
تجارب الحياة قد تؤثر على نشاط محطات الطاقة الخلوية في الدماغ
يبدو أن نشاط الميتوكوندريا التي تعد محطات الطاقة في الخلايا يزداد عندما تكون الحياة مريحة وينخفض في الأوقات الصعبة.
وقد أفادت كارولين ترومبف، « أستاذة مساعدة في علم النفس الطبي في مركز كولومبيا الطبي بجامعة نيويورك، وتهتم منذ فترة طويلة بالعلاقة بين العقل والجسم» : مع أن العديد من الدراسات قدمت أدلة على هذا الرابط، إلا أن تطبيق هذه المعرفة في الممارسات السريرية لا يزال نادرًا. والسبب في ذلك صعوبة تتبع مسار مباشر يربط بين ظروف الحياة (مثل وجود شبكة كبيرة من العائلة والأصدقاء أو على النقيض من ذلك طفولة صعبة) وما يحدث على المستوى الجزيئي. هذه الفجوات دفعت ترومبف إلى التركيز على الميتوكوندريا. ومن خلال دراسة كيف تقوم هذه المحطات الخلوية الصغيرة بدور الوسيط بين تأثيرات العقل على الجسم والجسم على العقل، تأمل في إقناع الناس بأهمية العوامل النفسية والاجتماعية في الصحة.
فهم الميتوكوندريا
المشكلات الميتوكوندرية قد تكون سببًا لمجموعة واسعة من اضطرابات وأمراض الدماغ، مثل الفصام ومرض باركنسون، ولكن ما الذي يسبب المشاكل في الميتوكوندريا لدينا؟
تشير الأدلة من دراسات سابقة، معظمها أجريت على الحيوانات، إلى أن الإجهاد النفسي عامل رئيسي.
ولدراسة العلاقة بين الحالات النفسية والميتوكوندريا، حللت ترومبف وزملاؤها بيانات من دراستين كبيرتين جاريتين حول الشيخوخة والخرف: دراسة الأوامر الدينية (ROS) ومشروع الذاكرة والشيخوخة (MAP)، المعروفين معًا باسم ROSMAP. يتابع الباحثون في هذه الدراسات صحة المشاركين النفسية والجسدية بانتظام، ويفحصون أدمغتهم المُتبَرّع بها بعد الوفاة.
ركز فريق ترومبف على العلاقة بين تجارب الحياة التي أبلغ عنها المشاركون وخصائص الميتوكوندريا في قشرة الفص الجبهي الظهراني الوحشي، وهي منطقة في الدماغ معنية بتنظيم العواطف والوظائف التنفيذية مثل حل المشكلات والتخطيط. وقد تضمنت تجارب الحياة تلك المرتبطة بتحسن الصحة النفسية (مثل الشعور بالهدف في الحياة ووجود شبكة اجتماعية كبيرة) وتلك ذات التأثير السلبي على الرفاه النفسي (مثل تجارب الطفولة السلبية والعزلة الاجتماعية).
نتائج الدراسة
كشفت التحليلات التي شملت بيانات 400 مشارك من ROSMAP أن التجارب الإيجابية كانت مرتبطة ارتباطًا كبيرًا بزيادة في وفرة مجمع البروتين الميتوكوندري “المركب الأول”، وهو مجموعة رئيسية من البروتينات تشارك في عملية الفسفرة التأكسدية التي تولد من خلالها الميتوكوندريا الطاقة. في المقابل، كانت التجارب السلبية مرتبطة بانخفاض في وفرة هذا المجمع البروتيني، ونُشرت هذه النتائج في 18 يونيو في مجلة الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة الأمريكية.
تقول ترومبف أن هذه النتائج تشير إلى أن تجاربنا قد تؤثر على كيفية تغير نشاط هذا المكون الخلوي الصغير (زيادة أو خفض إنتاج الطاقة) استجابة لظروف الحياة المختلفة، كما يمكن أن تسير هذه السلسلة من الأحداث في الاتجاه المعاكس، إذ قد تؤثر الاختلافات في عمل الميتوكوندريا على الصحة النفسية بطرق تحدد نوعية التجارب التي يمر بها الشخص. وتعتقد ترومبف أن كلا الاحتمالين وارد، خاصة وأن الدراسات السابقة – التي أجريت معظمها على أدمغة القوارض – أظهرت أن الإجهاد المزمن يمكن أن يغير الميتوكوندريا، وأن العيوب الميتوكوندرية قد تؤثر على السلوك.
أبحاث سابقة
تدعم الدراسات السابقة التي فحصت الميتوكوندريا خارج الدماغ هذه النتائج. على سبيل المثال، في عام 2018، وجد مارتن بيكارد، وهو عالم نفس ميتوكوندري مشارك في الدراسة، أن الحالة المزاجية ومستويات الإجهاد أثرت على وظيفة الميتوكوندريا في خلايا المناعة المعروفة باسم الكريات البيضاء، كما أظهرت الدراسات علامات على خلل في الميتوكوندريا لدى الأشخاص المصابين باضطرابات نفسية مثل الاكتئاب.
تقول أودري تيركا، عالمة متخصصة في دراسة الإجهاد والصدمات النفسية والمرونة في جامعة براون، ولم تشارك في الدراسة: «تظهر نتائج هذه الدراسة التأثير الكبير الذي قد تحدثه العوامل النفسية والاجتماعية – سواء الإيجابية أم السلبية – على وظيفة الميتوكوندريا الدماغية»، وتضيف أنه من المهم إجراء تحليل مشابه على عينة أكثر تنوعًا، إذ إن 98% من المشاركين في الدراسة كانوا من ذوي البشرة البيضاء، مما يعني أن الدراسة لا تتناول قضايا محددة بالعرق أو الإثنية، مثل الإجهاد الناتج عن العنصرية النظامية والفوارق الصحية المرتبطة بها.
أسئلة مفتوحة
نظرًا لأن المشاركين في ROSMAP كانوا جميعًا بعمر 65 عامًا أو أكثر عند بدء الدراسة، يبقى السؤال مفتوحًا عما إذا كانت العلاقة بين تجارب الحياة ووظيفة الميتوكوندريا الدماغية موجودة لدى الأشخاص الأصغر سنًا. ففي أبحاث سابقة، وجدت إيريس-تاتيانا كولاسا، أخصائية علم النفس الحيوي السريري في جامعة أولم بألمانيا، أن الصدمات في الطفولة كانت مرتبطة بزيادة إنتاج الطاقة الميتوكوندرية في خلايا المناعة بعد الولادة لدى النساء البالغات.
تعتقد كولاسا أن هذا التباين قد يكون بسبب أن دراستها ركزت على فترة ما بعد الولادة، التي تُعد عادة وقتًا مرهقًا يرتبط أيضًا بالالتهابات. وقد تكون استجابة الميتوكوندريا مختلفة خلال تلك الفترة مقارنة بالحالات الطبيعية. وهناك احتمال آخر يتمثل في أن الإجهاد قد يؤدي إلى زيادة إنتاج الطاقة الميتوكوندرية على المدى القصير، ولكن بمرور الوقت قد يتسبب ذلك في تآكلٍ يؤدي إلى انخفاض السعة الميتوكوندرية في عمر متقدم، كما قد تختلف استجابة الميتوكوندريا في خلايا المناعة عن تلك الموجودة في الدماغ، وفقًا لترومبف.
إضافة مهمة للمجال العلمي
مع ازدياد الحاجة إلى مزيد من البحث لتأكيد الرابط بين العوامل النفسية والاجتماعية والميتوكوندريا الذي وجدته ترومبف وفريقها، إلا أن الدراسة تقدم اكتشافًا مثيرًا يضيف إلى الأدلة المتزايدة التي تشير إلى أن حالات العقل والتجارب السابقة مثل صدمات الطفولة يمكن أن تشكل وظيفة الميتوكوندريا.
تقول فيديتا فايديا، عالمة الأعصاب في معهد تاتا للأبحاث الأساسية في الهند: «حتى الآن، لا يزال الجدل قائمًا حول السببية، لكن هناك شيئًا مثيرًا للاهتمام هنا يستحق مزيدًا من الاستكشاف».
- ترجمة: فريال حنا
- تدقيق علمي ولغوي: حلا سليمان
- المصادر: 1