
التعنيف اللفظي للأطفال يشوه برمجة عقولهم
يوصف التعنيف اللفظي، أو السب، على اختلاف تعريفاته بأنه سلوك متكرر من نقد وتهديد وإعراض عن الطفل بما يجعله يشعر بالخوف أو الملامة أو السفه أو الصغر باستمرار. وهو يختلف عن أن تفقد أعصابك مرة وتقول لأطفالك سوءًا سرعان ما تندم عليه.
أرى -وزملائي- هذا النمط السلوكي يؤثر في نظرة الطفل لنفسه والآخرين والعالم عامة. كيف لا والتعنيف، وإن كان لفظًا، يزيد حدة التوتر والاكتئاب ويفاقم الميل إلى الانتحار وتعاطي المخدرات في المستقبل. أضف إلى ذلك أنه يثبط البالغين عن العلاقات المبنية على الثقة.
وعلى الرغم مما تقدم من عواقب وخيمة للتعنيف اللفظي، نجده ما زال موضوعًا هامشيًا في النقاشات والسياسات العامة. علمًا أن حظره، وسائر مظاهر تعنيف الطفل وإهماله، ليس واجبًا أخلاقيًا فقط، بل ضرورة لنمو صحيح وحياة سليمة.
تغيرات في الدماغ
كنتُ من بين الخبراء الذين جمعتهم جيسيكا بوندي، مؤسسة جمعية “الكلمات تهمّ” الخيرية، في مجلس العموم في أبريل 2025 لمناقشة سبل الوقاية من التعنيف اللفظي في مرحلة الطفولة. وقد أمضيت عقودًا أستخدم تصوير الدماغ لفهم كيف تؤثر المحن والصدمات المبكرة، بما فيها التعنيف اللفظي، في نمو الإنسان.
نعلم اليوم أن التعنيف النفسي، بضمنه الكلام المرهب أو المهين، يغير إدراك دماغ الطفل للعالم واستجابته له أيما تغيير، لأنه يؤثر في عدد من أنظمة الدماغ الأساسية. على سبيل المثال، عندنا نظام استشعار خطر يبقينا آمنين عبر رصد الخطر وتفعيل استجابة له: الكر أو الفر. لكنه يصبح مفرط النشاط إن تعرض الشخص للتعنيف الدائم في صغره، بالفعل أو القول. حتى قد يفسر العلامات الطبيعية تهديدًا، وإن كانت تعبير وجه اعتيادي أو تعليقًا مفيدًا.
بل إن التعنيف اللفظي يؤثّر في بناء علاقات الأطفال بالآخرين. فبينما تُسهم التبادلات اللفظية الحانية -من مدح وثناء وتفهُّم- في تعليم الطفل كيف يؤسس علاقاتٍ آمنة سوية، وتعزز في نفسه قيمة الذات وثقته الاجتماعية. يصد التعنيف اللفظي -وسائر صور العنف في الطفولة- نظام المكافأة في الدماغ، ويضعف استجابته للملذات.
نرى أن هذه التكيّفات الدماغية تغيّر طريقة بناء الطفل المُعَنَّف لعالمه الاجتماعي، فهي تساعده على الصمود في بيئةٍ عدائيةٍ، لكنها تجرّ عليه أثقالًا جسيمة لاحقًا. فتصعب عليه الثقة بالآخرين، وتتعقّد عليه دروب العلاقات، ويشق عليه الإيمان بقيمته وحقه في المحبة الخالصة.
عواقب مدى الحياة
إن تلك الندوب القديمة تغور في النفس عند البلوغ، وتصبح ثقوبًا يُرى العالم من خلالها. فيعاني المرء بهواجسه، وتصعب عليه الثقة بحب الآخرين له. ومن عواقبها الوخيمة أن يعيش الإنسان حلقة مفرغة من التوتر والجفاء في علاقاته الاجتماعية، وتتزعزع علاقاته العاطفية لمخاوف دفينة من الهجر أو الرفض.
إلى جانب عملي البحثي في كلية لندن الجامعية، أتولى منصب الرئيس التنفيذي لمؤسسة “آنا فرويد”، وهي مؤسسة خيرية تهدف إلى تعزيز الصحة النفسية من خلال رعاية قائمة على الأدلة، وبحث حديث، وتدريب مهني، وموارد متاحة للجميع. ولقد شهدت ما يعد فلا يحصى من اليافعين والبالغين الذين يعانون لما تلقوه من رسائل لفظية وهم ناشئون. فاللغة القاسية تعلق بالذهن، لأن أدمغتنا مجبولة على إيلاء المعلومات المهددة والضارة كل اهتمام بغية الحفاظ على حياتنا. ومن البالغين من يقضي حياته يعمل لإثبات بطلان ما سمعه في الصغر من جروح لفظية، ومنهم من يعاني القلق والمعاناة والكآبة بسببها.
إننا في حاجة ماسة إلى فضح آثار التعنيف اللفظي، وأن نُعلِّم الآباء والمربين وكل من في محيط الطفل أن الكلام ليس عابرًا، بل نافذًا إلى النفس وعالقًا فيها. وهذا ليس دعوة إلى غضّ الطرف عن السلوك السيئ، فالطفل بحاجة إلى حدود واضحة وردود فعل صادقة تقوِّمه. لكنه نداء لبناء بيئات في البيت والمدرسة والحي يلقى فيها الطفل الكلمة الرفيقة، والنظرة المشجعة، والرد المحترم.
التعنيف اللفظي ليس جزءًا محتمًا من النمو، بل سلوك يمكن منعه، والعلم واضح في هذا: لا سبيل إلى دماغ سليم ولا نفس معافاة إلا بوأد هذا النوع من العنف. وإن المجتمع كله ليجني الثمرة، إذ ينهض جيل أوثق بنفسه، أنجح في دراسته، أمضى في عمله.
لذا لنحرص أن يسمع الطفل كلمات تقوِّمه، لا صيحات تحطمِّه.
إيمون ماكروري؛ أستاذ علم الأعصاب التنموي والاضطرابات النفسية في كلية لندن الجامعية.
- ترجمة: موسى جعفر
- تدقيق علمي ولغوي: فريال حنا
- المصادر: 1