نعم يا سادة، فالعازبون أيضًا يتمتّعون بالصحّة والسعادة

ارمِ معتقداتك السابقة عن العزوبية وراء ظهرك، اجلس وتأمل كيف تنضج قدراتك على المشاركة الفعّالة في قَدْرِ العزوبية على نار الإعداد.

وفقًا لما أشار إليه مركز بيو للأبحاث، فإن معظم الأفراد اليوم أكثر ميلًا للعيش بمفردهم مقارنةً بالسنوات السابقة، حيث ارتفعت نسبة العازبين من البالغين في الولايات المتحدة الأمريكية إلى 40% تقريبًا عمّا كانت عليه عام 1990 بنسبة 29% ونصفهم غير مهتمٍّ بالانخراط في أي علاقة.

وها هي Bella Depaulo البالغة من العمر 69 عامًا والقاطنة في Santa Barbara في ولاية كاليفورنيا، عاشت حياتها كاملةً وهي عزباء، ولسنواتٍ كانت تعتقد بأنها وفي نهاية المطاف لا بُدَّ أن تتزوج أو تنخرط في علاقة طويلة الأمد، إلا أنها أدركت فيما بعد أن عزوبيتها هي أفضل أقدار حياتها، وقالت Depaulo: “طوال حياتي لم أسمع قط أن عازبًا يستمتع بعزوبيته ويرغب في أن يبقى عازبًا. ولكنني حالما تفهّمت أن العزوبية قَدَري وأنّ هذا القَدَر لن يتغير أبدًا بدأت السعادة تملأ حياتي”، كما وصفت الوحدة التي تعيشها من الناحية النفسية على أنها حياةٌ واقعية مترفة مليئة بالإنجاز والمعنى، وهي أخصائية في علم النفس الاجتماعي ومؤلّفة للعديد من الكتب نذكر منها كتاب:

(Singled Out: How Singles Are Stereotyped, Stigmatized, and Ignored, and Still Live Happily Ever After/ رغم التمييز، وما يتعرضون له من قولبة وتنديد وتهميش، كيف للعازبين بعد كل هذا مواصلة حياتهم بسعادة).

وكتاب:

(Alone: The Badass Psychology of People Who Like Being Alone/ وحيداً: علم نفس الشخصيات سيّئة المزاج حول بقائهم بمفردهم).

إلاَّ أنَّ الباحثين قد بدأوا يحيطون بكافة جوانب العزوبية إحاطةً كاملةً، بما في ذلك: (من هم الدعاة إليها؟ ولماذا؟ وما هي صعوباتها وميزاتها؟ وما تأثيرها على صحة الفرد وسعادته؟) ولسنواتٍ مضت، نادرًا ما خضعت العزوبية للدراسة والبحث، ولكن ما السبب وراء ذلك؟ يجيبنا عن هذا السؤال أستاذ علم النفس في جامعة تورنتو والمتخصص في العلاقات والعزوبية Geoff MacDonald قائلًا: “إنه وإلى حدّ ما ربما يكون ذلك بسبب خضوع العلم لقيم المجتمع ومعاييره، ونحن صدقنا جميع ما نسجه المجتمع من رواياتٍ حول العازبين، والتي غالبًا ما كان أساسها دوافع متجذّرة في المجتمع سوّغت إلحاق الظلم بالعازبين وإساءة معاملتهم”.

ولكن تلك النظرة للعازبين بدأت تتغير، فمنذ عقود بدأ معدل الزواج بالانخفاض وعمد الراغبون في الزواج إلى تأجيل هذه الخطوة لمرحلةٍ متأخرة من حياتهم، حيث لم يعد يُنظر للزواج على أنه أمرٌ ضروري لبناء الأسرة أو تحقيق الرفاهية المالية، بل بات الآن يمثّل فقط طريقًا واحدًا من بين عشرات الطرق التي تمضي بنا نحو السعادة.

وعلى العموم، يخبرنا Macdonald بأن الأدلة المتوفرة بين أيدينا تُظهِر أنّ الأشخاص الذين في علاقة غرامية ينالون قسطًا أكبر من السعادة مقارنةً بالعازبين، فهم عادةً ما يكونون أكثر سعادة ويحققون مستوياتٍ أعلى من الرضا عن حياتهم. وعلى الرغم من ذلك فإنّ الزواج بحد ذاته لا يضمن السعادة، حيث تشير الأدلة إلى أن معظم الأشخاص السعداء هم الذين يختارون أن يستقلّوا قطار الزواج، وتحكم تلك السِّكَّة عدّة منعطفات. فعلى سبيل المثال، قد نجد بعض العازبين وهم في قمة السعادة مقابل التعاسة التي تخيّم على حياة بعض المتزوجين. وقد وجدت دراسة أنّ نتائج الاختبارات الصحية لدى الأشخاص التعساء في زواجهم كانت مساوية بل وأحيانًا أسوأ من نتائج العازبين الذين لم يتزوجوا قط.

ويجب ألّا نغفل عن توضيح أمرٍ هام وهو أنّ: (العازبين الذين مرّوا بأوقاتٍ عصيبة تتعلق بوضعهم الاجتماعي غالبًا ما ينتهي بهم المطاف بعد زواجهم بالطلاق). وعادةً ما تتجاهل الأبحاث حقيقة كون حوالي 39% من حالات الزواج تنتهي بالطلاق. ويضيف Macdonald: “تشير الأدلة أنّه عندما يتم اتخاذ القرار بالطلاق فإن ذلك القرار يخلّف وراءه آثارًا سلبيةً مستمرةً”. وبالإضافة لذلك، فقد تم اعتبار حالة التَّرَمُّل مصاحبةً لتدهور الصحّة النفسية ومن شأنها أن تتسبب بالحزن وظهور أعراض الاكتئاب والشعور بالوحدة.

وبالاستناد إلى ما تمليه علينا معطيات العلوم الحديثة عن العزوبية، نعرض فيما يلي بعض أشهر الأفكار المثيرة للاهتمام التي كشف الباحثون الغطاء عنها.

يفضّل الأشخاص العزوبية للعديد من الأسباب:

يقول Elyakim Kislev، عضو الهيئة التدريسية للجامعة العبرانية في القُدْس العربيَّة ومؤلف عدة كتب من بينها كتاب “Happy Singlehood / العزوبية السعيدة” أنّ الأشخاص الذين يقضون فترةً طويلة من أعمارهم عازبين عادةً ما تجمعهم قيَم مشتركة، فهؤلاء الأشخاص هم من يُقَدِّرون أكثر من غيرهم قيم الحرية والاستقلالية بل وحتى الإبداع والتفرّد حقّ التقدير “.

والأبحاث تؤكد ذلك، ففي دراسة بحثية نُشرت عام 2022 تم فيها استطلاع آراء مئات الرجال والنساء حول السِّر الكامن وراء سحر حياة العزوبية، قام المشاركون بتصنيف المزايا التالية: (كامتلاك وقتٍ أكبر لأنفسهم، وقدرتهم في التركيز على أهدافهم، وعدم وجود من يُملي عليهم ما يقومون به على رأس الهرم).

وفي دراسةٍ بحثيّة أخرى شارك فيها MacDonald تمركزت حول أهم الأولويات لدى العازبين أشارت نتائجها بأنّهم: (يهتمّون بصحّتهم النفسيّة والجسديّة وبتوطيد روابط عائليّة قويّة، أمّا فيما يخص الجنس والعلاقات الغرامية فقد صُنفت لتكون في أدنى أولويات المشاركين بالدراسة).

وأشارت دراسةٌ مكمّلة إلى وجود صفاتٍ معيّنة من شأنها أن تجعل العزوبية أمرًا فطريًّا، ونذكر من ضمنها: (الحياة الجنسيّة الاجتماعية -أي الرغبة في الحصول على الجنس خارج نطاق العلاقة المشروعة-، وكذلك الانغماس التام في العمل وبالأخص لدى الشابّات).

وتقول أخصائية علم النفس الاجتماعي والعازبة السعيدة Depaulo: “بعض الناس لا يرغبون أن تتمحور حياتهم فقط حول الشريك، هم يريدون أن يستثمروا حريّتهم ليؤسسوا حياتهم الخاصّة”.

 إن التركيز على الدخول بعلاقة غير متاحة حاليًّا، يرتبط بانخفاض الرضا عن الحياة:

يعتقد بعض الأشخاص أنّ العلاقة الغرامية هي جوهرٌ لسعادتهم ورفاهيتهم، في حين يجد آخرون المتعة والرضا من دون شريك الحياة، والذين ينتمون للفريق الثاني هم عادةً ما يحققون نجاحاتٍ أكبر. ويقول Kislev: “إنّ الرغبة بوجود علاقة دليلٌ يؤكّد إلى حدٍّ بعيد وجود الهوّة بين حقيقة الشخص ورغباته، بالإضافةِ إلى أنّ الأشخاص الذين يصبّون جُلّ تركيزهم على الأشياء التي يفتقدونها غالبًا ما ينتهي بهم المطاف نحو التعاسة، فيقعون بتجربة سلسلةٍ من العلاقات الفاشلة التي تدور في حلقة مفرغة”.

ويشير بحثه إلى أنّه كلّما ازدادت رغبة الفرد بالدخول في أيّ علاقة، كلما قلَّ مستوى رضاه عن حياته.

ما الذي ينبغي على العازب الذي تتوق نفسه للحبّ أن يفعل إذًا؟

يخبرنا Kislev بأنّ الحل يكمن في السعي لخلق كافّة السبل التي تجعلك تستمتع بوضعك الاجتماعي الراهن. فحتى لو كنت في نهاية الأمر ستقدم على الزواج بناءً على رغباتك أنت وليس رغبات والديك مثلًا، استمتع بما تقدمه لك العزوبية من مزايا. وكذلك فمن شأن الانهماك المنتظم بممارسة الهوايات ونشاطات العناية بالنفس أن تعزز ثقتك بنفسك والرضا المجمل عن حياتك. كما يمكن خلق غايةٍ ومعنى لحياتك عبر المساهمة بالأعمال التطوعيّة أو اتّباع شغفك في أداء عملٍ ما.

الوحدة لا تعني العزلة:

يبين Kislev أنّ حياة المتزوجين غالبًا ما تتمركز حول أزواجهم وعائلاتهم، أو ما يطلق عليه الباحثون اسم (الزواج الأناني)، وكنتيجةٍ لذلك فإنّ “المتزوجين -وخاصّةً الرجال- قد يخسرون أصدقاءهم مع مرور الوقت لينتهي بهم المطاف وهم يعانون من الوحدة في باقي أيّام حياتهم”.

ومن ناحيةٍ أخرى، نجد العازبين يحظون بروابط اجتماعيّة أقوى والتي اتفق الباحثون على كونها (حجر أساس السعادة). حيث تشير الدراسة البحثية إلى أنّ العازبين هم أكثر تواصلًا ودعمًا لوالديهم وإخوانهم وغالبًا ما يتمتعون بصداقاتٍ أكثر من الأشخاص المتزوجين حاليًّا أو سبق وأن تزوجوا. كما وأنّ العازبين هم أكثر تواصلًا مع أصدقائهم الذين يدعمونهم ويستمدون الدعم منهم.

ولا يعيش جميع العازبين بمفردهم، حيث وجد علماء الاجتماع بأن العازبين عادةً ما يشاركون بشكل فعّال في تسيير شؤون مدنهم وأحيائهم. وتقول Depaulo: “العازبون لا يقضون جُلَّ أوقاتهم داخل المنزل كغالبيّة المتزوجين، بل يخرجون ويتعرفون على من حولهم”. وقد وجدت دراسة بأن الأشخاص الذين يتشاركون العيش مع غيرهم لا الذين يعيشون بمفردهم هم من يشعرون بالوحدة بشكلٍ أكبر.

وقد أجرى kislev دراسةً حول العلاقة ما بين الشعور بالوحدة والحالة الاجتماعية للفرد في سن الشيخوخة، وقد أظهرت نتائج هذه الدراسة أنّ كبار السن من المتزوجين هم أقل الفئات شعورًا بالوحدة ويليهم العازبين، كما وأن مستوى الشعور بالوحدة لدى كلا الفئتين السابقتين كان أقلّ منه بالنسبة للأرامل أو المطلقين أو المنفصلين. ويقول Kislev: “إنّ نتائج البحث قد بيّنت أنّ الأشخاص الذين طالت عزوبيتهم قد حققوا روابط اجتماعية قوية واكتفاء ذاتي ومعنى لوجودهم خلال رحلة حياتهم”.

 العازبون الراضون عن حياتهم الجنسية هم الأكثر سعادة:

سل أيّ شخصٍ متزوج عن حياة العازبين الجنسية وستجد إجابته أقرب للخيال والأوهام منها إلى الواقع. ويقول MacDonald: “توجدُ فرضيّةٌ تدّعي أنّ العازبين يحظون بفرصٍ جنسية مليئة بالتنوع والاكتشاف. إلا أنّ معطياتنا تشير بوضوحٍ تام إلى أنّ الأشخاص يستمتعون بحياتهم الجنسية عند انخراطهم في علاقةٍ عاطفية على نحوٍ أكبر من كونهم عازبين، وهذا يبدو منطقيًا جدًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار عنصر الارتياح بين الطرفين”.

ومع ذلك يشير بحث MacDonald إلى أنّ مدى سعادة العازبين بحياتهم الجنسية تخبرنا عن درجة رضاهم بوضعهم الاجتماعي. فالأشخاص الذين حققوا مستوياتٍ عالية من الإشباع الجنسي عادةً ما تكون رغبتهم في الزواج أقل وإيمانهم أقوى بقدرة العازبين على نيل السعادة.

يزداد الرضا عن حياة العزوبية في سنّ الأربعين:

شاعَ اعتقادٌ خاطئٌ بأنّ كبار السنّ من العازبين هم الأقل سعادة بوضعهم الاجتماعي. ولكن في الواقع، يشير بحث MacDonald إلى أنّه في بداية الأربعينات من العمر يزداد رضا العازبين عن عزوبيتهم. وذلك يرجع لسببين كما يقول. “الأوّل” (أنه وفي الوقت الذي وصلوا فيه لمنتصف العمر فإن العديد من الأشخاص سيكونون قد سلكوا بالفعل الطريق الذي يطمحون إليه، فالذي كان يطمح للدخول في علاقة عاطفية سيكون غالبًا قد وصل إلى مبتغاه، وبالتالي فإن العازبين التعساء بعزوبيتهم سيكونون قد خرجوا من دائرة العزوبية)، و”الثاني” (أنّ السعادة عادةً ما تزداد بعد منتصف العمر فيفقد الارتباط كونه حدثًا استثنائيًا مقارنةً بالعزوبية).

ويستمر الرفض المجتمعي للعازبين، وما يخلّفه من أضرار:

حتى يومنا هذا ومع ازدياد الأشخاص الراغبين في أسلوب الحياة الفردي، لازالت تلك النظرة للعازبين محفوفة بالخزي والعار. فقد وجدت دراسة أُجريَت عام 2020 أنّ إلحاق الضرر بالعازبين يعتبر أمرًا مقبولاً إذا ما تمّت مقارنته بالضرر الذي يستهدف بعض الجنسيات أو المجموعات التي تحمل توجهات جنسية معينة، والذي يتضح لنا جليًّا إذا ضربنا مثالًا لمالك عقار يخبرنا وبكلّ صراحة أنه يفضل أن يؤجّر شقته للمتزوجين بدل العازبين. إنّ مصطلح (Singlism/ أو التعامل المجحف بحق العازبين) قد يترجم أحد معانيه من خلال إقصاء العازبين عن المناسبات الاجتماعية وممارسة الضغط عليهم ليتّجهوا نحو “الاستقرار” أو اختلاق فرضيّات تنسب إليهم كوجود نقصٍ معيّنٍ فيهم يمنعهم من العثور على شريكٍ لحياتهم.

ويشير Kislev إلى دراسة بحثية طُلب فيها من طلاب المرحلة الجامعية الأولى أن يكتبوا قائمة بالصفات المرتبطة بالمتزوجين وكذلك العازبين. وقد تم وصف المتزوجين بصفاتٍ نذكر منها: (ناضجين، سعداء، لطيفين، صادقين، ودودين). بينما نُسبت إلى العازبين الصفات المناقضة التالية: (غير ناضجين، عديمي الثقة بأنفسهم، أنانيين، تعساء، منعزلين، بل وحتى مذمومين). ويضيف kislev قائلًا: “لا زال العديد من الناس ينظرون للعزوبية على أنّها مرحلةٌ انتقاليّة من شأنها أن تنتهي بالدّخول في علاقةٍ عاطفيّة وأنّها أفضل ثاني (خَيَارٍ أو فشلٍ) في العثور على شريكٍ للحياة”.

وتخبرنا Depaulo قائلةً: (في الحقيقة لا يوجد تعريفٌ واحدٌ فقط للسعادة المطلقة يصلح أن يُعمَّم على الجميع، ولكن باستطاعتك أن تبلغ تلك المرحلة وحدك. وتخاطب كل عازب أرهقته معتقدات الناس عنه، عِش عزوبيتك بكل طاقتك، بكل سعادتك، ومن غير أن تقدّم أي مبررات. فمن يتسبب بإلحاق الأذى بك هو من يجب أن يخجل من فعلته، لا أنت “.

  • ترجمة: آلاء نوفلي
  • تدقيق علمي ولغوي: روان نيوف
  • المصادر: 1