نيويورك (وجامعات أخرى) لتخفيفها المعايير الأكاديميّة وخفض جودة التّعليم، وجدتُ أن الطّلاب أيضًا لديهم أسبابًا مشروعةً استنادًا إلى دراسات حديثة حول أضرار العزلة الوبائيّة.

على سبيل المثال، أجرى باحثون في أوهايو استطلاعًا لأطفال تتراوح أعمارهم ما بين 6 و17 عامًا، وقارنوا مستويات قلقهم قبل وبعد الحظر الوبائيّ وبيئة التّعلّم عبر الإنترنت. لقد وجدوا أنّ مستويات القلق قد تضاعفت أربع مرّات بسبب العزلة الاجتماعيّة، مع تعرُّض الأطفال الأصغر سنًّا لأشدّ التّأثيرات.

وأكّدت دراسات أخرى أنّ الاضطرابات في الحياة الاجتماعيّة الطّبيعيّة والوحدة النّاجمة عن البقاء المطوّل في المنزل أدّت إلى معاناة أعداد كبيرة من الأطفال والبالغين من مجموعة اضطرابات نفسيّة وعقليّة. ومن الأعراض الّتي لوحظت في العديد من البلدان الأخرى الّتي عانت أيضًا من أشكال ومُدّة زمنيّة مختلفة من الحظر: القلق، التّوتّر، تغيُّرات المزاج، الاكتئاب، وفي حالات نادرة، الانتحار.

وقد أُفيدَ بأنّ القلق وحده يؤثّر على 33% من الأطفال.

كانت مشكلة الصّحّة النّفسيّة حقيقيّة ومنتشرة؛ أزمة صحّة عامّة لم نشهدها سابقًا في ذاكرة مُعظَمنا.

وكانت مشاكل الصّحّة النّفسيّة أكثر حدّةً وانتشارًا بين الطّلّاب الدّوليّين الّذين كانوا منفصلين عن شبكاتهم الاجتماعيّة الرّاسخة في بلدانهم الأصليّة. إذ واجه هؤلاء مجموعة من المشاكل، بما في ذلك حواجز اللّغة، والصّدمات الثّقافيّة، والافتقار إلى التّرابط الاجتماعيّ، والتّمييز الواضح أو الخفيّ. كما عانى البعض من صعوبات ماليّة، وسياسات مدرسيّة غير مفيدة، وأساتذة غير متعاطفين. وهذه القضايا تُمثّل عوائق رئيسيّة تمنع الطّلّاب من البقاء بصحّة جيّدة، ناهيك عن تنمية قدراتهم الفكريّة.

لكن الخبر الجيّد هو أنّ البشر مَرِنون، فنحن نتعافى عادةً بعد الكوارث. إليك دراسة حالة من جامعة هايدلبرغ في ألمانيا بخصوص تأثير جائحة كوفيد-19 بمرور الوقت: لقد أشار استطلاع بالبريد الإلكترونيّ، شمل 2,318 طالبًا جامعيًّا، إلى انخفاض نسبة الطّلّاب الّذين أبلغوا عن عدم السّعادة بشكل كبير من 72.52% إلى 53.96% (قيست بواسطة مؤشّر الرّفاهية المعياريّ) بعد تسعة أشهر من نهاية القيود الاجتماعيّة. وبينما ظلّت النّسبة أعلى بكثير ممّا هو مرغوب، إلا أنها أظهرت مرونة الإنسان ووفّرت الأمل بالتّحسُّن.

المشكلة المُلحّة

هل يمكننا نحن الأساتذة إعادة تكييف طرق تدريسنا لتلبية احتياجات هذا الجيل من الطّلّاب في هذا العصر الجديد؟

لقد أجبرني هذا التّحدّي على العودة إلى أساسيّات التّعليم الجامعيّ للبحث عن مسار جديد ضمن علم التّربية.

كما أظهَرتُ في مقالتي السّابقة، يمكن غالبًا تخفيف مشاكل الصّحّة النّفسيّة ببيئة اجتماعيّة داعمة، ويعدّ التّعلُّم أساسًا عمليّة اجتماعيّة، فهل يمكن تحسينه أيضًا من خلال تعزيز الأنشطة الاجتماعيّة؟

استنادًا إلى معرفتي بعلم النّفس، أعدت تصميم دوراتي لدمج أكبر عدد ممكن من عناصر التّعلُّم الاجتماعيّ مثل:

المشاركة النّشطة في الفصول الدّراسيّة، الاختبارات الجماعيّة، التّمارين التّعاونيّة، استكشاف المعرفة عبر الإنترنت بشكل تنافسيّ، العثور على المعلومات ومشاركتها، جلسات المساعدة بين الأقران، والأنشطة العمليّة طوال محاضراتي ومختبراتي خلال العام الأكاديميّ 2023-2024. لقد كان ردّ فعل الطّلّاب سريعًا وإيجابيًّا، إذ عادت فصولي الدّراسيّة لتكون ممتلئةً وغالبًا ما تعجّ بالضّحك.

وقد تتساءل عن الجودة؛ لقد اختبرتها باستخدام أسئلة مماثلة لتلك الّتي كانت قبل الجائحة في الامتحانات. ومن دواعي راحتي وسروري الكبيرين أن أدّى الطّلّاب بشكل أفضل حتّى من السّنوات الّتي سبقت الجائحة. لقد حافظت على الصّرامة الأكاديميّة وحسّنتها.

ورغم أنّني كوفئت بتقييمات تدريسيّة عالية بشكل غير مُتوقّع، إلّا أنّني أدرك أنّ عددًا قليلًا من الطّلّاب لم يستجيبوا لإعادة الهيكلة التّربويّة الخاصّة بي، فقد استمرّوا في التّغيّب بانتظام وكان أداؤهم ضعيفًا. أعلمُ أنّني لم أجد حلًّا لهذه المشكلة الصّعبة تمامًا بعد، فأنا بحاجة إلى إجراء المزيد من البحوث وتنفيذ المزيد من التّغييرات.

بينما أروي تجاربي لكم، أدعوكم بشغف لمشاركة انتصاراتكم معي، إذ يُمكننا طرد شبح الجائحة معًا، وتفكيك كلّ العقبات الّتي تعوق تعليم أجيالنا الشّابّة.

د. ليكسينغ صن، أستاذ بحثيّ متميّز في السّلوك والتّطوّر من جامعة واشنطن المركزيّة.

  • ترجمة: نِهال عامر حلبي
  • تدقيق علمي ولغوي: عبير ياسين
  • المصادر: 1