طفرة فيزياء الجسيمات التي مهدت لاكتشاف بوزون هيغز
كان اكتشاف “التيارات المحايدة الضعيفة” في مركز CERN لأبحاث فيزياء الجسيمات في أوروبا، قبل 50 عامًا، خطوة حاسمة نحو إنشاء النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات- وهي رحلة مستمرة حتى يومنا هذا.
يصادف شهر يوليو 2023 الذكرى الخمسين لأحد أعظم الاكتشافات التي حدثت في CERN -وهو مركز أبحاث دولي في فيزياء الجسيمات الدولي بالقرب من جنيف في سويسرا- ألا وهو اكتشاف التيارات المحايدة الضعيفة.
قدم الاكتشاف -الذي حدث بفضل تجربة في غرفة غارغاميل للفقاعات Gargamelle- دليلًا رئيسيًا على أن إحدى القوى الأساسية الأربعة المعروفة في الطبيعة، وهي القوة النووية الضعيفة، مرتبطة ارتباطًا لا ينفصل بقوة أخرى أشيع تُسمّى القوة الكهرومغناطيسية. فتح هذا الاكتشاف الباب إلى اكتشاف الجسيم الأولي بوزون هيغز في عام 2012- ولا يزال يكشف عن رؤى علميّة جديدة ومثيرة حتى اليوم.
يظهر تأثير القوة النووية الضعيفة بشكل أوضح في تحلل جسيمات بيتا الإشعاعية. كان فهم علماء فيزياء الجسيمات للتفاعل ما زال في مهده عندما تأسست CERN في عام 1954. في ذلك الوقت، كانت أفضل طريقة لدراسة المادة وعملها على أصغر المقاييس هي إطلاق حزم عالية الطاقة من الجسيمات على مكان الهدف وقياس ما ينشأ عنها.
في عام 1959، بدأ مسرّع البروتونات الدوراني التّزامني التابع ل CERN في العمل، وهذا ما أنتج حزمًا من أنواع مختلفة من الجسيمات، وفي أوائل الستينيات، بدأت التجارب هناك مع جسيمات خفيفة للغاية تُعرف باسم النيوترينوات- وإن كان ذلك بمنافسة شرسة مع مسرّع آخر متدرج متناوب وعالي الطاقة، يقع في مختبر بروكهافن الوطني في لونغ آيلاند في مدينة نيويورك. صنعت كلا من أجهزة CERN وBrookhaven حزمًا من النيوترينوات عن طريق اصطدام البروتونات بهدف ما لصنع جسيمات ثانوية مثل البيونات والكاونات والتي بدورها تتحلل منتجة للنيوترينوات (البروتونات والبيونات والكاونات كلها أنواع من الهدرونات، والمعروفة للفيزيائيين الآن على أنها مركبات مكونة من تكوينات مختلفة من جسيمات أولية تسمى كواركات).
أسفرت التجارب الأولية لدى CERN عن حزم منخفضة الكثافة بشكل مخيب للآمال، أمّا التجارب في مركز Brookhaven فقد أظهرت، في عام 1962، وجود نوعين على الأقل من النيوترينوات – أحدهما ينتج في التحلل مع إلكترون، والآخر ينتج مع ابن عم الإلكترون ذو الكتلة الأعلى، وهو الميون.
في عام 1961، اخترع الفيزيائي الهولندي “سيمون فان دير مير” جهاز تركيز يحيط بمكان هدف اصطدام الجسيمات يسمى “البوق المغناطيسي”، ساعد على زيادة شدة شعاع النيوترينوات. كان هذا نقلة لمختبر CERN. فقد أثبت اكتشاف التفاعلات الناتجة باستخدام غرفة الفقاعات طريقة واعدة بشكل خاص، حيث يمكن رؤية مسارات الجسيمات المشحونة المؤينة داخل هذه الغرفة كخط من الفقاعات عبر سائل شديد السخونة، ممّا دفع الفيزيائي الفرنسي أندريه لاغاريج إلى اقتراح غرفة فقاعات أكبر يبلغ طولها 4.8 متر- يطلق عليها اسم Gargamelle.
قبل وقت قصير من بدء عمل Gargamelle في عام 1970، وضع العلماء المتعاونون، ومقرهم في CERN وفي مؤسسات أخرى في بلجيكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة، قائمة بعشرة قياسات ذات أولوية. حققت أرصاد التجارب التي تحتوي على تيارات محايدة ضعيفة ثمانية قياسات فقط، وذلك لأن التجارب السابقة وضعت قيمًا منخفضة لاحتمالية حدوث الظاهرتين الأخيرتين.
حازت التيارات المحايدة الضعيفة على أهمية كبرى في الأوساط العلميّة بسبب دورها في نظرية الكهروضعيف، فقد نجح الفيزيائيون في وصف العمليات الكهرومغناطيسية من خلال نظرية الديناميكا الكهربائية الكمّية، التي تنص أن الجسيمات التي تنقل القوة الميكانيكية الكمّية هي من “البوزونات”، على وجه التحديد الفوتون العديم الكتلة المعروف. أراد الباحثون إيجاد نظرية كمّية مماثلة للقوتين النوويتين الضعيفة والقوية (القوة النووية القوية هي تلك التي تربط الكواركات معًا في الهدرونات)، وكانت الطريقة الواعدة للقيام بذلك هي الجمع بين التفاعلات الكهرومغناطيسية والتفاعلات الضعيفة في وصف موحد، مما جعل الباحثين يتنبّؤون بوجود ثلاثة بوزونات ثقيلة جديدة بالإضافة إلى الفوتون، هي المحايد Z0 والمشحونين بشحنتين مضادتين W+ وW−. وقد أدّت الآلية التي اقترحت للسماح لهذه البوزونات والجسيمات الأساسية الأخرى لاكتساب كتلتها؛ إلى إنتاج جسيم ثقيل إضافي بخصائص فريدة يُدعى بوزون هيغز. يمكن دمج هذه النظرية “الكهروضعيفة” الموحدة مع نظرية القوة النووية القوية -الديناميكا اللونية الكمية- لتشكيل ما يعرف الآن بالنموذج القياسي لفيزياء الجسيمات.
وفقًا للنظرية الكهروضعيفة الموحدة، هناك نوعان من عملية التيار المحايد، وذلك لأنها تتضمن بوزون Z0 المحايد، ويُطلق على نوعي العمليات هذه اسم (اللبتونية والهدرونية). نستطيع أن نميز بينهما في غرفة الفقاعات مثل Gargamelle. ففي العملية اللبتونية يكون دليلها عبارة عن ظهور إلكترون واحد عالي الطاقة بعد أن يصطدم بالنيوترينو (أو الجسيم المضاد، مضاد النيوترينو). في حين نرى دليل العملية الهدرونية في تفاعل النيوترينو مع النّواة في سائل غرفة الفقاعات، منتجًا وابلاً من الهدرونات.
في Gargamelle، التقطت صور لغرفة الفقاعات في كل مرة يمر فيها نبضة نيوترينوية وتحليلها بالعين المجردة، مع الإشارة إلى الأحداث التي يحتمل أن تكون مثيرة للاهتمام. كان من المتوقع أن يكون تواتر الأحداث اللبتونية منخفضًا للغاية– ما يعادل عددًا قليلًا من الأحداث في بيانات عام كامل. لكن تواتر العمليات الخلفية التي يمكن أن تحاكي هذا التفاعل كان أيضًا منخفضًا جدًا، مما يجعل هذه الإشارة الأكثر وضوحًا وتفسيرًا لعملية التيار المحايد، في حين تكررت الأحداث الهيدرونية بشكل أكبر، وتمت على خلفية أعلى بكثير ومربكة.
حققت Gargamelle في النهاية اكتشافًا رائعًا في ديسمبر 1972، حين اكتشف أول حدث ليبتوني، ممّا أعطى الفريق حافزًا أكبر لاكتشاف الأحداث الأخرى الهدرونية وتقييم معدلات الخلفية المتوقعة. لذلك، في ندوة عقدت في CERN في 19 يوليو 1973، قدم الدليل الأول لكلا النوعين من التيار المحايد الضعيف. ونشرت الأوراق الكاملة الخاصة بكل منها في دورية Physics Letters B في سبتمبر من ذلك العام.
كان هذا أول دليل مقنع على صحة نظرية الكهروضعيف. كان التحدي التالي هو إنتاج بوزون Z0 وإخوته المشحونين بوزونات W مباشرة، بدلاً من مراقبتها من خلال تأثيرها في العمليات الأخرى. كانت الخطوة الحاسمة، التي قادها الفيزيائي الإيطالي “كارلو روبيا” في عام 1976، هي إدراك أنه يمكن تحقيق ذلك من خلال تحويل مسرع بروتون عالي الطاقة بدرجة كافية إلى آلة لتصادم البروتونات والبروتونات المضادة. شهد مسرّع البروتونات الدوراني التّزامني التابع ل CERN أول تصادم للبروتون والبروتون المضاد في عام 1981. وفي عام 1983 –أي بعد عشر سنوات من ملاحظة التيارات المحايدة- أعلنت تجارب عُرفت ب UA1 وUA2 عن اكتشافات البوزونات W أولاً، ثم البوزون Z0. وقد تقاسم العالِمان “كارلو روبيا” و”سيمون فان دير مير” جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1984 عن دورهما في هذا الاكتشاف.
في ذلك الوقت، كانت الاستعدادات جارية في سيرن لبناء مصادم الإلكترون – البوزيترون الكبير (LEP) الذي يبلغ محيطه 27 كيلومترًا، فقد تم تصميم LEP لإجراء قياسات تفصيلية لخصائص بوزونات W وZ0 عن طريق اصطدام الإلكترونات بجسيماتها المضادة، وبدأ العمل في عام 1989. جمعت الأدلة التجريبية قطعة قطعة لدعم النموذج القياسي الحالي. تضمنت هذه الاكتشافات أنه يمكن أن يكون هناك ثلاثة، وثلاثة فقط، نيوترينوات خفيفة (أي شبه عديمة الكتلة) -تلك المرتبطة بالإلكترون والميوون، ونيوترينو آخر- لم يتم اكتشافها بعد، وهي مرتبطة بلبتون أثقل يدعى التاو. أظهر LEP أيضًا صحة التصحيحات الدقيقة للنظرية الكهروضعيفة، التي نُشرت في عام 1971، والتي اعتمدت بشدة على كتلة أثقل الكواركات الستة وعلى كتلة الكوارك العلوي وكذلك على كتلة بوزون هيغز. كان هناك توافق ملحوظ بين كتلة الكوارك العلوي التي تنبأ بها LEP والكتلة التي قيست في النهاية في عام 1995 بواسطة مسرّع تيفاترون- مصادم البروتون والبروتون المضاد في مختبر فيرميلاب بالقرب من شيكاغو، إلينوي.
في النهاية، كان آخر عنصر مفقود في النموذج القياسي هو بوزون هيغز. بحثت التجارب في LEP بنشاط عن الجسيم المراوغ، ولكن أصبح من الواضح أن هناك حاجة إلى مسرّع أقوى لإنتاجه. انتهت عمليات LEP في عام 2000، مما مهد الطريق لتركيب مصادم جديد للبروتونات في النّفق ذاته يُدعى مصادم الهدرونات الكبير (LHC). وأعلن عن اكتشاف بوزون هيغز في عام 2012 من خلال تجربتين لمصادم الهدرونات الكبير هما ATLAS وCMS، ومرة أخرى كانت كتلته المُقاسة في توافق ممتاز مع التوقعات.
هذه ليست نهاية القصة بأي حال من الأحوال، كان يُفترض أن النيوترينوات هي عديمة الكتلة في النظرية الكهروضعيفة الأصلية، لكن ظاهرة “الاختلاط” حيث يتحول نوع واحد من النيوترينو إلى أحد النوعين الآخرين، أثبتت عدم صحة ذلك. لا تزال تفاصيل كتل النيوترينو -التي يجب أن تكون صغيرة جدًا ولكن ليست صفرية- والطبيعة الدقيقة لهذه الجسيمات غير معروفة حتى الآن. سوف تقدم هذه المعلومات والتفاصيل بشكل أكثر ثراءً بعد تجارب شعاع النيوترينو من الجيل التالي المخطط لها في اليابان والولايات المتحدة. سيستمر أيضًا تحديث مصادم الهدرونات الكبير LHC حتى أوائل الأربعينيات من القرن الحالي، بهدف تحقيق تصادمات أكثر بعشر مرات مما يكون عليه في التصميم الأصلي.
حاليًا، تجري دراسة جدوى تفصيلية للمصادم الدائري المستقبلي في CERN، هذا من شأنه أن يكرر نموذج LEP-LHC في نفق يبلغ محيطه 90 كيلومترًا: أولاً، سيثبت مصادم إلكترون-بوزيترون لقياس كتلة بوزون هيجز والعمليات الكهروضعيفة بدقة أكبر؛ ومن ثم سوف يستكشف مصادم هدرون ظاهرة ذات طاقة أعلى، بما في ذلك إنتاج جُسَيمَين من بوزون هيغز في نفس الاصطدام، بمعدل أعلى بكثير من ذلك الذي تم الحصول عليه في LHC. يجب أن تكشف مثل هذه التجارب ما إذا كان أبسط وصف للنموذج القياسي لبوزون هيغز صحيحًا، أو إذا كان هناك بنية أكثر تعقيدًا له– وسوف تكشف هذه التجارب أيضًا سواء كان هناك أكثر من نوع واحد من بوزون هيغز، على سبيل المثال، أو ما إذا كان يتفاعل مع جسيمات أخرى غير معروفة.
قد يقدم هذا البرنامج أيضًا أدلة على طبيعة “المادة المظلمة” الكونية غير المرئية، والتي توجد بشأنها أدلة قوية من الملاحظات الفلكية. مثلما كانت قياسات LEP حساسة للكوارك العلوي وبوزون هيغز، فإن القياسات الدقيقة في المصادمات المستقبلية قد تكشف عن تأثير جسيمات أثقل غير معروفة حتى الآن. بعد خمسين عامًا من وضع Gargamelle لأسس التفاعلات الكهروضعيفة، وأيضًا النموذج القياسي، لا يزال أمامنا برنامج يمتد لعقود من العلوم الأساسية الوافرة.
- ترجمة: وجيه الشبعان
- المصادر: 1