قراءة الأدب القصصي تساعد على تحفيز الفهم!

قيل أن: “القارئ يعيش ألف حياة قبل أن يموت”، من الممكن أن تكون هذه العبارة حقيقية وتنطبق على الكثيرين.

يقول الباحثون أن قرّاء الأدب القصصي، يتمتعون بوجهات نظر متنوعة وآفاق واسعة، كما يكونون أكثر انفتاحًا على الآخرين ومدركين لتجاربهم. وبفضل القراءة، فإنهم يتمتعون بمجموعة متنوعة من الأدوات والمهارات التي تمكنهم من تطوير العلاقات الاجتماعية وتعزيز التواصل بطرق مختلفة وإيجابية.

هل من الممكن أن يصبح العالم مكانًا أفضل إذا قرأ الأشخاص كتباً أكثر؟

بكل تأكيد، ربما من يقول إنّ للقراءة القدرة على إصلاح مشاكل العالم يمكن أن يكون تعبيره ساذجاً إلى حدٍّ ما، ولكن يمكن للقراءة أن تساهم في تعزيز التعاطف والسكينة في المجتمعات.

هناك مجموعة من الباحثين لاحظوا أن الأشخاص الذين يقرأون الأدب القصصي يتميزون بكونهم يتفهمون الآخرين بشكلٍ أفضل ويشاركون مشاعرهم بكلّ مرونة، وأيضًا يتقبلون الأشخاص الذين يختلفون عنهم.

هذا لأن الأدب القصصي يمثل اكتشاف لتجربة الإنسان، يقول كيث اوتلي روائي وأستاذ فخري في علم النفس المعرفي بجامعة تورنتو: “قراءة الروايات تمكننا من أن نصبح أفضل فعليًا في فهم الناس الآخرين وما الذي يخططون له”.

ويقول اوتلي: “تمكنك القراءة من التعرف بشكلٍ أفضل وأوضح على الشخص الذي ستتزوجه أو على صديقك المقرب”.

إنّ قراءة الأدب التخيلي، يتيح لك فرصة لاستكشاف عوالم مختلفة والتعرف على شخصيات متنوعة تعكس تنوع البشر، وهذا يساعد في فهم وتقدير الاختلافات بين الأفراد وفي توسيع آفاق الفرد لتصبح أكثر اتساعًا.

وجهات النظر فيما يخص التعاطف

لاحظ علماء النفس، أن العاطفة هي صفة فطرية تكمن في الإنسان، ويتجلى ذلك في سلوك الأطفال الرضع. لكن هناك بعض الأفراد يكونون بطبيعتهم أكثر تعاطفًا من الآخرين، إلاّ أن معظم الناس يصبحون أكثر تفهمًا وتعاطفًا مع تقدمهم في العمر.

بالإضافة إلى ذلك، تشير بعض الدراسات إلى أنه إذا كان لديك الدافع لزيادة مستوى التعاطف، فمن المرجح أنك ستتمكن من ذلك. وتتضمن بشكل كبير ممارسة السلوكيات الاجتماعية الإيجابية، مثل التعرف على الآخرين والتعاطف معهم، ووضع نفسك في موقعهم، ومواجهة الانحيازات المتعلقة بالنفس، والقصص، بما في ذلك القصص الخيالية، التي توفر وسيلة أخرى للانغماس خارج الذات واستكشاف العوالم الأخرى.

يتمتع الأدب القصصي بقدرة فريدة على أن يأخذك في رحلة عبر عقول الشخصيات الأخرى، ويتيح لك التجربة العاطفية والحسية لمشاعرهم وتجاربهم. فعن طريق هذه القصص، يمكن لنا أن نكتشف ظروف الحياة التي تختلف بشكل كبير عن واقعنا الحالي، وبواسطة الخيال، يمكننا أن نعيش حياة مختلفة، ونجرب الثقافات والأعراق والميول الجنسية والمهن وحتى الأعمار المختلفة.

من خلال الكلمات المكتوبة على الصفحات، نتعرف على تجارب قاسية مثل فقدان الطفل، أو تأثيرات الحروب والغزوات، وما يعانيه الأشخاص الذين يولدون في فقر مدقع، وحتى تجربة مغادرة الوطن والهجرة إلى بلد جديد. عندما نجتمع ونتعايش معًا، يمكن أن يؤثر هذا على كيفية تفاعلنا وتواصلنا مع الآخرين في العالم الحقيقي.

يقول ويليام تشوبيك، عالم نفس في جامعة ميشيغان:

“الخيال والقصص تفعل الكثير من الأشياء لأجلنا، إنها تعرضنا لأفكار غير مريحة، وتزودنا بفرصة الأخذ بمنظور الأشخاص الآخرين بطريقة آمنة. وعلى هذا النحو، الخيال يستخدم كفناء للتدرب على المهارات العاطفية”.

الرابط بين الأدب التخيلي والعاطفة

في عام 2006، قامت مجموعة من الباحثين بقيادة اوتلي بإجراء دراسة أثبتت وجود رابط قوي بين قراءة القصص الخيالية وتحسين أداء الأفراد في اختبارات التعاطف والفطنة الاجتماعية. هذه الاختبارات هي أدوات تقييم معترف بها وتستخدم على نطاق واسع في دراسة القدرات الاجتماعية للأفراد.

أجرى الباحثون اختبار للمشاركين لتقييم قدرتهم على التعرف على أسماء المؤلفين، وساعدهم هذا في تحديد مدى قراءة المشاركين للقصص. وبعدها، أكمل المشاركون مقياس التفاعل الاجتماعي، والذي يقيس مستوى التعاطف في عدة جوانب مختلفة.

وشاركوا أيضًا في التقييم لمقياس “عقل العيون” (the mind of the eyes)، وهو اختبار يهدف إلى قياس قدرة الأشخاص على استشعار وفهم الإشارات المرئية التي تعكس أفكار ومشاعر الآخرين.

في إطار هذا الاختبار، يُطلب من المشاركين أن يطابقوا الكلمات التي تصف الشعور بواسطة صور لعيون الأشخاص. (يمكنكم أخذ نسخة من الاختبار هنا).

وقد توصل الفريق إلى أن المشاركين الذين كانوا يعرفون مزيدًا من أسماء مؤلفي القصص وكانوا قد قرأوا مزيدًا من القصص، حققوا نتائج أفضل في اختبار التعاطف. واكتشفت النقطة المشتركة بين التعاطف والأدب التخيلي في هذا السياق، وظهرت هذه النقطة بين العلم النفس والأدب التخيلي.

بشكل عام، تشير النتائج إلى أن القراءة بحدّ ذاتها تسهم في تعزيز التغيير في الأفراد. ليس من الضروري أن يكون الأشخاص الذين يتمتعون بطبيعة تعاطفية أكبر، هم من ينجذبون إلى الأدب القصصي، ولا يعني أن قراءة الأدب القصصي يتطلب سمات شخصية محددة تجعل الأفراد قادرين على التعاطف بشكل أفضل.

وكما يقول اوتلي: “عندما نستبعد جميع هذه العوامل، وهذا بالضبط ما قمنا به في بحثنا، فإن الفكرة الأساسية لا زالت قوية، ألا وهي أن قراءة القصص تمكن الأفراد من فهم الآخرين بشكل أفضل”.

على مر السنين، أظهرت بعض الدراسات أن الأدب له تأثير أكبر على كيفية تواصلنا مع الآخرين بالمقارنة مع أي نوع آخر من الكتب.

على سبيل المثال، في ورقة بحث نُشرت في عام 2013 في مجال العلوم، أسند الباحثون مهمة القراءة للمشاركين سواء كانت الكتب ذات طابع أدبي قصصي، روايات خيالية، أو غير خيالية أو غير ذلك. بعد ذلك، قام الباحثون بقياس نظرية العقل للمشاركين، نظرية العقل تتعلق بالتعاطف وتشير إلى قدرتنا على فهم أن الآخرين لديهم معتقدات ورغبات قد تكون مختلفة عنا. وقد أظهرت النتائج أن الأشخاص الذين قرأوا الأدب الخيالي أظهروا تحسنًا أكبر في اختبارات التعاطف. وفي المقابل، أظهرت الدراسة أن الأشخاص الذين قُدِّمت لهم قراءة كتب غير خيالية أو كتب غير محددة لم يُلاحظ تحسنًا في درجاتهم في اختبار نظرية العقل.

وقد لاحظ الباحثون أيضًا وجود فارق بين الأدب التخيلي والأدب الروائي، والذي يمكن أن يشرح سبب الاختلافات في الدرجات للاختبار، فيتميز الأدب التخيلي بتركيزٍ أكبر على تطور الشخصيات وتطور القصة، حيث يعكس الشخصيات والمشاهد المصورة في هذا النوع من الأدب توقعات القارئ وتزعزعها.

وهناك أمثلة تقليدية عن الأدب التخيلي مثل رواية (Beloved) لطوني موريسن، أو رواية (Anna Karenina) ليو تولستوي.

في المقابل، يتميز الأدب الروائي، مثل الروايات الرومانسية لدانييل ستيل وروايات الجريمة والتشويق لجون غريشام، بالتركيز على تتبع الحبكة والأحداث المشوقة.

وهناك أيضًا نوع آخر من الكتب التشويقية الترفيهية التي تتبع قوالب ثابتة ومتوقعة. وعادةً ما تعمل هذه الكتب على تعزيز نظريات القرّاء وتلبية توقعاتهم بدلاً من تحدّيها.

هناك أمثلة قوية توضح تأثير الخيال على التعاطف، وتأتي هذه الأمثلة من الدراسات التي رصدت سلوك الأفراد تجاه المجموعات المهمشة.

على سبيل المثال، في عام 2014 أجريت دراسة أظهرت أن طلاب المدارس الابتدائية والثانوية في إيطاليا والمملكة المتحدة أظهروا زيادة في التعاطف مع المهاجرين، اللاجئين، والأشخاص المثليين بعد قراءتهم لسلسلة روايات هاري بوتر. وكانت هذه الدراسة بهدف التعرف على مدى تأثير القراءة على التعاطف.

وفقًا لتفسير الباحثين، يشير عالم هاري بوتر إلى وجود نظام اجتماعي صارم، حيث يتم تحديد مكانة الأفراد بناءً على معرفتهم وقدراتهم السحرية، وهذا يتناقض مع الواقع في عالمنا حيث لا يوجد قدرات سحرية واضحة لتحديد مكانة الأفراد فورًا.

في العام نفسه، أجرى فريق بحثٍ آخر دراسة، ولاحظوا أن الأشخاص الذين قرأوا رواية “Saffron Dreams”، وهي قصة خيالية تحكي قصة امرأة مسلمة من الشرق الأوسط كانت ضحية لهجوم عنصري في مدينة نيويورك، أظهروا تحيزًا سلبيًا أقل تجاه الأشخاص من أعراق مختلفة أو خلفيات قومية.

غير أن أن المشاركين الذين قرأوا ملخصًا فقط عن الكتاب أو قرأوا عمل غير خيالي لم يظهروا التغير المماثل في وجهات نظرهم. يشير ذلك إلى أن قراءة رواية معينة واستكمالها بشكل كامل تلعب دورًا مهمًا في تحقيق التأثير على وجهات النظر والتحيزات السلبية.

لاحظ اوتلي بالفعل أن الأشخاص المختلفين يبحثون عن مختلف العناصر في القصص. ومع ذلك، إذا كنت تبحث عن توصية، فقد ذكر أوتلي أنه لا يمكنك الخطأ في اختيار رواية (Pride and Prejudice).

وقد أشار اوتلي إلى أنه لا يجب استبعاد المذكرات، السير الذاتية، وبعض الأعمال التاريخية بشكل عام. ففي هذه الأعمال، يمكن أن تكون هناك قصص مؤثرة عن الناس وأوضاعهم، وهناك احتمالية أن تتردد أصداء هذه القصص وتترك انطباعًا دائمًا. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون لمشاهدة القصة في صورة فيلم تأثير مشابه على التعاطف مثلما يحدث مع الكتب.

لكن غير معروف كيف يتفاعل الناس مع هذه العواطف الإضافية التي تثيرها القراءة. ووفقًا لسارة كونراث، باحثة في كلية عائلة ليلي للأعمال الخيرية في جامعة إنديانا، “هناك نقص في البحوث المتعلقة بتأثيرات القراءة على السلوك الاجتماعي الإيجابي مثل العطاء والتطوع وتمدد المساعدة.”.

غير أن التعاطف هو أحد الحوافز الرئيسية للسلوكيات الإيجابية، وأعتقد بالفعل أن قراءة الكتب يمكن أن تساهم في تعزيز العطاء بشكل عام. ومع ذلك، كأي وسيلة إعلامية أخرى، فإن تأثيرها يعتمد بشكل كبير على المحتوى. على سبيل المثال، كتاب “Mein Kampf” الذي كتبه هتلر كان يشجع على الكراهية وليس له تأثير إيجابي على تعزيز التعاطف.

نهاية التعاطف

أحياناً يتم وصف التعاطف بأنه الغراء الذي يحافظ على تماسك المجتمع. ومن دونه من المحتمل أن يكون للبشر صعوبة في التقدم بشكل كبير. أجدادنا اعتمدوا على الاهتمام ببعضهم البعض كجزء من غريزة البقاء، مثل مشاركة الموارد ومساعدة المرضى والحماية من الخطر. وبالتأكيد أننا نحتاج للتعاطف للمضي قدمًا. ولكن في الوقت الحالي، وفي هذه اللحظة التاريخية بالذات، يمكن أن نشعر بأن التعاطف يعتمد على أساس غير مستقر.

في عام 2010، أجري تحليل تجميعي قامت به كونراث وأظهر أن معدلات التعاطف بين طلاب الجامعات انخفضت بشكل عام بين العام 1970 والعام 2000. تم قياس هذه المعدلات باستخدام اختبار معياري للتعاطف. خلال هذه الفترة، انخفض متوسط درجات “الاهتمام العاطفي” أو الشفقة تجاه محن الآخرين بنسبة 48%.

هذه النتائج تشير إلى تراجع التعاطف في المجتمع خلال تلك الفترة الزمنية، والأخذ بعين الاعتبار أو القدرة على تخيل وجهة نظر الآخرين انخفضت بنسبة 34%، وتقول كونراث أنها تعمل حاليًا على تحديث الدراسة في عام 2010.

من المعقول أن يكون من الصعب تحديد الأسباب المعقدة وراء هذا التغيّر في الإحصائيات. فهناك عوامل متعددة قد تلعب دورًا في ذلك، بما في ذلك التغيرات الاجتماعية والثقافية والتكنولوجية التي تؤثر على طريقة تفاعلنا وتعاطفنا مع الآخرين.

وفقًا لشوبيك، يُعزى السبب الشائع وراء انخفاض معدلات التعاطف إلى التحولات في أساليب التربية بين الأجيال، مثل التركيز المفرط على الإنجازات الشخصية والتأكيد الزائد على الثقة الذاتية. يقول النقاد إن هذه الاتجاهات تعرقل التعاطف، حيث يمكن للأفراد أن يتسامحوا بها ويكونوا أقل عرضة للتعاطف مع الآخرين. كما يُشير إلى أن تزايد وسائل التواصل الاجتماعي وتدهور التواصل الشخصي الهادف قد يلعبان دورًا في تقليل فرص التواصل الحقيقي وتبادل التجارب الإنسانية، مما يؤثر على قدرتنا على التعاطف وفهم الآخرين.

وقد لاحظ شوبيك أيضًا أن الأمور قد لا تكون بالضرورة كما تبدو ظاهريًا. يقول شوبيك:

“أن العواقب ستكون سلبية لهذه التغيرات وتغيرات الأجيال الحالية قد تكون مبالغ فيها قليلاً، وهناك حالة من الذعر الأخلاقي بشأن الشباب واعتقاد خاطئ بأنهم يصبحون أقل تعاطفًا أو أكثر نرجسية”.

يركز شوبيك على ضرورة التفكير بشكل أكثر توازنًا وإشاعة رؤية أكثر تفاؤلاً بشأن الشباب وقدراتهم على التعاطف والنمو الأخلاقي.

  • ترجمة: جيسيكا حموي
  • تدقيق علمي ولغوي: غفران التميمي
  • المصادر: 1