الولادة المُعقَّدة عند البشر والقدرات المعرفيَّة نتيجة المشي على القدمين

الخُلاصة: تعدُّ الولادة عند البشر أكثر تعقيدًا وإيلامًا مما هي عليه عند القردة العليا، إذّ كان يُعتقد أنَّ ذلك يعود إلى كبر حجم أدمغة البشر وضيق أبعاد حوض الأمهات، لكنّ الباحثين استخدموا الآن محاكاة ثلاثية الأبعاد ليُظهروا أنّ الولادة كانت أيضًا عملية شديدة التعقيد لدى أسلاف البشر الأوائل الذين وَلَدوا مواليد ذوي أدمغة صغيرة نسبيًا، مما يحمل آثارًا مهمّة على تطورهم المعرفي.

أثناء الولادة عند البشر، يمرُّ الجنين عادةً عبر قناة الولادة الضِّيقة والملتوية وذلك من خلال ثني وتدوير رأسه في مراحل مختلفة، الا أنّ هذه العملية المعقَّدة تحمل مخاطر جمّة بسبب المضاعفات التي تحدث أثناء الولادة، بدءًا من تعسر الولادة إلى ولادة جنين ميّت أو وفاة الأم. لطالما كان يُعتقد أنّ هذه المضاعفات ناتجة عن صراع بين تكيّف البشر مع المشي على القدمين وحجم الدماغ الكبير.

معضلة المشي على القدمين وحجم الدماغ الكبير

تطوَّر المشي على القدمين منذ حوالي سبعة ملايين سنة، وتغيّر شكل الحوض كليًّا عن حوض أسلاف البشر الأوائل ليصبح قناة ولادة حقيقيَّة، ولكن لم تبدأ حجم الأدمغة الأكبر في التطوُّر إلَّا منذ حوالي مليوني سنة، وذلك عند ظهور أول أنواع الجنس البشري “هومو” (HOMO).

وكان الحل التطوُّري لهذه المعضلة الناتجة عن القوتين التطوريتين المتعارضتين؛ ولادة أطفال غير ناضجين عصبيًا ويعتمدون كليًّا على الرعاية وبأدمغة صغيرة الحجم مقارنةً بمرحلة النضج الكامل، وتعرف هذه الحالة باسم “التبعية الثانوية” (secondary altriciality)، إذ يولد الطفل بدماغ غير مكتمل نسبيًا، مما يساعد رأسه بالمرور بقناة الولادة الضيقة، ويتابع الدماغ نموّه بعد الولادة.

واكتشفت مجموعة بحثيَّة بقيادة مارتن هاوسلر من معهد الطب التطوري بجامعة زيورخ (UZH)، وفريق آخر يقوده بيير فريمونديير من جامعة إيكس مارسيليا، أنَّ الاسترالوبيشينات (البشرانيات أو أشباه البشر) (australopithecines)، الذين عاشوا قبل حوالي أربعة إلى مليوني سنة، لديهم نمط ولادة مُعقدًا مقارنةً بالقردة العليا.

يوضّح هوسلر قائلاً: “نظرًا لأن الاسترالوبيشينات مثل لوسي، كان لديهم أحجام دماغ صغيرة نسبيًا، لكنهم تكيَّفوا بالفعل مع المشي على القدمين، لذا فَهُم مثاليون لدراسة تأثير هاتين القوتين التطوريتين المتعارضتين.

حجم الرأس النموذجي للجنين وللبالغ

استخدم الباحثون تصويرًا حاسوبيًا ثلاثيّ الأبعاد لتطوير نتائجهم التي توصلوا إليها، وذلك لعدم وجود أحفوريات لأطفال الاسترالوبيشينات حديثي الولادة، فتصوّروا عمليّة الولادة باستخدام أحجام رؤوس مختلفة للأجنّة مع الأخذ بالحسبان إمكانية تقدير متوسط حجم الدماغ.

استنادًا إلى النسبة الموجودة بين الرئيسيات غير البشرية ومتوسط حجم دماغ أسترالوبيثيكوس البالغ، قام الباحثون بحساب متوسط حجم دماغ حديث الولادة والذي يُقدَّر ب 180 جرامًا. يُعادل هذا الحجم 110 جرامات عند الإنسان.

وفي تصوّرهم ثلاثي الأبعاد، أخذ الباحثون في الاعتبار أيضًا زيادة المرونة في مفاصل الحوض خلال الحمل ومع تحديد الكثافة الطبيعي للأنسجة الرخوة. ووجدوا أنَّ أحجام رأس الجنين 110 جرام فقط هي التي مرَّت عبر مدخل الحوض ومنصفه بسهولة، على عكس الأحجام الأكبر التي تبلغ 180 جرام و145 جرام، وأوضح هاوسلر: “هذا يعني، أن حديث الولادة الاستالوبيشيني عند ولادته كان غير ناضجين عصبيًا واحتاجوا للرعاية، تمامًا كالاطفال حديثي الولادة في وقتنا الحالي”.

التعلم المستمر مفتاح القدرات المعرفية والثقافية

أشارت النتائج إلى احتمالية ممارسة الاسترالوبيشينات شكلًا من أشكال التربية التعاونية، حتى قبل ظهور الجنس هومو. وبالمقارنة مع القرود العليا، يستمر الدماغ عند الاسترالوبيشينات بالتطور لمدة أطول خارج الرحم، وبعدها يكون الرضيع قادرًا على التعلم من أقرانه الآخرين في المجموعة، قال هاوسلو: “تعد مدة التعلم الطويلة هذه حاسمةً بشكل عام للتطور المعرفي والثقافي للإنسان”.

ودعم هذا الاستنتاج اكتشافات قديمة كالأدوات الحجرية الموثقة، التي يعود تاريخها إلى 3.3 ملايين سنة، أي قبل ظهور جنس هومو بوقت طويل.

  • ترجمة: ايات حبيب
  • تدقيق لغوي: سارة ابو جلبان
  • المصادر: 1