ماذا تعرف عن أبو علم الأعصاب كاجال، مكتشف الخلايا العصبية؟

الفرح، الحزن والتوتر قبل الامتحان، كلها خليط من سيلات عصبية تنطلق من أماكن مختلفة من جسمك وتتم ترجمتها وإدراكها في تلك النعمة العظيمة ألا وهي الدماغ وخلاياه العصبية.

هل سألت نفسك يومًا من هو الأب الروحي “العرّاب” والمؤسّس الذي كان له الفضل بتفسير أغمض شيء في الكون، وهي الخلايا العصبية؟

مؤسّس علم الأعصاب المعاصر مُكتشف الوحدة الأساسية للجهاز العصبي، «سانتياغو كاجال».

علم الدماغ المعاصر والحديث كما نعلم – بدأ من سانتياغو كاجال الذي أنشأ فكره الإبداعي والمنبثق من ذكريات طفولته التي أمضاها في الريف الإسباني الصناعي.

ساعةً بعد ساعة سنة بعد سنة كاجال يجلس وحيدًا في مختبر منزله حانيًا رأسه وظهره، عيناه السوداوتان تحدقان بالجذع الأسطواني للمجهر -الشيء الوحيد الذي يربطه بالعالم الخارجي-جبهته العريضة وأنفه المعقوف أعطياه مظهرًا مميزًا وبارزًا مظهرٌ ملكيٌ تقريبًا (مظهر السيد النبيل المحترم)على الرغم من أن قمة رأسه كانت صلعاء كالرهبان» .

يقابله جمهور من قناني زجاجية محتشدة بعضها قصيرة وسميكة عريضة والبعض طويلة ونحيفة معبأة بالمساحيق البيضاء والسوائل الملونة.

الكراسات الأخرى مكدسة عاليًا مع المجلات وكتب التدريس بحيث لم يترك مجال لأي شخصٍ أخر بالجلوس، ملطخة بالصبغات والحبر والدم، كان غطاء المائدة مبعثرًا برسومات لأشكال دنيوية وطبيعية بآنٍ واحد .

شرائح شفافة ملونة قد ثُبّت عليها شرائح من الأنسجة العصبية من الحيوانات التي تم التضحية بها والتي لا تزال صمغية بلمسة من العلاجات الكيميائية متناثرة على طاولة العمل.

بواسطة إبهامه اليسار وسبابته، كاجال يعدل زوايا الشّريحة الزجاجية كما لو كان إطارًا لصورة مصغرة تحت عدسة مجهره، بيده اليمنى يغير المقبض النحاسي على الجانب من الأداة متمتمًا لنفسه كما لو أنه رسم الصورة بتركيز، أجسام سوداء بنية اللون تشبه بقع الحبر بزوائد خيطية إشعاعية مجمعة على خلفية صفراء شفافة واضحة، المشهد العجيب للدماغ أخيرًا قد تم الكشف عنه وهو أكثر واقعية مما كان يتخيله!»

«في أخر القرن التاسع عشر أغلب العلماء اعتقدوا بأن الدماغ مكون من تشابك مستمر من الألياف المتشعبة كالمتاهة، كاجال قدم أول دليل واضح بأن الدماغ مكون من خلايا فردية (مفردة) سميت لاحقًا بالخلايا العصبية(عصبونات) التي هي في الواقع نفس التي تتكون منها باقي الكائنات الحية.

اعتقد كاجال بأن العصبونات (الخلايا العصبية) كانت تستخدم في تخزين الانطباعات الفكرية كالأفكار والأحاسيس التي تجمعت لتكون تجربتنا وخبرتنا في الحياة.

كتب كاجال «إن معرفة الدماغ بمثابة الكشف عن المسار المادي للفكر والإرادة».

المثال الأعلى والقدوة لعالم الأحياء هو توضيح لغز الذات.

في بنية العصبونات -اعتقد كاجال أنه قد وجد منزل وبؤرة الوعي والشعور نفسه.

يعتبر كاجال مؤسس علم الأعصاب المعاصر والحديث، والمؤرخون صنفوه بجانب دارون وباستور كواحد من أعظم علماء الأحياء للقرن الـ19 وبين كوبر نيكوس وغاليلو ونيوتن كواحد من أعظم العلماء لكل الأوقات والعصور، تحفته الفنية التي هي تركيب وبنية الجهاز العصبي للفقريات والإنسان كانت اللبنة التي أسست لعلم الأعصاب يمكن مقارنتها بأصل الأنواع للبيولوجيا التطورية.

كاجال كان قد نال جائزة نوبل في ١٩٠٦ لعمله على بنية العصبونات حيث درس هذه العصبونات من مولدهم ونموهم وتراجعهم حتى مماتهم درسهم بإخلاص وشغف وتعامل معهم كالبشر اسماهم (الفراشات الغامضة للروح) التي يومًا ما بضربات أجنحتها ستكشف لنا خفايا وأسرار العقل.

قدم آلاف من الرسومات للعصبونات التي كانت جميلة بقدر تعقيدها والتي لا تزال تُطبَع في كتب تدريس التشريح العصبي وتُعرَض في متاحف الفنّ».

«بعد أكثر من 100 سنة من حصوله على جائزة نوبل نحن مدينون لكاجال لمعرفتنا بما يبدو عليه الجهاز العصبي، حتى أن بعض العلماء قد وشمو رسومات كاجال للخلايا العصبية على أجسادهم، يقول كاجال (الفنانون الحقيقيون هم فقط من ينجذبون للعلم)».

«حقبة جديدة»

«في يوم كاجال، كانت الطريقة الأكثر تقدماً لتصوير الخلايا هي علم الأنسجة وهي عملية معقدة وحسّاسة لصبغ الأنسجة المشرحة بالمواد الكيميائية التي علقت وتشبثت جزيئات هذه المواد بالهيكل والبنية الدقيقة للخلايا جاعلة منها مرئية بأعجوبة من خلال المجهر الضوئي، مع البقع والصبغات البدائية المتاحة.

الباحثون من كافة أنحاء أوروبا حاولوا وفشلوا في توضيح مسألة ما يكمن داخل الدماغ، اعتقدوا بأنه عضو العقل، ثم في عام 1873 في مطبخ شقته في أبيا تغراسو، خارج ميلانو، اكتشف الباحث الإيطالي كاميلو جولجي- عبر مزيج من الحظ والمهارة- تقنية جديدة أحدثت ثورة بعلم التشريح العصبي.

لقد حصلت على نتائج مذهلة وآمل أن افعل الأفضل في المستقبل، غولجي كتب رسالة لصديقه يعلمه بأن طريقته رائعة جدًا لدرجة أنها ستكشف عن بنية النسيج العصبي- حتى للعميان والمكفوفين- أطلق عليه بـ«التفاعل الأسود».

«واحد من طلاب غولجي أدرك الجمال الآخّاذ للتفاعل الأسود والتي تسمح للإنسان العادي بأن يقدر الصورة التي تظهر فيها صورة ظليلة للخلية كما لو أن ليوناردو رسمها، كاجال، كان أول شخص رأى التقنية في منزل زميله الذي عاد مؤخرًا من الدراسة في باريس، كان مغرمًا تمامًا، هناك على الخلفية الصفراء الشفافة تمامًا برزت خيوط ونهايات سوداء مبعثرة ناعمة ورقيقة أو شائكة وسميكة وأيضًا أجسامًا مثلثية سوداء نجمية أو مغزلية الشكل.

قد يظن المرء أنها تصميمات بحبر صيني على ورق شفاف ياباني، هنا كل شيء كان بسيط وواضح وغير مربك، العين المندهشة لا يمكن إزاحتها من هذا التأمل، تقنية الحلم أصبحت حقيقة واقعية.

على الرغم من أن التفاعل الأسود قلل بشكلٍ كبير من عدد العناصر العصبية المرئية على الشريحة المجهرية، إلا أن هذه العناصر كانت لا تزال مكتظة جدًا لدرجة أن أليافها كانت غير قابلة للفصل عن بعضها البعض.

تقليديًا، درس الباحثون الأنسجة العصبية المأخوذة من بشرٍ بالغين ماتوا بشكلٍ طبيعي بعد حياة طبيعية، المشكلة تكمن في الجهاز العصبي للبالغين بأن الألياف العصبية لديهم نمت بشكلٍ كامل فهي معقدة جداً في بنيتها الهيكلية، بحثًا عن حل لهذه المشكلة لجأ كاجال لعلم الأجنة -المعروف باسم تطور الجنين- والذي قرأ عنه للمرة الأولى في كتاب جامعي.

يشرح كاجال: إذا نظرنا للتسلسل الطبيعي في الاتجاه المعاكس فلا يجب علينا أن نتفاجئ عندما نجد أن العديد من التعقيدات الهيكلية للجهاز العصبي قد اختفت تدريجيًا في العينات الأصغر سنًا، من ناحية الأنظمة العصبية تكون أجسام خلايا العصبونات أبسط نظريًا وأليافها أقصر وأقل عددًا والعلاقات فيما بينها سهلة التمييز».

«الجهاز العصبي كان مناسبًا للطريقة الجنينية لأنه مع نمو المحاور العصبية يتطور غمد النخاعين- وهي طبقات عازلة من الدهون والبروتين- والتي تصد البلورات الصغيرة للفضة مانعة الألياف المغمدة بالنخاعين من أن تصطبغ، أما المحاور الأصغر المجردة من غمد النخاعين السميك فإنها تمتص الصبغة بشكلٍ كامل.

بالإضافة إلى ذلك، المحاور العصبية الناضجة والتي أحيانًا تنمو إلى بضعة أقدام أطول، على الأرجح يتم تقطيعها أثناء التقسيم، كتب كاجال: «بما أن الغابة تامّة النموّ لا يمكن اختراقها ولا تحديدها فلماذا لا نعود إلى دراسة الخشب الصغير في مرحلة النمو، كما قد نقول؟»

في عمر ال36 كاجال وجد نفسه يربي البيض (يضعهم في حضانة) تمامًا كما كان يحبّ أن يفعله عندما كان طفلاً، هذه المرة بدلاً من الانتظار لمشاهدة تحوّل كامل لمولود حديث، كاجال قطع قشر البيضة بعد بضعة أيام وأزال الجنين، النسيج الجنيني كان حساسًا للغاية لا يتحمل الضغط من عروة المشرط لهذا أمسك كتلة النسيج بين الإبهام والسبابة بيده اليسار وقطع الشرائح بشفرة حلاقة مطبقاً ما تدرّب عليه كحلاق خلال فترة تلمذته المهنية المكروهة في شبابه بطريقة لم يتوقعها أبدًا.

طالب خاص من طلاب كاجال في برشلونة ممن عملوا معه في المخبر شهد بأن المقاطع المشرحة يدويًا -التي تتراوح سماكتها بين 15-20 ميكرون- كانت مثالية كأنها مقطعة بآلة (يده تعمل كآلة)».

«في أبريل 1888 قام كاجال بتحضير عينات من مخيخ جنين حمامة عمرها 3 أيام عبر المجهر، ثبّت نظره على محور عصبي واضح دقيق وهو ينحني ويتقوس من قاعدته -انتفاخ ناعم مخروطي على جسم الخلية- ثم يتبع الخط الأسود، كما لو كان طفلًا يتبع مجرى النهر، المحور العصبي انحنى ممتدًا جنبًا إلى جنب مع طبقات من الخلايا الموجودة تحته حتى يتفرع.» (يصف المحور من منشأه من جسم الخلية حتى تفرعه)

من وجهة نظر كاجال خلايا بوركينجي في المخيخ المصطبغة بالتفاعل الأسود تشبه الأشجار الأنيقة والمورقة، تتبع كاجال فرعًا من الجسم المركزي للخلايا (الأجاصية الشكل) حتى نهايتها حيث أنه اقترب من باقي الخلايا الأخرى المعروفة باسم الخلايا النجمية كل منها تشكل ما يشبه (السلّة).

على الرغم من الارتباط الوثيق بينهم إلا أن الإجاصة من واحدة من الخلايا لم تلمس (سلة) خلية أخرى.

كاجال، استشعر حقيقة جديدة تجول في عقله: «الخلايا العصبية ذات نهايات حرة، إنها أفراد متميزة».

الغابة المتشابكة

منذ أن بدأ الباحثون بدراسة الجهاز العصبي للمرة الأولى في العصور القديمة كانوا يميلون لمقارنة هيكله وبنيته بالتقنيات المعاصرة والحديثة.

«المصريون القدماء رأوا في القشرة الدماغية مع طياته وتشققاته وتلافيفه مثل (الخبث) المعدن المتبقي من صهر الخام».

«الإغريق القدامى اعتقدوا أن الدماغ يعمل كالمنجنيق».

«اعتقد رينيه ديكارت أن الأرواح الحيوانية تتدفق من الدماغ باتجاه الأعصاب المجوفة والعضلات المنفوخة تماما كانتقال السائل للهيدروليكي عبر الآلات في الحدائق الملكية لمدينة سان جيرمان.»

«في القرن ال19 حقبة جديدة من النقل، عالم التشريح أوتوديترز من بين علماء آخرين تصور أن الجهاز العصبي كالسكة الحديدية مع موصلات وتقاطعات، بحركات مرورية يمكن توجيهها.»

في منتصف القرن ال19، السكك الحديدية المجازية للجهاز العصبي أزاحت الستار عن تقنية تكنولوجية أخرى (التيليغراف).

المدرسة الالمانية للفيزياء البيولوجية الحيوية برئاسة “هيرمان فون هيلمهولتز وإميل دوبوا ريمون” قد قادت المهمة.

قال دوبوا ريمون في خطاب ألقاه عام 1851: «من عجائب زمننا التلغراف الكهربائي كان قبل مدة من الزمن تمامًا كالحيوانات.»

لقد جادل بأن (هناك تشابه بين الجهاز العصبي والتلغراف الكهربائي، كان أعمق بكثير إنه أكثر من تشابه) كتب هو تقارب بين اثنين، اتفاق ليس فقط بالآثار الجانبية لكن ربما بالأسباب».

«بالمقابل، المهندسون والذين صمموا شبكات التلغراف مثل صامويل مورس ووارنر فون سيمنيس، نظروا إلى الجهاز العصبي البيولوجي كنموذج للتنظيم والإدارة المركزية، مع سفر النّاس حول العالم لأول مرة وتواصلهم مع بعضهم البعض حول العالم، أصبح الترابط فكرة اجتماعية.»

«أخيرًا عندما توحدت ألمانيا في عام 1871، شبكة التلغراف الخاصة بها والمتمركزة في برلين والتي تصل لجميع أراضيها أصبحت رمز وأداة ترمز لقوة الإمبراطورية في ذلك الوقت.»

«عالم التشريح الالماني جوزيف فون جيرلاخ -ربما متأثراً بالأسباب المجازية السائدة -نظر للنسيج العصبي من خلال مجهره ورأى تشابك الألياف كالشبكة.

رأى كاجال -الذي تربى في ريف أسبانيا الصناعي- في النظام العصبي الصورة الطبيعية لطفولته.

(هل يوجد في حدائقنا أي شجر أكثر أناقة، مورق أكثر من خلايا بوركينجي في المخيخ، بمعنى آخر، الهرم الدماغي الشهير؟) هو سأل.

«لاحظ كاجال فروع من المحاور على طريقة الطحالب أو اللبلاب على الحائط، أحيانًا مدعومة بجذع حساس قصير كالزهرة.»

«بعد عام، كاجال أرسى مصطلح «ألياف طحلبية» على هذه الألياف التي وجدها تنتهي “بزهيرات” التي تتجه لتشعبات خلايا أخرى لكن لا تلمسها.

«وهناك النهايات العشية والألياف المتسلقة التي تتسلق مثل اللبلاب او الكروم على جذع الشجرة.»

«وفوق كل هذا، الخلايا بدت متصلة كغابة أشجار فارعة الطول، المادة الرمادية السنجابية كانت كالبستان، الخلايا الهرمية كانت موضوعة في بستان معقد لا سبيل للخلاص منه» قال كاجال.

الطريقة الجنينية لدراسة الجهاز العصبي (كما قال) أثناء التفكير في الاختلاف بالتعقيد بين الغابة كاملة النمو والخشب الصغير كانت القشرة الدماغية الوعرة والتي لا يمكن اختراقها، غابة مرعبة مخيفة على غرار تلك الموجودة في كوبا، «يعني ذلك لدراسة الجهاز العصبي يجب دراسة القشرة المخية»

حيث دخل في قتال حرب ال10سنوات.

يعتقد كاجال بقوة الإرادة بأنه يمكن للبشرية أن تحول الغابة المتشابكة للعصبونات إلى حديقة منظمة رائعة، كان كاجال يخاف دائمًا من فكرة أن تخلف البيئة التي كان يعيش فيها قد أعاق نموه الفكري، هو كتب في سيرته الذاتية (أشعر بالأسف أنني لم أرَ النور لأول مرة في مدينة عظيمة).

لكن المشهد المتخلف لطفولته أصبحت أرضًا غنية غذت مفهومًا مختلفًا عن مفهوم معاصريه.

«على الرغم من أنه كان يستعير التلغراف من وقت إلى آخر في خطاب كتبه وقرأه في غيابه في المؤتمر الطبي الدولي عام 1894 في روما، كاجال رفض رفضًا قاطعًا الاستعارة كانت معارضته للموضوع متجذرة في كل من نتائجه التشريحية وملاحظاته العقلية».

قال: «شبكة مستمرة مسبقة التأسيس مثل شبكة أسلاك التغراف حيث لا محطات جديدة ولا خطوط جديدة يمكن أن تُخلَق صلبة لحد معين لا يمكن تغييرها ولا يمكن تعديلها».

قال: «إنه يتعارض مع المفهوم والمصطلح الذي نتمسك به جميعًا عن عضو العقل “الفكر” إنه ضمن حدود معينة مرن وقادر على الوصول للكمال عن طريق التدريبات الذهنية جيدة التوجيه وهنا يقصد به الفكر».

«كان يعلم بمعنى آخر أنه يمكن أن يغير رأيه، هذا هو السبب في أنه لم يستطع تحمل الشبكة التي تم إصلاح بنيتها وهيكلها، الجهاز العصبي يجب أن يكون لديه القدرة على التغيير وهذه القدرة -كاجال يجادل- ضرورية لبقاء الكائن على قيد الحياة.»

«اعتمد كاجال على موسوعة واسعة ومتنوعة من المصطلحات ليعبر عن هذا المفهوم الديناميكية، قوة التمايز الداخلي، تكيف العصبونات مع الظروف البيئية، والأهم من ذلك كله هو المرونة التكيفية.»

  • ترجمة: نغم الحمادي
  • تدقيق علمي ولغوي: حسام عبدالله
  • المصادر: 1