
المهارات الناعمة، معضلة أتمتة الوظائف
الخلاصة:
في خضم ما يحدث من أتمتة (تطبيق التكنولوجيا وتقليل الاعتماد على العنصر البشري)، بات مستقبل العمل في بعض الوظائف قاتمًا للكثيرين. فقد قدّرت دراسة حديثة أن 10% من الوظائف الأمريكية ستُؤتمت ابتداءً من العام 2020، وتُقدّر دراسة أخرى أن ما يقرب من نصف الوظائف الأمريكية قد تُؤتمت خلال العقد المقبل. إن الوظائف التي تتسم بالتكرار والروتين هي المرشح لها أن تخضع للأتمتة، مثل قراءة الأشعة السينية،و قيادة الشاحنات، وتخزين البضائع في المستودعات. ولطالما بحث أصحاب العمل عن مرشحين يتمتعون بمهارات أخرى، مثل القدرة على التعلم التكيفي، واتخاذ القرارات الصائبة، والعمل بكفاءة مع الآخرين. وبالطبع كل هذه المهارات المطلوبة تتناسب تمامًا مع أنواع المهارات التي يجيدها الإنسان، والتي يصعب أتمتتها وستظل كذلك.
ويعني كل ذلك أن أنظمتنا التعليمية يجب ألا تُركز فقط على كيفية تفاعل الإنسان مع التكنولوجيا (مثلًا، من خلال تعليم الطلاب البرمجة)، بل يجب أيضًا التركيز على كيفية إنجاز الأشياء التي لن تُؤديها التكنولوجيا قريبًا. تلك المهارات التي يصعب فهمها وتنظيمها، هي المهارات التي تمنح البشر، وستستمر في منحهم، الأفضلية على الروبوتات.
بدا مستقبل العمل قاتمًا للكثيرين وذلك بعد ظهور نتائج دراسة حديثة أجرتها شركة فورستر مفادها أن 10% من الوظائف الأمريكية ستُؤتمت ابتداءً من العام 2020، وقدّرت دراسة أخرى من شركة ماكينزي أن ما يقرب من نصف الوظائف الأمريكية قد تُؤتمت خلال العقد المقبل.
فالوظائف التي يُحتمل أتمتتها هي وظائف تتسم بالتكرار وذات طابع روتيني. وهي تتنوع من قراءة الأشعة السينية (قد تُختَصر أدوار أخصائيي الأشعة البشر قريبًا)، إلى قيادة الشاحنات، وتخزين البضائع في المستودعات. ووسط زخم الحديث المتعلق بأنواع الوظائف التي يُحتمل إلغاؤها، يبقى هنالك منظور آخر لم ينل القدر ذاته من التفصيل، فالسؤال الآن ليس عن الوظائف التي سيطالها الإلغاء، بل عن بعض جوانب الوظائف الباقية التي ستحل محلها الآلات.
على سبيل المثال، لننظر إلى وظيفة الطبيب: إذ يبدو من الواضح وبفضل دقة الآلات أن تشخيص الأمراض سيصبح قريبًا (إن لم يصبح بالفعل) أفضل من البشر. كما يُعدّ التعلم الآلي فعّالًا بشكل مذهل عندما تكون مجموعات البيانات متاحة للتدريب والاختبار، وينطبق ذلك على مجموعة واسعة من الأمراض والعلل. ولكن، ماذا عن الجانب المعنوي كالجلوس مع العائلة لمناقشة خيارات العلاج؟ من غير المرجح أن يُطبَّق هذا الجانب المهم آليًا في المستقبل المنظور.
لننظر الآن إلى مهنة تقع في الطرف الآخر من طيف المكانة الاجتماعية. فقد استبدل مقهى “إكس” في سان فرانسيسكو، جميع مُحضّري القهوة بأذرع روبوتية اصطناعية، تُسلّي الزبائن بحركاتها الطريفة أثناء تحضير المشروبات الساخنة. ومع ذلك، يوظّف مقهى “إكس” الإنسان، لتعليم الزبائن كيفية استخدام التكنولوجيا من أجل أن يتمكنوا من طلب مشروباتهم. ليس ذلك وحسب، فالإنسان يتولى أيضًا حل المشاكل التي قد تحدث مع الروبوت المُحضّر للقهوة.
إذا ما قارنا بين طبيعة وظيفة مُحضّر القهوة والنادل، فسنلاحظ أن كثيرًا ما يتجاذب الزبائن أطراف الحديث مع النادل. إذ من الواضح أن وظيفة النادل هذه تتجاوز مُجرّد خلط المشروبات. وكما هو الحال مع الطبيب، يُمكننا بسهولة تقسيم هذه الوظيفة إلى عنصرين: عنصر مُتكرّر وروتينيّ (يشمل خلط المشروبات وتقديمها)، وعنصر أكثر تفاعلية وغير مُتوقع، يتضمن الاستماع إلى الزبائن والتحدث معهم.
وبعد التفكير في خصائص العديد من الوظائف والمهن، يظهر شيوع نوعين من العمل غير الروتيني بشكل خاص، ويصعب أتمتتهما:
أولًا: العاطفة؛ فللعاطفة دور مهم في التواصل البشري (فكّر في ذلك الطبيب الذي يجلس مع عائلة المريض، أو ذلك النادل الذي يتفاعل مع الزبائن). فهي تُشارك بشكل حاسم في جميع أشكال التواصل غير اللفظي تقريبًا وفي التعاطف. ولا يتوقف دور العاطفة عند ذلك الحد، فهي تلعب أيضًا دورًا مهمًا في مساعدتنا على تحديد أولويات المهام التي يجب علينا القيام بها، لناحية إعطاء إمكانية تقديم فعل الشيء من تأجيله لاحقًا. لا تُعدّ العاطفة معقدة ودقيقة فحسب، بل إنها تتفاعل أيضًا مع العديد من عمليات اتخاذ القرار لدينا. وقد ثبت علميًا صعوبة فهم آلية عمل العاطفة (على الرغم من التقدم المُحرَز)، كما أنه يصعب دمجها ضمن نظام آلي.
ثانيًا: السياق؛ للبشر قدرة على مراعاة السياق عند اتخاذ القرارات أو التفاعل مع الآخرين بسهولة. فالسياق مثير للاهتمام بشكل خاص لأنه غير محدد. على سبيل المثال، في كل مرة يُنشَر فيها خبر، يتغيّر السياق الذي نعمل فيه (كبيرًا كان أم صغيرًا). علاوةً على ذلك، فإن التغييرات في السياق (مثل انتخاب رئيسٍ مستقل) لا تُغيّر فقط كيفية تفاعل العوامل مع بعضها البعض، بل قد تُدخل عوامل جديدة وتُعيد تنظيمها بطرقٍ جذرية. يُمثّل كل ذلك مُشكلةً للتعلم الآلي، الذي يعمل على مجموعات بيانات أُنشِئَت سابقًا، بحكم التعريف، في سياقٍ مُختلف. وبالتالي، فإن مراعاة السياق (كما يُمكن لنادل مُتأنٍّ أن يفعل بسهولة) يُمثّل تحديًا للأتمتة.
إن قدرتنا على إدارة عواطفنا واستخدامها، ومراعاة تأثيرات السياق، تُعدّ من العناصر الأساسية للتفكير النقدي، وحل المشكلات الإبداعي، والتواصل الفعّال، والتعلم التكيفي، وحسن التقدير. وقد ثبت صعوبة برمجة الآلات لمحاكاة هذه المعرفة وتلك المهارات البشرية التي يتميز بها الإنسان، وليس من الواضح متى (أو ما إذا) ستؤتي جهود اليوم الناشئة ثمارها.
في الواقع، هذه المهارات هي ذاتها التي يُشير أصحاب العمل في مختلف القطاعات باستمرار إلى ضرورة توفرها لدى المتقدمين للوظائف لديهم. على سبيل المثال، أفاد 93% من أصحاب العمل في أحد الاستطلاعات أن «قدرة المرشح المُثبتة على التفكير النقدي، والتواصل بوضوح، وحل المشكلات المعقدة أهم من تخصصه الجامعي». بالإضافة إلى ذلك، يبحث أصحاب العمل عن مرشحين يتمتعون بأنواع أخرى من “المهارات الناعمة”، مثل القدرة على التعلم التكيفي، واتخاذ القرارات الصائبة، والعمل بكفاءة مع الآخرين. هذه القدرات المطلوبة تتناسب بالطبع تمامًا مع أنواع المهارات التي يجيدها البشر، ولكن من الصعب أتمتتها، وستظل كذلك.
يشير كل ذلك إلى أن أنظمتنا التعليمية ينبغي ألا تكون مقتصرة على التركيز على كيفية تفاعل الإنسان مع التكنولوجيا (مثلًا، تعليم الطلاب البرمجة)، بل يجب أيضًا التركيز على كيفية تأدية الأمور التي لن تتمكن التكنولوجيا من إنجازها قريبًا. ويعتبر ذلك نهج جديد لوصف الطبيعة الكامنة وراء “المهارات الناعمة”، والتي ربما أُطلق عليها اسم خاطئ: فهي المهارات الأصعب من حيث الفهم والمنهجية، والمهارات التي تمنح، وستظل تمنح، البشر الأفضلية على الروبوتات.
- ترجمة: رجاء الغيثي
- تدقيق علمي ولغوي: عبير ياسين
- المصادر: 1