الحرب الروسية – الأوكرانية تؤدي إلى زيادة اضطراب سلاسل التوريد العالمية

يعدّ غزو روسيا لأوكرانيا، والعقوبات المفروضة عليها، وعمليّات الإغلاق الجديدة المرتبطة بالوباء في الصين، أحدث الأحداث التي هزّت سلاسل التوريد العالميّة. بالإضافة إلى حربِ التجارة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، والاضطرابات المرتبطة بالمناخ والوباء، من المؤكّد تسريع حركة الشركات الغربية لتقليل اعتمادها على الصين في المكوّنات والسلع الأساسية، وعلى روسيا في النقل والمواد الخام، واللجوء إلى مصادر محلّية وإقليميّة. إذا قرّرت الصين دعم روسيا في الصراع الأوكراني، فسيؤدّي ذلك إلى تأجيج تلك الحركة.

في التسعينيّات، اتّبعت الشركات استراتيجيّات مثل الاستعانة بمصادر خارجيّة، النقل إلى الخارج، والتصنيع الرديء لتخفيض الكلفة، الاحتفاظ بمركز السوق، أو اكتساب ميزة تنافسيّة. ظهرت الصّين كَمصنّع رئيسي للأسواق العالميّة، بما فيها الاقتصادات الآسيوية التي بدأت الانفتاح.

بعد أزمات عام 2008 الماليّة، بدأت الأمور بالتغيّر. مع ارتفاع ملحوظ في سعر الزيت عام 2008 والعديد من الكوارث الطبيعية، من وباء السارس في 2003 إلى تسونامي 2011 في اليابان، والفيضانات في تايلاند، أدرك قادة الصناعة أن الاستراتيجيات المتبنّاة في 1990 يمكن أن تزيد من تعرضهم لمشاكل تشغيليّة وتقوّض قدرتهم على الاستجابة بفعاليّة للكوارث الطبيعية. أدّى هذا إلى قيام العديد من الشركات بزيادة التصنيع المحليّ من أجل تقليلِ تعرّضها للمخاطر العالميّة والقدرة على الاستجابة بشكلٍ أسرع لالطلب المحلي.

ومع ذلك ونظرًا لفوائد الاعتماد على الصين والدول الآسيوية الأخرى للصناعة والأسواق المتنامية، لم يكن التغيير جذريًا. في الواقع، بين عامي 2014 و2018، نما الناتج التصنيعي الصيني بنسبة 21% بينما ارتفع الناتج في الولايات المتحدة بنسبة 13% في عام 2019. قبل الوباء مباشرة، شكّلت الصين 28.7% من الناتج الصناعي العالمي، بينما شكّلت الولايات المتحدة 16.8%.

ومع ذلك، ففي السّنوات الأربع الماضية، أدّت الحرب التجارية الصينيّة الأميركية، والاضطرابات الناتجة عن الوباء والتغيّر المناخي إلى ارتفاع وتيرة توطين سلسلة التوريد بشكل كبير. في الواقع، أُجري استطلاعٌ في يناير 2020 على 3000 شركة، بدافعٍ من حرب الصين والولايات المتحدة الأمريكية التجارية، أظهر أنّ الشركات في مجمل الصّناعات -بما في ذلك المواصلات والسيارات والمعدات الطبيّة- قد تحوّلت أو خطّطت لتحويل جزءٍ على الأقل من سلاسل التوريد الخاصّة بها من مواقعها الحالية.

أعلنت الشركات في حوالي نصف جميع القطاعات العالمية في أميركا الشمالية عن نيّتها لإعادة التوطين.

هذا ما يحدثُ بالفعل، ضع في اعتباركَ القرار الأخير الذي اتّخذته شنايدر إلكتريك لبناء ثلاث منشآتِ تصنيع جديدة في أميركا الشمالية، سيكون أحدها في إل باسو، تكساس، وخطّة صانعي السيارات ومصنّعي البطاريات لإنشاء 13 مصنعًا جديدًا لبطاريات السيارات الكهربائية في الولايات المتحدة الأمريكية في السنوات الخمس القادمة. إعلانات مشابهة لذلك كشف عنها في صناعات الطاقة الشمسيّة وأشباه المواصلات والتكنولوجيا الحيوية.

ستعملُ حرب أوكرانيا وارتباطها الوثيق بين الصين وروسيا على تعديل عميقٍ لتبادل الطاقة والمواد الخام والأجزاء الصناعية والسلع بين العالم الغربي والصين وروسيا، وستَعِد بتسريع إعادة التوطين.

مع ارتفاع أسعار النفط والغاز بسبب الحرب، فإنّ تكاليف النقل ستحذو حُذوها. ما هو أقلُّ وضوحًا، ولكنّه مهم بنفس القدر، هو القيود التي فرضتها الحرب على القدرة على استخدام البنى التحتية للنقل لدعم التصنيع في آسيا. في الواقع، قامت العديد من الشركات ببناء المكونات والسّلع النهائية في الصين واستخدام السّكك الحديديّة الروسية لنقل هذه العناصر إلى أوروبا الشّرقية والغربية. بالطّبع فمن الممكنِ شحنُ بعضِ هذه العناصرِ عن طريق الجوّ، لكنّ هذا أغلى بكثير، خاصة الآن، لأنّ شركات الطيران بحاجة إلى المرور عبر روسيا.

بنفس القدر من الأهمية، تزوّد أوكرانيا قرابة 50% من إنتاج غاز النيون في العالم، والذي يُستخدم لإنتاج أشباه الموصلات. تتدافع الحكومات والشّركات الكبرى الآن للحصول على إمدادات بديلة، لكن العرض يتقلّص كلّما زادت الأسعار بشكل كبير. كما تٌعدّ روسيا وأوكرانيا مصدرَيْن رئيسيْن للحبوب، مثل الذرة والشعير والقمح وكذلك الأسمدة. في حين أنّ التأثير الكامل للحرب على الإمدادات الغذائية العالميّة لم يتّضح بعد، لكنّ الأسعار بدأت بالارتفاع.

تعزّز هذه العوامل الاهتمام باستراتيجيات سلسلة التوريد المحلية. الاتفاق الأخير الذي أبرمته شركة الكهرباء الفرنسية (EDF) لشراء جزء من أعمال الطاقة النووية الخاصة بشركة جنرل الكتريك، والذي اشترته جنرال الكتريك من ألستوم في عام 2015، يُجسّد هذا التحوّل من العولمة إلى التوطين. تعملُ فرنسا على زيادةِ اعتمادها على محطّات الطاقة النووية، التي تولّد بالفعل 70% من احتياجاتها من الكهرباء. وقرَّرت أنّها للقيام بذلكَ تحتاجُ إلى تحكّمٍ أفضل في سلسلةِ التوريد الكاملة لمثلِ هذه المصانع. مثالٌ آخر هو، معدّات تصنيعِ الموصلات. منعت الحكومتان الأميركية والهولندية شركة ASML، أكبر منتج في العالم لمعدّات الطباعة الحجريّة المُستخدمة في صناعة الكمبيوتر، بدءًا من بيعِ أجهِزتها الأكثر تقدّمًا إلى الصين.

أخيرًا، سلّط التأثير الكبير المفاجئ لحرب أوكرانيا على تصنيع السيارات الأوروبية، الضوء على المخاطر المرتبطة بسلسة التوريد العالمية الحالية. على سبيل المثال، أغلقت كل من فولكز فاجن، وبي أم دبليو، خطوطِ التجميع في ألمانيا بسبب نقصِ أسلاك التوصيل المصنوعة في أوكرانيا من قِبل شركة ليوني الألمانية. وأعلنت شركة تصنيع الإطارات ميشلان مؤخرًا أنها قد تُغلق بعض المصانع في أوروبا بسبب مشكلة لوجيستية ناتجة عن الغزو الروسي لأوكرانيا. ليس هناك شكّ في أنّ شركات السيارات الأوروبية ستُلقي نظرة فاحصة على المخاطر المرتبطة بالموَرّدين الدوليّين وتفكّر في شراءِ المزيد محلّيًا. حتّى لو تطلّب ذلك زياداتٍ إضافيّة في الأسعار. يمكن أن يوفِّر هذا لأوروبا فرصة لتقوية قطاع التّصنيع الداخلي. ولكن كما لاحظ أحدنا (ديفيد سيميتشي ليفي) وآخرون، فإنّ نهج التّوطين ليس دواءً لكلّ داء. نظرًا لأنّ الصين الآن مصدرٌ مهَيمن، إن لم يكن وحيدًا، لآلاف المكوّنات، فإنّ تقليل الاعتماد عليها في كثيرٍ من الحالات سيستغرق الكثير من الاستثمار والوقت. ومن الأمثلة على ذلك، خطّة إنتل المُعلنة مؤخّرًا لإنفاق 20 مليار دولار لبناء مصنعين للموصلات في أوهايو. لن يبدأ المصنع الأوّل في الإنتاج حتّى عام 2025.

علاوةً على ذلك، لن تكون الصناعة وحدها قادرة على مواجهة تحديات سلسلة التوريد الحالية. على الحكومات أن تتدخل. في الولايات المتحدة، تعمل الحكومات الفدرالية وحكومات الولايات على زيادة الاستثمارات في الموانئ والمطارات والبنية التحتية الأخرى. قانون CHIPS الأميركي (الذي لم يموّله الكونغرس بعد) وقانون CHIPS الأوروبي هما مثالان على جهود الحكومة لتقليل الاعتماد على تايوان وكوريا الجنوبية لأشباه الموصلات. من المرجح أيضًا أن يمنح الصراع في أوكرانيا دفعة لتحالف البطّاريات الأوروبي، الذي شكّله الاتحاد الاوروبي عام 2017 لجعل أوروبا رائدة في صناعة البطاريات المتقدّمة.

إلى أن تحدث استثمارات في البنى التحتية في المناطق المحلية، يجب على الشركات أن تشدّد على اختبار سلاسل التوريد الخاصة بها واتّباع استراتيجيات لجعلها أكثر مرونة في مواجهةِ المخاطر. الشيء الوحيد المؤكّد الآن هو أنّ التحديات التي تواجه سلاسل التوريد العالمية ستزدادُ في المستقبل المنظور.

  • ترجمة: روان عسّاف
  • تدقيق علمي ولغوي: بهاء كاظم
  • المصادر: 1