ثمار العقل: كيف تمكن عقل عالم واحد من بناء حضارة بشكل غير متوقع؟

أول إنجازات آينشتاين الرئيسية جاءت في عام 1905 عندما نشر أربعة ورقات مبتكرة، بما في ذلك اكتماله للنظرية الخاصة للنسبية. وبعدَ عشر سنوات، قام بتوسيع تلك النظرية لتشمل الجاذبية، مما أدى إلى إسقاط فيزياء نيوتن وإعادة تعريف فكرتنا عن الفضاء والزمن. وقد أطلق ذلك خيوطاً جديدة من الأبحاث التي يواصل العلماء استكشافها، وجعلت من صاحبها نجماً. على مدار القرن الماضي، تداخلت أفكار آينشتاين مع الثقافة والفن وشكلت عالمنا بطرق لا نهائية ولا تُنسى.

قال ألبرت أينشتاين ذات مرة: “إن هناك شيئان فقط يمكن أن يكونا غير محدودين: الكون وغباء الإنسان.” واعترف بأنه لم يكن متأكداً من الكون. عندما نسمع ذلك، نضحك. أو على الأقل نبتسم، لا نستاء. السبب في ذلك هو أن اسم “أينشتاين” يثير صورة لشخص حكيم يحمل القلب الدافئ من العصر السابق. نرى عبقري العلوم الذي يتميز باللين، والطيبة، وشعره المجنون والذي يتزين به صوره الأيقونية -يركب دراجة، يخرج لسانه، ينظر إلينا بتلك العيون الحادة- محرزاً مكانة بارزة في ذاكرتنا الثقافية المشتركة. أصبح أينشتاين يرمز لنقاء وقوة استكشاف العقل.

انتشرت شهرة آينشتاين داخل المجتمع العلمي عام 1905، والذي أُطلق عليه “عام آينشتاين المدهش” خلال عمله بمكتب براءات الاختراع السويسري في برن، حيث كان يعمل ثماني ساعات يومياً لمدة ستة أيام في الأسبوع، كتب أربعة أوراق علمية في وقت فراغه، تغير مسار الفيزياء. في مارس من ذلك العام، جادل بأن الضوء الذي وصف طويلاً بأنه موجة، يتكون في الواقع من جسيمات تسمى الفوتونات، وهي ملاحظة أطلقت عنان الفيزياء الكمية.

وبعد شهرين، في مايو، قدم حساباته التي تتنبأ بفرضيات قابلة للإختبار حول الفرضية الذرية، والتي تم تأكيدها لاحقاً تجريبياً، وأكد أن المادة مكونة من الذرات. في يونيو أكمل نظرية النسبية الخاصة، مكتشفاً أن الزمان والمكان يتصرفان بطرق مذهلة لم يسبق لأحد التنبؤ بها، وباختصار، أن الأبعاد، والسرعات، والمدد كلها نسبية تبعًا للمراقب. ولبذلها، في سبتمبر 1905، استنتج آينشتاين نتيجةً للنظرية النسبية الخاصة، وهي معادلة أصبحت الأشهر في العالم: E=mC^2.

عادةً تتقدم العلوم تقدماً تدريجياً، وقليلة هي المساهمات التي توجه الإنذار العلمي بأن ثورة راديكالية في الأفق. ولكن هنا، في هذا العام، دق هذا الرجل الجرس أربعَ مرات، مما يعد إنتاجًا مذهلاً للبصيرة الإبداعية. وبعد وقت قصير جداً وبشكل متزايد، بدأ النظام العلمي في الشعور بأن ترددات العمل الآينشتاينية تقوم بتحويل فهم الواقع. ولكن بالنسبة للجمهور الواسع، وسيتغير ذلك في 6 نوفمبر 1919،

في النظرية النسبية الخاصة، أسس آينشتاين أنه لا يمكن لشيء أن يسافر بسرعة أسرع من سرعة الضوء. وبهذا دخلت المسرح العلمي بمواجهة مع نظرية الجاذبية لنيوتن، التي تقر بأن تأثير الجاذبية عبر الفضاء يكون مباشر. مدفوعاً بهذا التناقض القادم، سعى آينشتاين بجسارة لإعادة صياغة قواعد الجاذبية الخاصة بنيوتن والتي تعود إلى قرون مضت، وهذه المهمة صعبة حتى بالنسبة لأشد مؤيديه الذين يعتبرونها بإطراد بالمحال. وشدد ماكس بلانك، عميد العلم الألماني، ”بوصفه صديقًا كبيراً، يجب أن أنصحك ضدها…. لن تنجح، وحتى لو نجحت، لا أحد سيصدقك.” وكان آينشتاين لا يرضى بالاستسلام للسلطة، فاستمر في ذلك لمدة تقارب عقداً من الزمان.

في النهاية، في عام 1915، أعلن أينشتاين نظريته العامة للنسبية، التي قدمت إعادة صياغة عميقة للجاذبية في سياق فكرة جديدة مذهلة: التشوهات والمنحنيات في الفضاء والوقت. بدلاً من أن يمسك الأرض الكوب الذي ينزل من يدك ويسحبه إلى هلاك لا مفر منه على الأرض، فإن النسبية العامة تقول إن الكوكب يثني البيئة المحيطة به، مما يتسبب في انزلاق الكوب على مزلجة الزمكان التي يوجهها إلى الأرض. أعلن أينشتاين أن الجاذبية تمت طباعتها في هندسة الكون.

خلال مائة عام منذ اقترح آينشتاين النظرية، قام الفيزيائيون والمؤرخون بتجميع قصة منطقية، إذا ما كانت معقدة، لنشأتها أنظر لكتاب “كيف أعاد أينشتاين ابتكار الواقع”، للكاتب والتر آيزاكسون. في بعض كتاباتي العامة، استمتعت بإعادة تتبع صعود أينشتاين، بعيداً عن فك الألغاز حول النزعات الإبداعية لآينشتاين، فإن النظر إلى عملية ابتكاره يضيف فقط المزيد من السحر إلى الجديد المذهل والجمال الساحر للإقتراح.

في 6 نوفمبر 1919، أربع سنوات من إنهاء آينشتاين النظرية العامة للنسبية، صاحبت الصحف العالمية أخباراً تؤكد باستثنائية قياسات فلكية حديثة أن مواقع النجوم في السماء كانت مختلفة قليلاً عما كانت ستكون وفقًا لقوانين نيوتن، تماماً كما توقع أينشتاين. أكدت النتائج النظرية بنجاح ووصلت أينشتاين إلى صدارة الصفحات على الفور. أصبح الرجل الذي أطاح بنيوتن والذي، في العملية، قرّبنا بأرجاء الوجود إلى حقائق الطبيعة الخالدة.

علاوة على ذلك، جعل آينشتاين نصفه المنشود. بينما كان يتمتع بالضوء المسلط عليه ويعرب عن رغبته الشديدة في الانعزال، كان يعلم كيف يشد انتباه العالم بسيطرته الغامضة والمهمة. كان ينطق بعبارات فطرية (أنا مُسالِم عسكري) ويؤدي ببهجة الدور العام للعبقري المفتون. في العرض الأول لفيلم أضواء المدينة، بينما كانت الكاميرات تومض على السجادة الحمراء، همس تشارلي تشابلن إلى آينشتاين شيئاً، قائلاً: “يصفق لي الناس لأن الجميع يفهمني، ويصفقون لك لأنه لا يفهمك أحد”. وكانت شُخصية آينشتاين بمثابة الدور الرائع. واحتضنه الجمهور العريض بقلوبهم بعدما تعبوا من الحرب العالمية الأولى.

وبينما كان آينشتاين يجوب المجتمع، بدت فكرته حول النسبية -على الأقل الإصدار الذي تم الإعلان عنه على نطاق واسع- تتفاعل مع الاضطرابات الثقافية الأخرى. كان جيمس جويس وتي. أس. إليوت يفككان الجملة. كان بابلو بيكاسو ومارسل دوشام يحطمان القماش. كان أرنولد شونبرج وإغور سترافينسكي يكسران المقياس. كان آينشتاين يقوم بتحرير الفضاء والزمن من نماذج الواقع القديمة.

لكن هناك من ذهب بعيداً، يصور آينشتاين كالإلهام المركزي للحركة المتطرفة في القرن العشرين، ووحيد النبع العلمي الذي أدى إلى إعادة النظر الثقافية. من المثير للرومانسية الاعتقاد بأن حقائق الطبيعة أثارت موجة مدّت بعيداً عن الأفكار المترسبة لترسّخ الثقافات، ولكني لم أرَ دليلاً مقنعاً يعزو هذه الاضطرابات لعلوم آينشتاين. وبشكل غريب، فإن تفسيراً شائعاً خاطئاً للنسبية وهو: إزالة الحقيقة الموضوعية قد أدى إلى إستناد آينشتاين لنظرياته في المجال الثقافي بشكل غير مبرر.

وعلى الرغم من ذلك، فإن آينشتاين نفسه كان له ذوقٌ تقليدي: إذ ان حبه لباخ وموزارت كان أوفى من اهتمامه بالملحنين الحديثين، ورفض هدية أثاث الباوهاوس الجديد لصالح ديكور تقليدي بالفعل. يمكننا القول بأن العديد من الأفكار الثورية كانت تطفو على السطح في بداية القرن العشرين، وتم خلطها بالتأكيد. وبالتأكيد، كان آينشتاين مثالاً رئيسياً على كيفية كسر الافتراضات المستمرة، يمكن أن يكشف مناظر رائعة جديدة. قبل قرن، لا تزال المناظر الطبيعية التي كشف عنها ألبرت أينشتاين حية وخصبة بشكل ملحوظ. أعطت نظرية النسبية العامة التي ولدت في عقد 1920 إلى علم الفلك الحديث، وهو دراسة أصل وتطور الكون بأكمله.

استخدم الرياضي الروسي ألكسندر فريدمان والفيزيائي البلجيكي الكاهن جورج لومايتر بشكل مستقل معادلات آينشتاين لإظهار أن الفضاء يجب أن يتمدد. عارض آينشتاين هذا الاستنتاج وحتى عدل المعادلات بادخال “الثابت الكوني” سيئ السمعة لضمان كون ثابت.

لكن الملاحظات التالية لإدوين هابل التي أظهرت أن المجرات البعيدة تتسارع جميعها اقنعت آينشتاين بالعودة إلى معادلاته الأصلية وقبول الفرضية التي تتمدد فيها الفضاء. إثبات توسع الكون اليوم لأن الكون كان أصغر في الماضي، مما يعني أن الكون نشأ نتيجة للنمو الإضافي لحبة بدائية أسماها لومايتر “ذرة بدائية”. وقد ولدت منه نظرية الإنفجار العظيم. بعد عقود من ذلك، تم تطوير نظرية الإنفجار العظيم بشكل كبير (والنسخة الأكثر شيوعاً اليوم هي نظرية الانتفاخ)، ومن خلال التحسينات المختلفة، اجتازت مجموعة متنوعة من الاختبارات الواقعية.

وقد أظهرت مراقبة واحدة، والتي فازت بجائزة نوبل للفيزياء عام 2011، أنه خلال السبعة مليارات الأخيرة لم يتم تمديد الفضاء فحسب، بل ازدادت سرعة التمدد. أفضل تفسير؟ نظرية الإنفجار العظيم تم تعزيزها بإصدار من ثابت الكوني الذي تم التخلي عنه منذ وقت طويل بواسطة أينشتاين. الدرس؟ إذا انتظرت طويلًا بما فيه الكفاية، فقد تتبين بعض أفكار آينشتاين الخاطئة.

إحدى التفسيرات المبكرة للنظرية النسبية العامة جاءت من تحليل قام به الفلكي الألماني كارل شوارزشيلد خلال خدمته في الجبهة الروسية في منتصف الحرب العالمية الأولى. وفي إحدى فترات الراحة التي أخذها من حسابات المدافع المحورية، قام شوارزشيلد بتوصيل أول حل دقيق لمعادلات أينشتاين، والتي أعطت وصفاً دقيقاً لتشوه الفراغ ذا الشكل الكروي الذي ينتج عن جسم مثل الشمس. وكنتيجة جانبية، كشفت نتيجة شوارزشيلد عن شيء غريب، وهو أنه إذا قمت بضغط أي شيء إلى حجم صغير بما فيه الكفاية –مثل ضغط الشمس إلى ثلاثة أميال عبر– فسيكون تشوه الفراغ المنتج مثيراً للغاية حتى يصبح من غير الممكن اقتراب أي شيء كان بما في ذلك الضوء، فهو سوف يبقى محصوراً. وبلغة علمية حديثة، كشف شوارزشيلد عن إمكانية وجود الثقوب السوداء.

في ذلك الوقت، كانت الثقوب السوداء شيئا غريباً ويبدو أنها كانت نزوة رياضية لا مجال لها للواقع. ولكن الرصد، وليس التوقعات، يحدد ما هو صحيح، وقد قامت البيانات الفلكية بتأكيد أن الثقوب السوداء هي حقيقية وعديدة. لا يمكن استكشافهم بشكل مباشر في الوقت الحالي، لكن كمختبريّ النظرية، فإن الثقوب السوداء لا غنى عنها.

ابتداءً من الحسابات النفيسة لستيفن هوكينغ في السبعينيات، أصبح الفيزيائيون أكثر اقتناعاً بأن الطبيعة المتطرفة للثقوب السوداء تجعل منها ساحة اختبارية مثالية لمحاولات دفع النظرية العامة للأمام، وقبل كل شيء، لمزجها بالميكانيكا الكمومية -انظر “اختبار الثقوب السوداء”، بقلم ديمتريوس بسالتيس وشيبرد دويلمان- في الواقع، فإن أحد أكثر القضايا نشاطا حالياً يتعلق بكيفية تأثير العمليات الكمومية على فهمنا للحافة الخارجية للثقب الأسود -البقعة الحدثية- وكذلك ب “كيف فعل آينشتاين ذلك؟ كيف ساهم لهذه الدرجة ذات الأهمية والدائمة؟ في حين يمكننا تجاهل آينشتاين كمصدر للكوبية أو الموسيقى الأتونال، إلا أنه هو السبب فيما نتصور أن شخصاً ما يمكنه، في خصوصية عقله، التفكير بجدية وكشف الحقائق الكونية. وكان آينشتاين اجتماعياً كعالم، لكن افكاره الكبيرة كانت لحظات انطباعية منعزلة.

هل نشأت هذه الأفكار لأن دماغه كان لديه بنية غير عادية؟ بسبب وجهات النظر الغير تقليدية؟ بسبب قدرته القوية والعنيدة على التركيز؟ ربما نعم على الأرجح.

في الواقع، بطبيعة الحال، لا أحد يعرف. يمكننا أن نقص قصصاً حول أسباب احتمالية كيفية وجود هذه الفكرة أو تلك الأفكار، لكن الحقيقة هي أن الفكر والتفكير يتأثر بالعديد من العوامل التي من المستحيل تحليلها.

تجنباً المبالغة، أفضل ما يمكننا قوله هو أن آينشتاين كان لديه عقل صحيح في اللحظة الصحيحة لحل مجموعة من مشاكل الفيزياء العميقة. وكم كانت هذه اللحظة عظيمة. تشير مساهماته إلى أن الوقت المناسب للنيازك الفكرية الخاصة التي جلبها للعلوم قد مر.

مع كل ما حققه والإرث المستمر الذي أثاره، هناك رغبة في السؤال عن سؤال مضاعف: هل يمكن أن يكون هناك آينشتاين آخر؟ إذا كان المقصود بذلك عبقري شامل سيدفع العلوم قدماً بقوة، فالإجابة هي بالتأكيد نعم. في النصف القرن الماضي منذ وفاة آينشتاين، كان هناك بالفعل علماء من هذا القبيل. ولكن إذا كان القصد من “عبقري شامل” هو الشخص الذي سيراه العالم ليس بسبب الإنجازات في الرياضة أو الترفيه ولكن كنموذج مثير للإعجاب لما يمكن تحقيقه من قبل العقل البشري، فربما لا.

  • ترجمة: سوسن العليوي
  • تدقيق لغوي: سفوك حجي
  • المصادر: 1