النظريات الكُبرى التي تثبت منشأ الموسيقى
ما زال العلماء يتباحثون في أَصلِ هذا السلوك العالمي، فهل تطوِّر الإنسان -كان فقط- حتى يغني ويرقص، أو اخترعنا هذه التسلية الموسيقية؟
في أَي مكان تنظر إليه، ومن دون أي إستثناء، تجد الموسيقى. حيث أَن كل ثقافة قد أنتجت شكلًا منها.
كمثلِ اللُّغة، فهي ميزة عالمية لجنسنا البَشّري والتي قد ازدهرت عبر آلاف السنين إلى سيمفونية عالمية رائعة.
ومع كل هذا، فإن منشأها ما زال من أَعظم الأسرار في تاريخ البَشّرية.
أقدم آلة موسيقية أُكتُشِفَت بكهفٍ في ألمانيا بلغ عمرها 42.000 سنة، وهي الناي المصنوع من العظام.
بالتأكيد الموسيقى الصوتية تسبق هذه، لكن المشكلة -وفقًا لعالم الموسيقى بجامعة أمستردام Henkjan Huning- هي أَن الموسيقى لا تتحجَّر، وأدمغتنا هي الأُخرى لا تتحجَّر. ومع القليل من الأدلةِ القوية، لا يزال العُلماء يناقشون ما تقدمهُ الموسيقى من تطورٍ. ولأَن الغرض منها غامض بما يكفي لتبرير النقاش؛ يتساءل بعض المتشكِّكين عما إذا كانت تخدم أَي غرض على الإطلاق.
على الرغمِ من أَن (تشارلز داروين) فعل ذلك، فقد وجد دليلًا على نظريتهِ الأقل شهرة عن الإنتقاء الجنسي؛ من خلالِ إجراء مقارنة مع أَصوات العصافير -وهو تكتيك مُغازلة جزئيًا- اقترح في كتابهِ عام 1871 The Descent of Man على الرغم من أَن لحننا لا يساعدنا في البقاءِ على قيد الحياة من يوم لآخر، إلّا أَنهُ كان من المُمكن أَن يتطوَّر (من أجلِ سحرٍ الجنس الآخر).
هذه النظرة للموسيقى كأغنيةِ حُب بدائية، أقل عصرية اليوم. على الرغم من ذلك -كما يمزح عالم الموسيقى بجامعةِ كيو باتريك سافاج- فقد يجد poster child مقنعًا في جيمي هندريكس والعديد من علاقاته الرومانسية.
لكن مجموعة من الأفكار الجديدة أخذت مكانها، حيث يواصل علماء النفس والإدراك وعلماء الإناسة وغيرهم مواجهة لغز الموسيقى.
Cheese cake or social glue?
لعقود من الزمان، استقر باحثوا الموسيقى إلى حدٍ ما في معسكرين: أولئك الذين يعتقدون أَن موضوع دراستهم هو تكيف بيولوجي، وأولئك الذين يعتقدون أنهُ اختراع ثقافي.
في الحجّة الأخيرة، الإيقاعات والألحان والتناغمات التي نعتز بها ليست أكثر من كماليات تافهة -كعكة الجبن السمعية- كما قال عالم النفس التطوري ستيفن بينكر بشكلٍ لا يُنسى في كتابه عام 1997 كيف يعمل العقل. بدلًا من التكيف البيولوجي في حدِ ذاته، تعدّ الموسيقى نتيجةٍ ثانوية مبهجة للصدفة والتكيفات الأُخرى، مثل اللغة.
كتب بينكر: «فيما يتعلق بالسبب البيولوجي والنتيجة، فإن الموسيقى عديمة الفائدة» . «الموسيقى يمكن أَن تختفي من جنسنا، وبقية أسلوب حياتنا سيكون دون تغيير تقريبًا».
وجد البعض أَن هذا الحكم رافض للغاية. بعد كل شيء، تبدو القدرة على صنع الموسيقى والاستمتاع بها متأصلة في كل واحد منّا، تمامًا مثل التعديلات القيِّمة الأُخرى. في هذهِ الأيام الموسيقى هي مهنة، تقول (ساندرا تريوب) عالمة نفس في جامعة تورنتو: «ولكن حتّى البشّر العاديين الذين لم يتلقوا درسًا موسيقيًا أبدًا، لديهم معرفة ضمنية ببنية موسيقى ثقافتهم. قد لا يعرفون الأصوات التتابعية من الفاصل زمني، لكن يمكنهم المحافظة على إيقاع ونسخ نغمة وتحريك أجسادهم على الصوت».
تدرس (تريوب) الإدراك الموسيقي عند الرُضَّع، تقول: «إنهم مفتونون جدًا بالموسيقى» كما أَن قدرتهم على التمييز بين الاختلافات في النغمة والتوقيت -من نواحٍ كثيرة- مُشابهة للبالغين. يمكنهم حتى تذكر الألحان بعد أَشهر من سماعها، تقول: «ترى هذه القدرات المذهلة وعليك أن تفكر… هناك أساس بيولوجي لذلك».
هذا لا يعني بالضرورة أَننا طوَّرنا هذا الأساس للموسيقى -على وجه التحديد- لكن العديد من العُلماء قدموا تفسيرات لسبب وجودنا. يجادل البعض بأَن الموسيقى هي آلية للترابط الاجتماعي، وتساعدنا على التعايش في مجموعات متماسكة تعمل بشكلٍ جيد.
لملايين السنين، انخرط أقاربنا من الرئيسيات في شكلٍ من أشكالِ الترابط المعروف باسم الاستمالة الاجتماعية. حيث ينظفون أجسام بعضهم البعض ويطلقون الإندورفين في هذه العملية. لكن في الثقافات البشّرية الأكبر والأكثر تعقيدًا، لَمْ تكن الاستمالة كافيًا.
يمكن للغناء والرقص الجماعي -بالإضافة إلى الضحك، بدرجة أقل- أَن يَخدم نفس الغرض على نطاقٍ أوسع بكثير.
الاحتمال الآخر، هو أَن الموسيقى نشأت من الأَصوات المهدئة التي يصدرها الآباء للتواصل مع الأطفال الرضع. إذ حسَّنت تهويدات ما قبل التاريخ الروابط بين الوالدين والرُضَّيع وبقاء النسل، فقد يكون هناك حافز تطوري لمقدم الرعاية، حتى أَن بعض الباحثين يجادلون بأَن النُسخة الأولى من الموسيقى -مهما كانت- ربما أَدَّت إلى ظهور اللُّغة نفسها (أعتقد داروين أيضًا ذلك).
يعتقد آخرون أَن الموسيقى واللُّغة تشتركان في سلفٍ مُشترك. في كتابِ عالم الآثار بجامعة ريدينغ ستيفن ميثن The Singing Neanderthals هو نظام اتصال قديم يحمل اختصار onomatopoeic “Hmmmmm’ (شامل، متلاعب، متعدد الوسائط، موسيقي ومحاكي).
ما وراء الثنائية
سعى البعض إلى إيجاد طريقةً للتغلبِ على الانقسام بين التكيف والاختراع، وهو عالم موسيقى في المناظرة يعتقد سافاج أنه «تجاوز فائدته». يميز (سافاج) وآخرون بين الموسيقى (منتج ثقافي) والموسيقى (الأسس البيولوجية التي تسمح لنا بإنشاء الموسيقى وإدراكها).
هذا وحده لا يفسّر الأَصل النهائي للموسيقى، لكنه يسمح بمساحة لكل من الطبيعة والتنشئة.
في شهر آب، في محاولة للتوفيق بين العديد من النظريات السابقة، نشر (سافاج) ومجموعة من المؤلفين المشاركين عبر التخصصات، ورقة تقدّم ما يعتبرونه «النظرية الأكثر شمولًا حتّى الآن».
يعترف سافاج بأنه قد يكون «واسع جدًا». يقترحون أَن الموسيقى الثقافية والموسيقى البيولوجية قد تطورت جنبًا إلى جنب في نوع من «تطور الثقافة الجينية».
تعتمد فكرتهم على عمل (أنيروده باتيل) عالم الأعصاب المعرفي في جامعة تافتس، الذي يؤكّد أَن الموسيقى كانت في البداية اختراعًا، لكنها أثبتت أَنها مفيدة جدًا في الترابط الاجتماعي لدرجة أنها أطلقت حلقة ردود فعل تطورية. بدأ الانتقاء الطبيعي في تفضيل هذه الموسيقى المكتشفة حديثًا (وهي خلقة بشّرية) بنفس الطريقة التي فضَّلت بها التكيفات لهضم الطعام المطبوخ بعد أَن أتقن البشّر الأوائل النار.
يأخذ (سافاج) وزملاؤه أَيضًا نظرة أوسع للترابط الاجتماعي، ويشمل العديد من الطرق التي نبني بها العلاقات مع إخواننا البشّر ونحافظ عليها. يتفقون على أَن الموسيقى يمكن أَن تكون بمثابةِ غراءٍ اجتماعي، لكنها مفيدة أَيضًا في تهدئةِ بكاء الأطفال ومغازلة زملائهم، من بين أمورٌ أُخرى. يجادلون في البحث بأَن استغلال هذا السلوك متعدد الاستخدامات يشبه إلى حدٍ ما الإدعاء بأن الرؤية تطورت فقط؛ لاكتشاف الحيوانات المفترسة، أو فقط لتجنب العقبات، عندما يكون من الواضح أنها مجموعة أدوات معرفية أكثر.
أوركسترا الحيوانات
قد توحّد الموسيقى البشّر بشكلٍ عام، لكنها لم تفعل ذلك بعد لأولئك الذين يدرسونها. كانت مقالة (سافاج) واحدة من ورقتين بحثيتين عن الموسيقى نُشرتا في تلك الطبعة من العلوم السلوكية والدماغية. والآخر، مؤلفه الرئيسي هو عالم النفس بجامعة هارفارد (صموئيل مير) «يختلف اختلافًا كبيرًا» كما كتب هو وزملاؤه. يؤكّدون أَن «الموسيقى لها جذور تطورية عميقة» وتعود إلى أسلافنا الرئيسيين.
يشارك Huning من جامعة أمستردام، هذا الرأي، يقول: «ما زلت أؤمن بداروين». «ما زلت أعتقد أَننا قد نشارك بعض هذه [السمات الموسيقية] مع الحيوانات، وأن لها تاريخًا تطوريًا طويلًا».
من خلال النظر في مكونات الموسيقى المشتركة بيننا وبين المخلوقات الأُخرى، من الحيتان إلى جيبونز -أوركسترا الحيوانات المتطورة، حيث أطلق على كتاب حديث- يأمل في معرفة المزيد عن تطور الموسيقى لدى البشّر.
إنها استراتيجية لقول شيء ما هنا والآن عن ماضينا التطوري من خلال النظر إلى الأنواع الأُخرى. يقول (هونينغ) المرشحون الواضحون هم الرئيسيات -التي ربما تكون قد تطورت من نفس البدايات الموسيقية مثلنا- والطيور، وهي مثال على التطور المتقارب:« نوع لا يرتبط بنا ارتباطًا وثيقًا، ولكن لسبب ما حقق موسيقى مماثلة. يبدو التشبيه مناسبًا بشكل خاص منذ ظهور Snowball the cockatoo لأول مرة.
الراقصة المفضلة على الإنترنت ذات الريش. وإذ كان تأنق أسد البحر رونان هو أي مؤشر، فقد تكون الموسيقى أكثر انتشارًا في مملكة الحيوانات. (هذان، في رأي هونينغ، هما «سفراء مجالنا في الوقت الحالي».
يُقال إِن علم الوراثة -الحيواني والبشّري- هو وسيلة واعدة أُخرى للبحث. بالطبع، لا ينبغي أَن نحبس أنفاسنا من أجل «جين الموسيقى». السمات المعرفية – سواء كانت اللُّغة أو الموسيقى أو الذاكرة أو المعالجة البصرية متعددة الجينات، مما يعني أنها تنطوي على تفاعل معقد للعديد من الجينات.
ولكن ربما يكشف المزيد من التحليل عن شيء مثل جين FOXP2 الذي تم ربطه باللُّغة. ومع ذلك، فإن الخُبراء قلقون من الإفراط في الوعود بنظرية موسيقية لكل شيء: «لا أعتقد أن أي شخص سيكون قادرًا على اختتامها في حزمة صغيرة ولطيفة» كما يقول تريهوب، «إنه موضوع معقد».
بالنسبة لعلماء الموسيقى، هذا صحيح بالتأكيد. لكن بالنسبة للإنسان العادي يمكن أَن تشعر الموسيقى بالبساطة بشكلٍ مدهش.
يقتبس عالم الأنثروبولوجيا القديمة (إيان مورلي) في كتابه The Prehistory of Music، من رجل من شينوك يُدعى ويلي سلام: «ترى في عين عقلك القوة في كل شيء، حتى في شفرة من العشب؛ لهذا السبب يصبح الناس مطربين». «العالم جميل جدًا بحيث لا يمكن حتى وصف لغتنا».
- ترجمة: ريم الاحمد
- تدقيق علمي ولغوي: فاطمة قائد
- المصادر: 1