هل يمكن للذكاء الاصطناعي مساعدتنا في التحدث إلى الحيوانات؟
ظاهرياً، قد لا يبدو أنَّ هناك العديد من القواسم المشتركة بين الفيلم الأمريكي “الدكتور دوليتيل” والذكاء الاصطناعي. حيث ينتمي أحدهما إلى أدب الأطفال في القرن العشرين، بينما ينتمي الآخر إلى القرن الحادي والعشرين. أحدهما طبيب تحوّل إلى طبيبٍ بيطري يمكنه التحدث إلى الحيوانات، والآخر عبارة عن تقنية محوسبة لا يمكنها ذلك، إلا إذا….
لقد وفّر لنا الذكاء الاصطناعي بالفعل القدرة على إملاء التعليمات على الروبوتات مثل Siri وAlexa، فهل يمكن أن تمتد إمكانياته إلى مملكة الحيوانات؟ هل يمكنه أن يساعدنا في فك رموز بعض الألغاز في عالمنا الطبيعي، وربما أن يسمح لنا يوماً ما “بالتحدث” مع الحيوانات؟
هناك بالتأكيد من يعتقد ذلك، وقد تم بالفعل إحراز بعض التقدم في محاولة فك شيفرة الاتصالات بين الحيوانات باستخدام الذكاء الاصطناعي. قد تُمكنك هذه الطريقة بعيدة المدى من تناول الطعام مع كلبك، أو شرب الشاي مع سلحفاتك، لكن التكنولوجيا -ونأمل أن تستمر بذلك- تعمل على تحسين فهمنا للأنواع الحية الأخرى، وكيفية تفاعلها مع بعضها البعض. عندما يتعلق الأمر بالتواصل مع الحيوانات فربما قام “دوليتيل” بالمشي (أو التحدث) حتى يُمكِّن الذكاء الاصطناعي من العمل.
هل تستخدم الحيوانات اللغة؟
العقبة الأولى في “ترجمة” الاتصالات بين الحيوانات هي فهم كيف يبدو هذا التواصل. تتكون لغة الإنسان من إشارات لفظية وأخرى غير لفظية، والتواصل مع الحيوانات لا يختلف عن ذلك.
فمثلاً، تقوم الكلاب بهز ذيولها للتعبير عن مجموعةٍ من مشاعرها، ويرقص النحل ليسمح للنحل الآخر بمعرفة مكان العثور على مصدرٍ جيد للرحيق أو حبوب اللقاح. كما تستخدم الدلافين النقرات والصافرات لنقل المعلومات.
وبالرغم من ذلك، هناك بعض الجدل حول ما إذا كان بإمكاننا اعتبار تلك الإشارات “لغةً”. وهناك نقاشاً، وفقاً للدكتورة دينيس هيرزينغ، مديرة الأبحاث في مشروع Wild Dolphin، عن إمكانية مساعدة الذكاء الاصطناعي في النوم.
وقد قالت هيرزينغ ل IFLScience: “لا نعلم حالياً ما إذا كانت الحيوانات تمتلك لغةً خاصة بها، لكن يمكن للذكاء الاصطناعي مساعدتنا في البحث عن تراكيب تشبه اللغة، والتي قد توحي لنا بأن الحيوانات لديها أجزاءً من اللغة”.
كيف يمكن للذكاء الاصطناعي “ترجمة” الاتصالات بين الحيوانات؟
وتقول إيلودي ف. بريفر -الأستاذة المشاركة في سلوك الحيوان والتواصل في جامعة كوبنهاغن- لِ IFLScience: “أظهرت أبحاث الصوتيات الحيوية أن أصوات الحيوانات تحمل عدّة أنواع من المعلومات، بدءاً من هوية الحيوان، إلى وضعيته، وحالته الداخلية، وأحياناً تعطينا معلومات عن أشياء أو أحداث خارجية. يمكن للذكاء الاصطناعي التقاط كل هذه المعلومات”.
وبشكل أكثر تحديداً، هذا ممكن من خلال التعلم الآلي، وهو شكل من أشكال الذكاء الاصطناعي يمكنه تحليل البيانات دون الحاجة إلى إتباع تعليمات محددة. من الناحية النظرية، يمكن استخدامه لمعالجة تسجيلات التواصلات بين الحيوانات وبناء نماذج لغوية بناءً على هذه التسجيلات.
وتضيف بريفر: “يُعَدّ التعلم الآلي أداةً قوية، حيث يمكن تدريبه على تحديد الأنماط الموجودة في مجموعة كبيرة جداً من البيانات، وبذلك يسمح لنا بمعالجة كمية كبيرة من البيانات واكتساب معرفة مهمة حول كيفية تغيّر المعلومات الموجودة في أصوات الحيوانات بمرور الوقت، وما إلى ذلك”.
إنها نفس التقنية التي نستخدمها كل يوم لتشغيل النص التنبؤي، وترجمة Google، والمساعد الصوتي. وقد يكون استخدامها في مجال التواصل مع الحيوانات أكثر صعوبةً بمراحل، لكنّ هذا لم يمنع الباحثين من المحاولة.
وقالت هيرزينغ ل IFLScience: “هناك العديد من التقنيات والطرق المختلفة للتعامل مع هذا العلم”، وأضافت: “هذا سيختلف اعتماداً على البيانات المستخدمة، أو تقنية الذكاء الاصطناعي، أو حتى فهم الحيوانات نفسها”.
على سبيل المثال، مشروع Earth Species Project هو منظمة غير ربحية “مكرّسة لفك تشفير اللغة غير البشرية”. وقد ركزوا حتى الآن على الحيتان والرئيسيات، لكنهم يقولون أنهم سيتوسعون في النهاية إلى الحيوانات الأخرى، بما فيها الغرابيات.
يستخدم المشروع تقنية التعلم الآلي، والتي تتعامل مع اللغة كشكل، “مثل المجرة، حيث يعبّر كل نجم عن كلمة، وتعبّر المسافة والاتجاه بين النجوم عن الترابطات في المعنى بين هذه الكلمات”. ويمكن بعد ذلك “ترجمة هذه الترابطات من خلال مطابقة الهياكل مع بعضها البعض”.
وبتفاؤل، يعتقد بريت سيلفيتيل، الشريك المؤسس في هذا المشروع، أن هذه المنهجية يمكنها أن تساعدنا في فك شيفرة أول لغة غير بشرية خلال العقد المقبل، وذلك وفقاً لصحيفة The New Yorker. ومع ذلك، فإن الآخرين يشككون أكثر بقدرة الذكاء الاصطناعي كأداة لكشف طريقة التواصل مع الحيوانات.
وتقول جوليا فيشر من مركز الرئيسيات الألماني في غوتنغن أن تحليل التسجيلات أمر جيد، ولكن لا معنى لها بدون سياق، وقد قالت لمجلة New Scientist: “إنَّ الذكاء الاصطناعي ليس عصى سحرية تعطينا الإجابة عن الاسئلة البيولوجية، أو أسئلة الوجود”.
ولا يزال من الضروري النظر إلى الطبيعة وربط التسجيلات بملاحظاتٍ من العالم الحقيقي، وهذا ليس بالأمر السهل للقيام به.
ما الذي تم إنجازه حتى الآن؟
تعمل الكثير من المشاريع في الوقت الحالي على كشف أسرار التواصل مع الحيوانات بمساعدة الذكاء الاصطناعي، ومن بينها مشروع Earth Species Project. وفي كانون الأول الماضي، نشر هذا المشروع بحثاً يدّعي أنه حل مشكلة “حفلة الكوكتيل” – وهي المشكلة التي تنشأ عند التمييز بين مصدر الصوت والأصوات المتعددة المتزامنة الأخرى.
تخيل نفسك في حفلة كوكتيل، يكاد أن يكون من المستحيل معرفة مَن الذي يقوم بطلب مشروبٍ آخر من بين الثرثرة والضوضاء في الخلفية. وتوجد لدينا نفس المشكلة عند فك تشفير الاتصالات بين الحيوانات.
في هذه الدراسة، قام الباحثون بوضع خوارزمية تجريبية، وقاموا بتطبيقها على أنواع تشمل بعض أنواع القرود، والدلافين قارورية الأنف، وخفافيش الفاكهة المصرية، وقد مكّنتهم من تحديد أي فرد في مجموعةٍ صاخبة من الحيوانات يقوم “بالتحدّث”.
ويعزز الذكاء الاصطناعي نفسه كأداة قيّمة في مجالات أخرى من علوم الحيوان أيضاً. وقد صرّحت بريفر لِ IFLScience: “لقد تم استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل ملحوظ في مجال جديد نسبياً يسمى علم الصوتيات البيئية، والذي يقوم بمراقبة التنوع البيولوجي من خلال المراقبة الصوتية، ويتطلب مجموعات بيانات كبيرة جداً”.
“وقد استخدمه الناس أيضاً لاستخراج المعلومات من التسجيلات طويلة المدى (مثل تحديد الثديات البحرية في التسجيلات تحت الماء). وفي الآونة الأخيرة، تم استخدامه لتحديد الأنماط في عدة سياقات أخرى، مثل تحديد المشاعر الكامنة لدى [الخنازير والدجاج]”.
ويتضمن عمل بريفر إحدى هذه الدراسات، حيث قامت هي وزملاؤها بتدريب نظام ذكاء اصطناعي للتعرف على المشاعر الإيجابية أو السلبية في أصوات الخنازير، وهمهماتها، وصرخاتها.
وعند القوارض، تم استخدام برنامج يسمى DeepSqueak للحكم على ما إذا كان الحيوان يعاني من الإجهاد بناءً على النداء فوق الصوتي الذي يصدره. هذه الأصوات -التي لا تستطيع الأذن البشرية سماعها- هي الطريقة التي تتواصل بها القوارض اجتماعياً. وتم استخدام هذا البرنامج أيضاً على الرئيسيات والدلافين لمساعدة الباحثين تلقائياً على التمييز بين تسجيلات أصوات النداء الخاصة بالحيوانات.
ويهدف مشروع Wild Dolphin غير الربحي، الذي أسسته هيرزينغ، إلى استخدام الذكاء الاصطناعي لاكتشاف أنماط نداءات الدلافين، واستكشاف كيفية التواصل بين الدلافين والبشر. في عام 2013، بعد تعليم مجموعة من الدلافين لربط صافرة معينة بنوع من الأعشاب البحرية، استخدم الباحثون خوارزمية التعلم الآلي لتحديد وترجمة هذا الصوت في البرية.
وفي الوقت نفسه، يقوم مشروع مبادرة ترجمة أصوات الحيتان “CETI” Cetacean Translation Initiative بمحاولة فك تشفير الاتصالات بين حيتان العنبر باستخدام نماذج لغوية لفك تشفير أغانيهم والتأسيس لِ “لغتهم”.
لماذا هذه الحيوانات تحديداً؟
كما تعتقد بريفر، عندما يتعلق الأمر بفك تشفير الاتصالات لا يوجد نوع أفضل من الآخر. ولكن مع ذلك، تم استهداف بعض الحيوانات من قبل الباحثين أكثر من غيرها.
وقد قالت بريفر لِ IFLScience: “عند التفكير في الاتصال الصوتي، فإن أكثر الحيوانات إثارة للاهتمام بالطبع هي تلك التي تتميز بصوت عالٍ (مثل الطيور، والخنازير، وبعض أنواع السموريات، وما إلى ذلك) وتلك التي تمتلك مخزوناً صوتياً كبيراً”.
وبالمثل، فإن الحيوانات الاجتماعية مثل الرئيسيات، والحيتان، والدلافين من المرجح أن يكون لديها أنظمة اتصال متطورة، مما يجعلها مثالية للدراسة.
وأوضحت هيرزينغ أنه من الممكن أن يلعب الذكاء دوراً في ذلك أيضاً: “الدلافين تعيش في مجتمعات ذات صفات اجتماعية عالية، وتعيش حياةً طويلة، ولديها ذكريات طويلة الأمد، مما يُشير إلى أنها لديها علاقات معقدة للتواصل”.
وأضافت هيرزينغ: “من المعروف أن الحيتان -أو الدلافين على الأقل- تتمتع بذكاء عاطفي عالي، وقدرات على تعلم اللغات الاصطناعية، وفهم الأفكار المجردة، كما تستطيع التعرف على نفسها في المرآة. وهذه بعض الأسس المتينة التي تُشير للذكاء”.
ما هي فوائد فهم التواصل مع الحيوانات؟
إلى جانب ما هو واضح -في النهاية معرفة ما تعتقده قطتك عنك حقاً- هناك الكثير من الطرق التي من الممكن أن يكون من خلالها تحسين فهم التواصل مع الحيوانات مفيداً للبشر والحيوانات على حد سواء.
وصرحت بريفر لِ IFLScience: “بالنسبة للأنواع الأسيرة والبرية على حد سواء، سيتيح لنا هذا أن نفهمها بشكلٍ أفضل، وأن نعلم متى تكون بحالةٍ جيدة، ومتى تُعاني، هذا أمرٌ بالغ الأهمية للأنواع التي من حولنا (الحيوانات الأليفة وحيوانات المزرعة على سبيل المثال)، لأن مصلحتها ورفاهيتها تعتمد علينا”.
وهذا الشيء لا يجعلنا أصحاباً أفضل للحيوانات الأليفة فحسب، بل يمكنه أيضاً أن يغيّر علاقتنا مع جميع الحيوانات إلى الأبد. وأضافت هيرزينغ: “نأمل بأن معرفة البشر لإمتلاك الحيوانات للغة سيجعلهم يفهمون أننا لسنا النوع الوحيد الواعي على هذا الكوكب”.
وعلى أقلِّ تقدير، يمكن لهذا أن يلهمنا المزيد من التعاطف مع الأنواع الأخرى، وأن يقودنا إلى إعادة التفكير في الطريقة التي نتعامل بها معهم. قد يكون لهذا آثارً بعيدة المدى، بما في ذلك استخدام الحيوانات في الرياضة، والترفيه، والبحث.
ومن الممكن أن يؤدّي ذلك إلى إصلاح شامل للزراعة الحيوانية حتى. مع فهمٍ أفضل للحيوانات من حولنا، هل لا يزال بإمكاننا تبرير ممارساتنا التي تستغلها وتقتلها؟ من منظور إنساني، هناك أيضاً الكثير الذي يمكننا تعلمه، ليس فقط عن الحيوانات ولكن عن أنفسنا، وربما عن أشكال الحياة الأخرى.
يمكن أن يعلمنا فهم التواصل مع الحيوانات عن تطور اللغة أيضاً، كما قالت بريفر ل IFLScience. وقد تكهنت هيرزينغ بأن “الأدوات التي نطورها مع الأنواع الموجودة على الأرض، قد تنطبق على عوالم بعيدة إذا واجهنا أي أشكال أخرى من الحياة”، مضيفةً أنَّ هذه الأدوات يمكنها مساعدتنا في قياس درجة ذكائهم وما إذا كان بإمكاننا التواصل معهم.
من المؤكد أن تحقيق القفزة من التواصل مع الحيوانات إلى التواصل مع الكائنات الفضائية هو خطوة لم يقم بها “دوليتيل” أبداً. هل يجب أن يقلق الطبيب البيطري الخيالي من أن يتم التغلب عليه؟ ليس بعد. يُعَد استخدام الذكاء الاصطناعي للتحدث مع الحيوانات -ناهيك عن الكائنات الفضائية- قفزة كبيرة. لكنه بالتأكيد يمتلك القدرة على تحسين فهمنا للأنواع الأخرى، والعالم من حولنا. وفي الواقع، لقد قام بذلك بالفعل. ربما يجب أن يبدأ “دوليتيل” بالشعور بالتوتر قليلاً بعد كل شيء.
- ترجمة: جلنار نعيم
- تدقيق علمي ولغوي: حسام عبدالله
- المصادر: 1