هل الواقع موجود بمعزل عن القياس؟

حسب فيزياء الكم، توجد الجسيمات في العديد من الحالات في آن واحد ريثما نقوم بقياسها. فهل يمكن للواقع أن يعمل بالطريقة نفسها حقًا؟

يُولي التفسير القياسي لميكانيكا الكم الكثير من التركيز لفعل القياس، إذ توجد الأنظمة الكمومية في العديد من الحالات في آن واحد قبل القياس. إلا أنه بعد القياس، يتحول “ينهار” هذا النظام إلى قيمة محددة، لذلك فمن الطبيعي أن نتساءل عما يحدث بالفعل عندما لا تتم هذه القياسات. لا توجد إجابة واضحة، ويمكن أن تكون الأفكار المختلفة في هذا الشأن مثيرة حقًا.

من بين الدروس الأولى التي تعلمها الفيزيائيون عندما شرعوا في دراسة الأنظمة دون الذرية في أوائل القرن العشرين، هو أننا لا نعيش في كون حتمي. بعبارة أخرى، لا يمكننا التنبؤ بنتيجة كل تجربة بدقة.

على سبيل المثال، عند إطلاق حزمة من الإلكترونات عبر مجال مغناطيسي، فسينحني نصفها في اتجاه أول بينما سينحني النصف الآخر في الاتجاه المعاكس. وهكذا باستطاعتنا وضع أوصاف رياضية للمكان الذي تذهب إليه الإلكترونات كمجموعة، لكن لا يمكننا تحديد الاتجاه الذي سيتخذه كل إلكترون حتى نقوم بالتجربة.

في ميكانيكا الكم، يُعرف هذا باسم “مبدأ التراكب”. إن أي تجربة يمكن أن تَخْلُصَ إلى العديد من النتائج العشوائية. إذ قبل إجراء القياس، يكون النظام في حالة تراكب يشمل جميع الحالات الممكنة وفي آن واحد، لكن عندما نقوم بإجراء القياس، فإننا نلاحظ أن النظام “ينهار” إلى حالة واحدة.

وتُمَكِّنُ آليات ميكانيكا الكم المتاحة إضفاء شيء من المنطق على هذه الفوضى. وبدلًا من تقديم تنبؤات دقيقة لكيفية تطور هذا النظام، تُطلعنا ميكانيكا الكم على احتمالية تطور التراكب، الذي يمثل جميع النتائج المتنوعة. كما تخبرنا ميكانيكا الكم باحتمالات الحصول على نتيجة أفضل من أخرى، عندما نقوم بإجراء القياس.

وهكذا فإن ميكانيكا الكم القياسية لا تفسر كيفية عمل هذا التراكب بدقة، والطريقة التي يتسبب بها القياس في انهيار التراكب إلى نتيجة واحدة.

قطّة شرودنغر

إذا تدبرنا في هذا الشأن بتفكير منطقي، سَنَخْلُصُ إلى أن القياس هو أعظم إجراء في هذا الكون. بحيث يحول الاحتمالات التي يشوبها الغموض إلى نتائج ملموسة ويعوض غرابة النظام الكمي بنتائج يمكن التحقق منها، وتفسيرها بحواسنا.

ولكن ماذا تعني الأنظمة الكمومية عندما لا نقيسها؟ كيف يبدو الكون حقًا؟ هل كل شيء موجود ولكننا ببساطة نجهله؟ أم أنه لا يوجد في حالة واضحة المعالم إلى أن نجري القياس؟

من المفارقات العجيبة أن إروين شرودنغر، أحد مؤسسي نظرية الكم (تُفسر معادلته كيفية تطور التراكب في علاقته بالزمن)، انتقد هذا النمط من التفكير، وطور تجربته الفكرية الشهيرة، المعروفة باسم قطّة شرودنغر، لإبراز غرابة ميكانيكا الكم.

على سبيل المثال، خذ هذه النسخة المبسطة للتجربة. ضع قِطة حيةً في الصندوق وأضِف هناك عُنْصُرًا مُشِعًّا يطلق غازًا سامًّا. لا يهم كيفية قيامك بذلك، بل الأهم هو استحضار نوع من عدم اليقين الكمي خلال هذه التجربة. إذا انتظرت لبرهة، فلن تعرف يقينًا ما إذا كان العنصر المشع قد تلاشى أم لا، لذلك لن تُدرك ما إذا كان السم قد انتشر، وبالتالي لا تعرف ما إذا كانت القطة حيةً أم نافقةً.

ووفقًا لميكانيكا الكم، فإن القطة ليست حية ولا نافقة في هذه المرحلة، بل توجد في حالة “تراكب كمي”، أي بين الحياة والنفوق. وستظل كذلك حتى نفتح الصندوق لنقطع الشك باليقين. وسنجد آنذاك أن القطة توجد في حالة دون الأخرى وسينهار بذلك هذا التراكب.

استخدم شرودنغر هذه الحجة للتعبير عن دهشته من أن هذه التجربة قد تكون نظرية متماسكة للكون. فهل نصدق أنه لطالما لم نفتح الصندوق، فإن القطة غير موجودة حقًا، على الأقل بالفهم الطبيعي أن الأشياء دائمًا ما تكون حية أو ميتة، وليس كلاهما في الوقت نفسه؟ وأدرك شرودنغر أن هذا الأمر صعب المنال، وتوقف عن العمل على ميكانيكا الكم بعد ذلك بوقت قصير.

إزالة الترابط الكمي

أحد الردود على هذه الحالة الغريبة هو الإشارة إلى أن العالم المرئي لا يخضع لميكانيكا الكم. عمومًا، طُوِّرت نظرية الكم لتفسير العالم دون الذري. قبل إجراء التجارب التي كشفت عن كيفية عمل الذرات، لم نكن بحاجة إلى التراكب أو الاحتمالات أو القياس أو غيرها من الأمور المتعلقة بالكم، بل كانت لدينا الفيزياء الطبيعية.

ليس من المنطقي إسقاط قواعد الكم حيث لا يستقيم ذلك. لذلك اقترح نيلز بور، أحد مؤسسي ميكانيكا الكم، مفهوم “إزالة الترابط الكمي” لإيضاح أسباب خضوع الأنظمة دون الذرية لميكانيكا الكم، في حين أن الأنظمة المرئية يتعذر عليها ذلك.

واستنادًا إلى هذا الفهم، فإن منطق ميكانيكا الكم صحيح ومتكامل فيما يتعلق بالأنظمة دون الذرية. بعبارة أخرى، إن أمورًا مثل “التراكب” تنطبق بالفعل على الجسيمات الدقيقة، لكن الأمر يختلف بالتأكيد عندما نطبقه على “القط في الصندوق”، كونه ليس نظامًا دون ذري؛ إذ أن جسم القط مكون من تريليونات الجسيمات الفردية التي تكون في حالة تذبذب وتصادم وتدافع مستمرة.

في حالة اصطدام اثنين من هذه الجسيمات ببعضهما البعض وحدوث التفاعل، يمكن اللجوء إلى ميكانيكا الكم لفهم ما يحدث. ولكن في حالة وجود مزيج يتضمن آلافًا أو مليارات أو تريليونات من الجسيمات، تفشل ميكانيكا الكم في التفسير، وتأخذ الفيزياء العيانية العادية زمام الأمور. وعليه، فإن إلكترون واحد يمكن أن يوجد وحده في الصندوق في حالة تراكب غريب وليس قط.

أخيرًا، إن ميكانيكا الكم قاصرة بطبيعتها، إذ ليس هناك آلية معروفة تمكن من ترجمة ميكانيكا الكم إلى الفيزياء العيانية، ولا يمكننا تسمية مقياس أو موقف معين يحدث فيه هذا التحول. لذلك، على الرغم من أنه يبدو مثيرًا على المستوى النظري، إلا أن هذا النموذج من “إزالة الترابط الكمي” لا يحظى بالكثير من الدعم.

فهل الواقع موجود عندما لا نقوم بالتجربة؟ الجواب النهائي هو: إنها مسألة تفسير.

  • ترجمة: سليمان العبدلاوي
  • تدقيق علمي ولغوي: نور الحاج علي
  • المصادر: 1