علماء مجهولين ذوي بشرة سمراء أثبتوا نجاح لقاح شلل الأطفال

في صيف بداية الخمسينات من القرن الماضي، كان العديد من الأطفال الأمريكيين عالقين في منازلهم، لم يسمح الآباء لهم باللعب معًا لأن المجتمع دخل في كابوس يدعى Polio أي شلل الأطفال. عندما يصبح الطقس دافئًا، يبدأ الأطفال عطلهم المدرسية بلهفة لركوب الدراجات أو السكوتر أو اللعب بطائراتهم الورقية وينهونها بالعكازات أو دعامات أو بالرئة الحديدية.

كان مرض الشلل موجودًا في الكتب الدراسية الطبية لعقود، ولكن في صيف بداية القرن العشرين تحول المرض إلى وباء. يمكن للفيروس المسبب للمرض أن يصيب أي شخص، ولكن في الولايات المتحدة تسبب المرض بأسوأ ضرر بين الأطفال دون سن الخامسة ولذلك أطلق على الفايروس اسم شلل الأطفال.

في بداية عام 1953 كان هنالك بصيص أمل بأن الكابوس قد ينتهي. صنع الباحث الطبي جوناس سالك Jonas Salk لقاح الشلل الذي يحفز جهاز المناعة على صنع أجسام مضادة تقاوم الفايروس عند حقنه. بحلول يناير/كانون الثاني من نفس السنة، لقح سالك 161 شخصًا وكانت النتائج تبدو واعدة. موّل عمل سالك من قبل المؤسسة الوطنية لشلل الأطفال (NFIP)، تأسست هذه المنظمة عام 1938 على يد مرضى الفايروس والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، وتطورت هذه المنظمة من منتجع متداعي في مدينة وورم سبرينغز Warm Springs في ولاية جورجيا لتصبح ممولًا رئيسًا للأبحاث عن مرض الشلل بالنسبة للمصابين بهذا المرض. بدأتNFIP، مدعومةً بنتائج سالك الأولية، بالدفع لتلقيح مئات الآلاف من الأطفال في حملتها الواسعة لقهر المرض. ولكن قبل المضي قدمًا، أراد سالك التأكد من أن لقاحه هو المقاربة «الأكثر أمنًا وثقة» من خلال مراقبة قدرة اللقاح على إنتاج عدد كافي من الأجسام المضادة لتحييد الفايروس. في الاختبارات السابقة، حقنت القرود باللقاح ووضعت تحت المراقبة لمعرفة إذا كانت قد أصيبت بالمرض أو أن خلاياها قد تشوهت. كان عدد الحيوانات اللازمة لإجراء الاختبار وآلاف الأطفال أمرٌ مكلف ومرهق للغاية.

لحسن الحظ، وجد الباحثون خلايا فريدة يمكنها المساعدة، تدعى هذه بخلايا هيلا، وهي السلالة الحية من خلايا سرطانية التي أخذت بدون إذن من مريضة ذات بشرة سمراء تدعى هنرييتا لاكس Henrietta Lacks. في السنوات السابقة، وضع جزء من دم المريض في وعاء زجاجي بعد سحبه من مريض ملقح مع خلايا هيلا وجرعة صغيرة من فايروس الشلل. جرت معركة مجهرية ومميتة بوجود تلك العناصر معًا، حاول فايروس الشلل مهاجمة خلايا هيلا، إذا كان هناك عدد مناسب من الأجسام المضادة فإنها تمنع الفايروس من التسبب بأي أذى. يمكن للعلماء مشاهدة خلايا هيلا بسهولة تحت المجهر، إذا بدت الخلايا مشوهة فهذا يعني أن العدد المناسب من الأجسام المضادة لم يكن موجودًا في الدم.

سيحتاج سالك لكمية كبيرة من خلايا هيلا لتقييم لقاحه، وسيحصل على المساعدة ليس من مؤسسة تقليدية قائمة مثل جامعة هارفارد أو جامعة ييل ولكن من كلية صغيرة خاصة بذوي البشرة السمراء والتي اشتهرت بزراعة الفول السوداني.

في عام 1881 أسس المعلم بوكر ت. واشنطن Booker T. Washington معهد توسكيجي Tuskegee Institute بـ30 تلميذًا في داخل مبنى كنيسة قديمة في ولاية ألاباما. كان لدى واشنطن أحلام كبيرة لمدرسته الصغيرة، وتحققت تلك الأحلام، فبعد 50 عامًا فقط زاد عدد الطلاب 100 ضعف، وأصبحت الأمة بأكملها تعرف هذا المعهد من العمل الرائد لعالم النباتات جورج واشنطن كارفر George Washington Carver في زراعة الفول السوداني هناك، ووضع طيارو توسكيجي Tuskegee Airmen خلال الحرب العالمية الثانية، وهو سرب من طيارين ذوي بشرة سمراء، هذا الجزء الخامل من البلد على الخارطة أيضًا.

كان لدى NFIP علاقة قديمة مع معهد توسكيجي، ففي الأربعينيات، موّلت NFIP مركز توسكيجي لشلل الأطفال، والذي لم يدعم فقط علاج مرضى الشلل من السود ولكن درب الطواقم الطبية من السود للعمل في مجتمعاتهم أيضًا، كانت هذه المنشأة الطبية واحدة من المراكز القليلة لعلاج مرض شلل الأطفال التي عالجت الأطفال ذوي البشرة السمراء لأن المستشفيات الأمريكية كانت تمارس سياسة الفصل العنصري، حتى منتجع فرانكلين روزفلت في مدينة وورم سبرينغز لم يستقبل المرضى ذوي البشرة السمراء. في أكتوبر/تشرين الأول لعام 1952، وبالتطلع لإجراء اختبار لقاح شلل الأطفال، طلب مدير الأبحاث في المؤسسة الوطنية لشلل الأطفال هاري ويفر Harry Weaver من راسل دبليو براون Russell W. Brown، مدير الأبحاث في مؤسسة كارفر في معهد توسكيجي لتحويل قاعاته لأول مصنع لخلايا هيلا في العالم. عين براون، الحاصل على الدكتوراه في فسيولوجيا البكتيريا، كمدير للمشروع وساعده جيمس (جيمي) هندرسون James (Jimmy) Henderson، العالم في فيزيولوجيا النباتات. طلب من هؤلاء الرجال ذوي البشرة السمراء خدمة الإنسانية في وقت كانت إنسانيتهم تنكر غالبًا، وليس بالبعيد عنهم، كانت تجرى تجربة توسكيجي عن مرض الزهري السيئة الصيت.

كان كل من براون وهندرسون من العلماء المتميزين، ولكن زراعة خلايا هيلا وتخزينها والمحافظة عليها لم تكن جزءًا من تدريبهم المهني، يكمن هذا النوع من الخبرة في مجال مزدهر يدعى زراعة الأنسجة. تتطلب تجربة لقاح سالك المقترحة 10.000 أنبوبة زجاجية كل أسبوع من معهد توسكيجي. وافق وليام ف. شيرر William F. Scherer، وهو باحثٌ شاب ما بعد الدكتوراه في جامعة مينيسوتا، والذي عمل سابقًا على فايروس شلل الأطفال باستخدام خلايا هيلا وأرشد الطلاب عن هذا الموضوع، على تزويد براون وهندرسون بالمهارات التي يحتاجانها. استقل براون وهندرسون قطارًا في ألاباما في 16 كانون الثاني/يناير 1953، وفي 18 كانون الثاني/يناير 1953 وصلوا إلى مينيسوتا في البرد القارص لمهمتهم الجديدة.

في الخمسينيات كانت مدينتا مينيابوليس وسانت بول في ولاية مينيسوتا تمارسان سياسة الفصل العنصري. لم يكن إيجاد سكن جامعي لهذين الشخصين ذوي البشرة السمراء في عام 1953 أمرًا سهلًا، ولا سيما أن السكن الجامعي كان جديدًا على سياسة السماح للساكنين من البشرة السمراء. توفرت الغرف بالقرب من حافة الحرم الجامعي مما جعل السير إلى المختبر في الطقس القارص أمرًا مزعجًا للغاية. وجد هذان العالمان أن مضيفهم من الغرب الأوسط كان مضيافًا. تحت نجوم سماء مينيسوتا، تعلم براون وهندرسون أساسيات الخلايا وزراعة الأنسجة وصمما مختبر توسكيجي الخاص بهما تحضيرًا للتجديدات التي ستبدأ عند عودتهما. كانوا بحاجة لإجراء دراساتهم بسرعة. مكث براون في مينيسوتا لأربعة أسابيع وبقي هندرسون لمدة أسبوعين. عاد كلاهما إلى ألاباما في فبراير/شباط 1953.

في أبريل/نيسان 1953 توجه شيرر جنوبًا إلى معهد توسكيجي لرؤية المنشأة الجديدة وتسليم حمولة مهمة. احتوى طرده على مواد حساسة لتقلبات درجة الحرارة، وكان شهر نيسان/أبريل أحد الأشهر القليلة التي تكون فيها ولاية مينيسوتا وألاباما ذات مناخين مطابقين. بينما كان الآخرون على متن طائرة شيرر يشربون الكوكتيلات (توقفوا في أثناء تحليقهم فوق الولايات الجافة). كان شيرر يفكر في زجاجة أيضًا – الزجاجة في حقيبته المحمولة احتوت على ما يقارب 30 مليونًا من خلايا هيلا، أضيف سائل إلى تلك الخلايا عند وصوله إلى معهد توسكيجي، والتي غذت بعد ذلك 40 زجاجة أخرى، وبعد أربعة أيام من الحضانة احتوت كل زجاجة من هذه الزجاجات على 30 مليون خلية أخرى، معلنةً بذلك ميلاد مصنع خلايا هيلا في معهد توسكيجي.

نمت الخلايا في خط طويل من الحاضنات داخل مصنع توسكيجي لخلايا هيلا، وقيست في أنابيب زجاجية، وعبأت ثم شحنت إلى أربعة وعشرين مختبرًا طبيًا في جميع أنحاء البلاد. كانت مهمة توسكيجي صعبة على أي مدرسة وخصوصًا مدرسة صغيرة وتعاني من نقص التمويل وتقع في الجنوب الساخن. ماتت خلايا هيلا عندما وصلت درجة الحرارة إلى 105 فهرنهايت، في حين أن تكييف الهواء جعل أشعة الشمس قابلة الاحتمال وأدى إلى الهجرة نحو الجنوب في عشرينيات القرن الماضي. كان مصير هذه الخلايا الموت إذا نقلت في سيارات ساخنة، أو وضعت في الانتظار على مدرجات القلاع الساخنة أو وضعت في أماكن الشحن الساخنة في الطائرات. طلبت قيادة NFIP من ماريا تيلكس Maria Telkes، وهي اختصاصية في الكيمياء الفيزيائية في جامعة نيويورك، للتوصل لحل للتعبئة والحفاظ على برودة الخلايا في أثناء النقل. قامت تيليكس، وهي خبيرة في العزل الحراري، بحساب وتصميم حاوية شحن خاصة تشبه الدمى الروسية. في داخل الحاوية وضع صندوق مغطى بعازل في صندوق آخر، يحتوي الصندوق الداخلي على علبة معدنية مليئة بمادة ديكاهيدرات كبريتات الصوديوم الكيميائية، والتي وضعت فوق الأنابيب الزجاجية لتحافظ على الخلايا من درجات الحرارة العالية. بمجرد وضعها في الصناديق، كان على الخلايا الوصول إلى وجهتها بغضون 96 ساعة. سافر شخص واحد إلى مطارات مونتغمري وألاباما وكولومبوس وجورجيا، للتأكد من أن هذه الطرود لم تفوت رحلاتها.

كان هنالك كثير من الإخفاقات في عملية إنتاج خلايا هيلا. وبخت اتصالات ورسائل من مسؤولي NFIP براون على العينات الملوثة وانخفاض إنتاج الخلايا ووصول الخلايا ميتة. كان براون مضطربًا أيضًا، كتب لقادة NFIP في ديسمبر/كانون الأول (الصورة في الوقت الحالي غير كاملة بشكل واضح)، ولكن واصلت نورما جايلارد Norma Gaillard، المشرفة على زراعة الخلايا في توسكيجي، إدخال تحسينات وابتكرت إجراءً فعالًا اتبعه فريقها من الفنيون بدقة. بحث الفريق بدقة عن مصادر الثلوث وركب مكيفات هواء خاصة للحفاظ على برودة المختبر وأزال آخر بقايا الغبار والرطوبة. مع الوقت والجهد، تجاوز الفنيون أخيرًا حاجز 10.000 أنبوبة زجاجية اللازمة للشحن في غضون أسبوع. في بدايات عام 1954، كان معمل خلايا هيلا جاهزًا ليكون جزءًا من أكبر تجربة في العالم، وكان هذا شيئًا جيدًا لأن الصيف وموسم مرض شلل الأطفال كان على الأبواب.

بدأت التجربة الميدانية للقاح سالك لشلل الأطفال في 14 أبريل/نيسان 1954. كانت هذه التجربة جهدًا لوجستيًا طبيًا على نطاق لم يشهد له مثيل من قبل. وظّفت NFIP العديد من شركات الأدوية لصناعة اللقاح وحشدت جيشًا من 20.000 طبيب و40.000 ممرضة و1.000 متخصص في الصحة العامة و14.000 مدير مدرسة و50.000 معلم و200.000 متطوع لإدارة التلقيح. لقّح ما يقرب من 420.000 طفل بشكل عام، وأُعطيت 200.000 حقنة بديلة، مع 1.2 مليون طفل آخر وضعوا تحت الملاحظة في أثناء الدراسة.

ضمن هذه الحملة الصحية الضخمة، كان هنالك عدد فلكي من خلايا هيلا والتي نشأت داخل 400.000 أنبوبة زجاجية وارسلت من الجنوب. أظهرت هذه الخلايا، التي نشأت من امرأة سوداء وزرعها علماء ذوي بشرة سمراء، الحماية الفاعلة التي طال انتظارها ضد فايروس شلل الأطفال. في النهاية، أعلن مدير مركز تقييم لقاح شلل الأطفال في جامعة ميشيغان توماس فرانسيس جونيور .Thomas Francis Jr. في 12 أبريل/نيسان 1955 أن اللقاح «أمن وفعال وقوي».

حصلت الموافقة على توزيع التطعيم، وبدأت حالات المرض بالانخفاض، وأصبح سالك بطلًا قوميًا، ولكن بقي دور معهد توسكيجي وباحثيه مخفيًا لفترة طويلة من تلاشي الخوف من شلل الأطفال في ذاكرة الأمة.

  • ترجمة: عمران كاظم حسين
  • تدقيق علمي ولغوي: بهاء كاظم
  • المصادر: 1