اختراق علمي يربط نظرية الأوتار بارتداد الثقوب السوداء: هل اقتربنا من نظرية كل شيء؟

الكشف عن رؤى جديدة حول تشتت الثقب الأسود وموجات الجاذبية
توصلت دراسة جديدة إلى دقة غير مسبوقة في نمذجة الأحداث الكونية المتطرفة، مثل اصطدام الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية، من خلال حساب الرتبة الخامسة بعد مينكوفسكي (5PM).
يُعتبر هذا الإنجاز بالغ الأهمية لتفسير بيانات موجات الجاذبية التي تجمعها المراصد الحالية والمستقبلية. يكشف البحث عن ظهور غير متوقع لفترات كالابي-ياو الثلاثية، وهي هياكل هندسية معقدة مرتبطة بنظرية الأوتار والهندسة الجبرية، ضمن حسابات الطاقة المشعة والارتداد.

وهذا يشير إلى وجود علاقة عميقة بين الرياضيات المجردة والظواهر الفيزيائية الفلكية. من خلال استخدام أكثر من 300 ألف ساعة من الحوسبة عالية الأداء، أظهر فريق دولي قدرة الأساليب الحسابية المتقدمة على حل المعادلات المعقدة التي تحكم تفاعلات الثقوب السوداء، مما يمهد الطريق لتطوير نماذج أكثر دقة لموجات الجاذبية وتقديم رؤى جديدة حول تكوين المجرات.
وضعت دراسة تاريخية نُشرت في مجلة Nature معيارًا جديدًا لنمذجة الأحداث الأكثر تطرفًا في الكون، مثل اصطدام الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية. يقود هذا البحث البروفيسور جان بليفكا من جامعة هومبولت في برلين والدكتور جوستاف موغول من جامعة كوين ماري في لندن، الذي كان قد عمل سابقًا في جامعة هومبولت ومعهد ماكس بلانك للفيزياء الجاذبية (معهد ألبرت أينشتاين). وقد أُجري هذا البحث بالتعاون مع فريق دولي من الفيزيائيين، حيث قدم دقة غير مسبوقة في الحسابات الأساسية لفهم موجات الجاذبية.

باستخدام تقنيات متقدمة مستندة إلى نظرية المجال الكمومي، قام الفريق بحساب الرتبة الخامسة بعد مينكوفسكي(5PM) لملاحظات مثل زوايا التشتت، والطاقة المشعة، والارتداد. ومن أبرز جوانب هذا العمل هو ظهور فترات كالابي-ياو الثلاثية، وهي هياكل هندسية مستمدة من نظرية الأوتار والهندسة الجبرية، داخل مجالات الطاقة الإشعاعية والارتداد. هذه الهياكل، التي كانت تُعتبر سابقًا مجرد مفاهيم رياضية، أصبحت الآن ذات أهمية كبيرة في وصف الظواهر الفيزيائية الفلكية في العالم الحقيقي.
مع دخول مراصد موجات الجاذبية مثل LIGO مرحلة جديدة من الحساسية، وظهور كاشفات الجيل التالي مثل LISA، يلبي هذا البحث الطلب المتزايد على نماذج نظرية تتمتع بدقة استثنائية.
وأوضح الدكتور موغول على الأهمية قائلاً: “على الرغم من أن العملية الفيزيائية لتفاعل ثقبين أسودين وتشتتهما بفعل الجاذبية التي ندرسها تبدو بسيطة من الناحية المفاهيمية، إلا أن الدقة الرياضية والحسابية المطلوبة لها تكون كبيرة جداً”.

يقول بنيامين ساور، مرشح الدكتوراه في جامعة هومبولت في برلين: “إن ظهور هندسة كالابي-ياو يعزز فهمنا للتفاعل بين الرياضيات والفيزياء. ستساهم هذه الأفكار في تشكيل مستقبل علم فلك موجات الجاذبية من خلال تحسين النماذج التي نستخدمها في تفسير بيانات الرصد”.
تُعتبر هذه الدقة ضرورية بشكل خاص لالتقاط الإشارات من الأنظمة ذات الحدود الإهليلجية، حيث تتشابه المدارات بشكل أكبر مع أحداث التشتت عالية السرعة. وهذا المجال لم تعد تنطبق عليه الافتراضات التقليدية المتعلقة بالثقوب السوداء ذات الحركة البطيئة.

أحدثت موجات الجاذبية، التي تمثل تموجات في الزمكان ناتجة عن تسارع الأجسام الضخمة، ثورة في مجال الفيزياء الفلكية منذ اكتشافها لأول مرة في عام 2015. إن القدرة على نمذجة هذه الموجات بدقة تعزز من فهمنا للظواهر الكونية، بما في ذلك “ركلة” أو ارتداد الثقوب السوداء بعد التشتت، وهي عملية لها آثار بعيدة المدى على تكوين المجرات وتطورها.
ولعل الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أن اكتشاف هياكل كالابي-ياو في هذا السياق يربط بين عالم الفيزياء الفلكية العيانية والرياضيات المعقدة لميكانيكا الكم. وأوضح الدكتور أوري جاكوبسن، عضو الفريق من معهد ماكس بلانك لفيزياء الجاذبية وجامعة هومبولت في برلين، قائلاً: “يمكن أن يحدث هذا تحولاً جذرياً في طريقة تعامل الفيزيائيين مع هذه الوظائف”. وأضاف: “من خلال تسليط الضوء على أهميتها المادية، يمكننا التركيز على أمثلة محددة تبرز العمليات الحقيقية في الطبيعة”.

استخدم المشروع أكثر من 300 ألف ساعة أساسية من الحوسبة عالية الأداء في معهد زوس في برلين لحل المعادلات التي تحكم تفاعلات الثقوب السوداء، مما يدل على الدور الذي لا غنى عنه للفيزياء الحاسوبية في العلوم الحديثة. ويضيف مرشح الدكتوراه ماتياس دريس، الذي قاد جهود الحوسبة: “كان التوافر السريع لموارد الحوسبة هذه أمرًا أساسيًا لنجاح المشروع”.
وأكد البروفيسور بليفكا على الطابع التعاوني للعمل، قائلاً: “يبرز هذا الإنجاز كيف يمكن للجهود متعددة التخصصات أن تتجاوز التحديات التي كانت تُعتبر سابقًا مستحيلة. من النظرية الرياضية إلى الحساب العملي، يجسد هذا البحث التآزر الضروري لتوسيع آفاق المعرفة الإنسانية”.

لا يساهم هذا الاختراق إلى تطوير مجال فيزياء موجات الجاذبية فحسب، بل يسد أيضًا الفجوة بين الرياضيات المجردة والكون المرئي، مما يمهد الطريق لاكتشافات لم تأت بعد. ومن المقرر أن يوسع التعاون جهوده بشكل أكبر، ويستكشف الحسابات ذات الترتيب الأعلى ويستخدم النتائج الجديدة في نماذج شكل موجة الجاذبية المستقبلية. وبعيدًا عن الفيزياء النظرية، فإن الأدوات الحسابية المستخدمة في هذه الدراسة، مثل KIRA، لها أيضًا تطبيقات في مجالات مثل فيزياء المصادمات.

وكان هذا الإنجاز نتيجة للتعاون الدولي المكثف واستخدام أساليب رياضية وحسابية متطورة. أُسست الدراسة في مجموعة بليفكا بجامعة هومبولت في برلين، حيث اُبتكرت صيغة نظرية المجال الكمومي العالمي بالتعاون مع الدكتور جوستاف موغول. مع مرور الوقت، توسع التعاون ليشمل متخصصين بارزين عالميًا، مثل الدكتور يوهان أوسوفيتش، الذي انتقل من سيرن إلى جامعة هومبولت في برلين وهو مطور لنظام KIRA، بالإضافة إلى علماء الفيزياء الرياضية الدكتور كريستوف نيغا من جامعة ميونيخ التقنية والبروفيسور ألبريشت كليم من جامعة بون، وهما من كبار الخبراء في متشعبات كالابي-ياو.

  • ترجمة: تقوى العبيدي
  • تدقيق علمي ولغوي: حسام عبدالله
  • المصادر: 1