لماذا سائقو سيارات الأجرة أقل عرضة للإصابة بالزهايمر؟
ليس من السهل أن تصبح سائق سيارة أجرة في لندن. فمنذ عام 1865، كان لزامًا على السائقين ليقودوا سيارة أجرة، اجتياز ما يعرف ب “المعرفة” ؛ امتحان مضنٍ لذاكرة المرء عن آلاف الشوارع والمعالم وطرق القيادة في المدينة. عادة ما كان يتطلب سنوات من الدراسة والتحضير، وهو يعتبر واحدًا من أصعب الامتحانات التي يمكن أن يجريها إنسان. نتيجةً لذلك ولإسبابٍ وجيهة، تمتلك لندن أفضل وأمهر سائقي سيارات أجرة في العالم.
يرى بعض علماء الأعصاب في لندن فرصة لدراسة مدى تغير الدماغ كاستجابة للحاجة الملحة للذاكرة الملاحة والمكانية عند سائقي سيارات الأجرة. في داسة شهيرة نشرت عام 2000، خضعت مجموعة مكونة من 16 سائق لمسح للدماغ بالرنين المغناطيسي، ما أظهر اختلافات في الحصين (المنطقة المسؤولة عن الذاكرة والملاحة) مقارنة مع أقرانهم ذوي مهنٍ أخرى، كلما زادت سنوات الخبرة، زاد حجم الحصين.
الحصين جزء من الدماغ يعزى إليه الإصابة بمرض الزهايمر، أكثر أنواع الخرف شيوعًا، وعادة ما يصيب كبار السن متسببًا فقدان الذاكرة وصعوبات في تحديد الاتجاهات وعددًا من المشكلات الأخرى. لهذا أثارت الدراسة السؤال التالي: هل من الممكن أن سائقي سيارات الأجرة أكثر حماية من الإصابة بمرض الزهايمر مقارنة بغيرهم؟
مع تنامي أعداد المسنين حول العالم، تزداد معدلات الإصابة بالزهايمر. بسبب ارتفاع تكلفة رعاية المرضى وعدم وجود أفاق واعدة لتصنيع أدوية فعالة، أصبحت الأسئلة المتعلقة بكيفية منع أو إبطاء المرض ذات أهمية لنا جميعًا وليس فقط لسائقي سيارات الأجرة.
في دراسة جديدة نشرت في ال (بي إم جاي)، بدأنا مع زملائنا فيشال باتيل ومايكل ليو، أيضًا في جامعة هارفارد، بدراسة معدلات الوفيات بمرض الزهايمر بين سائقي سيارات الأجرة والإسعاف، الذين يعتمدون على ذاكرتهم خلال تنقلاتهم العاجلة.
قمنا بذلك من خلال استعمال بيانات جديدة تربط بين سجلات الوفيات للأمريكيين مع مهنهم. إضافة إلى دراسة وفيات مرض الزهايمر بين سائقي سيارات الأجرة والإسعاف، قمنا بالنظر إلى سائقي الحافلات وربابنة السفن وطياري الطائرات، رغم أنها قائمة على التنقل، غالبًا ما تتطلب الالتزام بطريق محددة مسبقًا، مما قد لا يؤدي إلى حدوث التغييرات نفسها في منطقة الحصين.
قمنا بقياس معدلات وفيات مرض الزهايمر لدى أكثر من 400 مهنة. المهم بالأمر أننا أخذنا بعين الاعتبار عمر الشخص عند الوفاة. غالبًا مرض الزهايمر مرض الشيخوخة، ما يعني أن من المتوقع أن المهن ذات متوسط عمر منخفض لديها وفيات زهايمر أقل من غيرها، ببساطة لأن الناس لا يعيشون إلى العمر الكافي للإصابة بالمرض.
اذهلتنا اكتشافاتنا، حيث وجدنا أن المهنتين ذاتَيْ أقل معدل وفيات مرض الزهايمر بين كل المهن التي درسناها هما قيادة سيارات الأجرة والإسعاف. خطر الوفاة من الزهايمر لديهما مجتمعين كان أقل بنسبة 56% من عامة السكان عند أي عمر معين. لكن لم تكن لديهم نسب وفيات أقل في أنواع أخرى من الخرف حيث قد يكون الحصين أقل مشاركة فيها.
بالإضافة إلى ذلك، لدى سائقي الحافلات وطياري الطائرات وربابنة السفن – وظائف أقل تلقائية في اتخاذ القرارت – معدلات وفيات مرض الزهايمر مماثلة لتلك عند بقية السكان. هذا يوحي أن التنقل خلال الطرق المألوفة قد لا تحدث نفس التأثير على الدماغ. في الحقيقة، وجدت دراسة لاحقة نشرت عام 2006 عن سائقي سيارات الأجرة والحافلات أن سنوات الخبرة أدت إلى تضخم الحصين لدى المجموعة الأولى ولكن ليس لدى الثانية.
على الرغم من أن نتائج دراستنا مذهلة، هي غير قادرة على تحديد إذا ما كانت قيادة سيارة الأجرة بحد ذاتها تقلل من وفيات الزهايمر، ألا أنها تثبت وجود رابط وإن كان غريبا للغاية. ربما على سبيل المثال، قيادة سيارة الأجرة وسيارة الإسعاف تجذب الناس الذين لديهم حصين مختلف طبيعيًا أو الناس الذين هم أقل عرضة لخطر الزهايمر من الأساس. في النهاية، قد يحتاج المرء إلى ذاكرة جيدة لاجتياز امتحان المعرفة أو ممارسة مهنة قيادة سيارة الأجرة وسيارة الإسعاف في المدن المزدحمة لكننا لا نعتقد أن هذا يفسر الاختلاف بالكامل. فعلى سبيل المثال لدى سائقي سيارات الأجرة متوسط عمر متوقع أقل من معظم باقي المهن، ومن المتوقع بشكلٍ خاص وجود رابط بين التمتع بذاكرة جيدة في عمر مبكر مع مستوى التعليم والدخل المادي ومتوسط العمر المتوقع للفرد.
بالرغم من أن دراستنا والدراسة عن سائقي سيارات الأجرة في لندن تثيران أسئلة أكثر مما تجيبان، إلا أنهما تشيران إلى السبل للبحث في الوقاية من مرض الزهايمر. في ظل غياب عقار فعال للزهايمر، هل هناك تغييرات في حياتنا اليومية قد تساعد في خفض خطورة الإصابة به؟ في النهاية، دماغ الإنسان عبارة عن “بلاستيك”، فهو يتكيف مع المتطلبات التي تلقى عليه، وهذا أساس قدرتنا على التعلم. فهل نستطيع أيضًا أن نجبره على عمل تكيفات بوسعها تقليل خطر الإصابة بالزهايمر؟
لا نعلم إجابة ذاك السؤال، لكن دراستنا تقدمه كفرضية.
قد تتسائل: ماذا لو توقفنا عن استخدام نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) في سياراتنا لنجبر أنفسنا على استخدام ذاكرتنا في التجوال؟ أو بشكلٍ أعمّ، هل المهارات العقلية الأخرى التي تركز على تحسين الذاكرة الملاحية والمكانية قد تساعد؟
تشير الأبحاث الحالية إلى أن بعض الأنشطة الذهنية مثل الألعاب والمحاكاة قد تساعد في إبطاء التراجع الذهني عند كبار السن، ولا تزال الأبحاث مستمرة في هذا الصدد. ولكن العديد من الدراسات – حتى التجارب السرارية العشوائية عالية الجودة- ستفشل بلا شك، لأنه لا يمكن لأي تدخل قصير المدى أن يحدث ذات التأثير على الدماغ كالذي يسببه العمل في مهن تعتمد في جوهرها على الذاكرة الملاحية والمكانية كقيادة سيارات الأجرة والإسعاف. ورغم الادعاءات حول العديد من ألعاب الهاتف المحمول، لا يظهر أي تمرين – حتى لو مارسته طيلة حياتك- فعالية في تقليل الإصابة بمرض الزهايمر.
مواجهة مرض الزهايمر والأنواع الأخرى من الخرف أولوية ملحة للصحة العامة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم. لقد شهد المجتمع العلمي توسعًا مطردا في فهم الدماغ والخرف خلال العقود الماضية، إلا أن الوصول إلى علاجات واستراتيجيات فعالة ضد الزهايمر لا يزال بعيد المنال.
نحن لا ندري بعد هل سيفيد حذف تطبيق الخرائط من هاتفك المحمول دماغك بأي شكل. لكن نعلم من سائقي سيارات الأجرة أنه لن يضر أن تمرن عضلات دماغك الملاحية اكثر قليلا، وربما تدع نفسك تضل الطريق بين الحين والأخر.
- ترجمة: سارة جمال
- تدقيق علمي ولغوي: حسام عبدالله
- المصادر: 1